لم يبق مكان في العالم إلا ووطأته أقدام يهودي عراقي، وأي مكان يحلون فيه تراهم يرتقون في المناصب، ويكرسون ريادتهم في التجارة ومختلف المهن. فقد تمكن اليهودي العراقي إدوارد شيلدون من الوصول إلى منصب وزير ونائب في البرلمان البريطاني، وكان آل ساسون من أهم تجار آسيا، وأصبح آل خضوري من أغنياء هونغ كونغ، وآل زلخا أصحاب أكبر شركة عالمية للوازم الأطفال، ومنهم رونيت زلخا مصممة الأزياء العالمية، ووصل اليهودي العراقي ديريك عزرا إلى عضوية مجلس اللوردات البريطاني، فيما يعود أصل وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إسحق موردخاي إلى أكراد العراق. هنا نظرة تاريخية موجزة عن الحضور اليهودي في العراق قديماً وحديثاً: بعد عهد بابل الذي أسس فيه اليهود مدارسهم ومعابدهم، وكُتبوا هناك معظم كتبهم، كان العهد الساساني، الذي افتتحه الملك أردشير العام 224، ضيقاً عليهم، فقد أمر "باضطهادهم وسمح للمجوس بتعذيبهم والتنكيل بهم". وحالتهم حسب نولدكه مع خلفاء أردشير كانت متقلبة. وكان لليهود آنذاك رئيس سياسي يدعى رأس الجالوت "يعد من أقطاب المملكة الفارسية وله الرتبة الرابعة بعد الملك". وظلت هذه الرتبة قائمة في العصور الإسلامية، التي تراوحت معاملة اليهود فيها بين التقيد بشروط الذمة، من توفير الحماية وحرية ممارسة الدين، طقوساً وشريعة، والتضييق الشديد عليهم، من فرض لباس خاص وتعاليم توحي إلى أن مواطنتهم من الدرجة الثانية. توقف التعامل مع لقب رأس جالوت خلال خلافة القادر بالله 381-422ه، إذ استفحل في أيامه شأن الأمراء واضطربت أحوال الخلافة واختل توجيه منصب رأس الجالوت، وكان آخر الرؤساء في عهد القادر الغاؤون شريرا. غير أن الخليفة المقتفي لأمر الله 530-555ه أمر لاحقاً بإحياء مراسيم رئاسة الجالوت وإعادتها إلى ما كانت عليه. يصف الرحالة اليهودي بنيامين، كشاهد عيان، مراسم استقبال رأس الجالوت من قبل الخليفة العباسي بقوله: "عندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير أمامه الفرسان من اليهود والمسلمين، ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: أعملوا الطريق لسيدنا ابن داود، ويكون الرئيس ممتطياً صهوة جواده وعليه حلة من حرير مقصّب، وعلى رأسه عمامة كبيرة تتدلى منها قطعة قماش مربوطة بسلسلة منقوش عليها شعار الخليفة، وعندما يمثل في حضرة الخليفة يبادر إلى لثم يده، وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة". يخبرنا بنيامين بالمعاملة الحسنة التي لاقاها يهود العراق في ظل الخليفة المستنجد بالله القرن السادس الهجري، قال: "في هذا القصر قصر الخلافة يعقد الخليفة العباسي الكبير الحافظ مجلس بلاطه، وهو حسن المعاملة لليهود، وفي حاشيته عدد منهم، وهو عليم بمختلف اللغات، عارف بتوراة موسى، يحسن اللغة العبرية قراءة وكتابة، وهو كذلك على جانب عظيم من الصلاح والتقوى، يأكل من تعب يديه، إذ يصنع الشال المقصب ويدمغه بختمه فيبيعه رجال بطانته من السراة والنبلاء فيعود عليه بالأموال الوافرة". واشتهر في ما بعد منهم اليهودي الموصلي سعد الدولة ابن كمونة في إدارة الشؤون المالية في عهد السلطان الإيلخاني أراغون، ومن نفوذه حسب ابن الساعي في "المختصر في التاريخ" أن أقنع السلطان على قتل مَنْ أهان اليهود بمحضر سطر ببغداد 689ه "كُتب فيه أعيان الناس يتضمن الطعن على سعد الدولة، ويتضمن آيات من القرآن وأخباراً نبوية: أن اليهود طائفة أذلهم الله تعالى، ومن حاول إعزازهم أذله الله عز وجل". لكن من أسوأ الحوادث التي تعرضت لها الطائفة آنذاك اتهامهم، عام 690ه، بقتل ملك التتار أرغون بن أبغا بن هولاكو بالسم "فمالوا عليهم بالسيوف فقتلوهم ونهبوا أموالهم". وفي عام 710ه تمثلت سلطة بغداد بإجراءات سلطان مصر الملك الناصر محمد بن قلاوون ضد أهل الذمة، فألبس حاكمها اليهود العمائم الصفراء والنصارى العمائم الزرقاء. وصف صاحب "نزهة المشتاق" وضع اليهود في العهد العثماني أنه "كان هنيئاً"، وشجعت هذه الحال دعوة يهود أوروبا للهجرة إلى البلاد العثمانية، وورد في رسالة اليهودي إسحاق زرقاني إلى يهود ألمانيا والمجر: "أن بلاد الأتراك أرض لا يعوزكم فيها إلى شيء، وإن شئتم وافتكم الأحوال وفق مرغوباتكم، فمنها تصلون إلى الأرض المقدسة سالمين، أوليس الأفضل أن تسكنوا في حكم المسلمين من أن تسكنوا في حكم النصارى؟ فإنكم تتمكنون هنا من لبس أفخر الأقمشة…يتمكن كل واحد هنا من الجلوس تحت كرمته وشجرة تينه". يفيد خبر انضمام عشرة آلاف يهودي إلى جيش السلطان مراد الرابع، وهو يتوجه إلى بابل، أن منزلة اليهود كانت كما قيل عنها "هنيئة"، لم يكن هؤلاء جنوداً عاديين بل كانوا "كتبة وسعاة ورؤساء جيش". وذكر سائح دنماركي أن 150 بيتاً من اليهود يعيشون بالموصل "بحرية تفوق الحرية التي لهم في أوروبة لكن من جانب آخر لا يجسرون على السير في الطرق في بعض مدن الأتراك إلا مضطرين هرباً مما يصيبهم من الإهانة من الأولاد". شكل "يهود العراق وحدة متجانسة، عكس الطوائف اليهودية، فلم تكن هناك هجرات يهودية إلى المنطقة عدا ما كان يأتي من فارس، وحتى موجة السفارديم، التي غطت الإمبراطورية العثمانية، وقفت عند أبواب العراق، وهذا ما أدى إلى محافظتهم على إمالتهم وتقاليدهم الحضارية مدة طويلة"، معروف، الأقلية اليهودية في العراق. حول ما يتعلق بالمشروع الصهيوني وإقامة دولة إسرائيل دعا السير أرنولد ولسن، وكيل الحاكم الملكي العام في العراق، وجهاء اليهود ليبشرهم بوعد بلفور. "رآهم واجمين، وقالوا له: إن فلسطين مركز روحي لنا، ونحن نساعد المعابد ورجال الدين فيه مالياً، لكن وطننا هذه البلاد، التي عشنا في ربوعها آلاف السنين، وعملنا بها، وتمتعنا بخيراتها، فإذا رأيتم أن تساعدوا هذه البلاد وتحيوا اقتصادياتها وتسندوا تجارتها وماليتها، فإننا نشارك في الرخاء العام". حينها استقبل يهود العراق، حالهم حال الطوائف الأخرى، الأمير فيصل بن الحسين ليكون أول ملك على العراق الحديث، فأقاموا له حفلاً خاصاً في 18 تموز يوليو 1921، وجاؤوا بالتوراة "مكتوبة على درج من الرق مصوناً في غلاف من ذهب". بلغ عدد اليهود في أنحاء العراق، حسب تقديرات بنيامين التطيلي، كالآتي: في خرائب بابل، حسب عبارته، عشرون ألفاً، ولهم كنيس منسوب إلى النبي دانيال، وفي الحلة يقيم عشرة آلاف، لديهم أربعة كنس، وفي الكوفة سبعة آلاف، وكان فيها قبر "يكنيه" ملك يهوذا حوله كنيس، وفي واسط عشرة آلاف، وفي البصرة عشرة آلاف، وفي منطقة نهر سمرة "المتاخمة لبلاد العجم" نحو 1500، حيث قبر عزرا العزير. وفي الأنبار الرمادي ألف شخص، وفي خوزستان أو الأهواز يقيم سبعة آلاف يهودي منطقة عراقية حتى عشرينات القرن العشرين، وكان فيها أربعة عشر كنيساً. وفي نفاحة يقال هي كفري 200، وفي الموصل وجزيرة عمر 4700 شخص، وفي العمادية يقيم خمسة وعشرون ألفاً من اليهود، وعند الخابور يقيم 1200 شخص. وورد عددهم حسب النشرة العثمانية الرسمية 1898-1899 في البصرة والناصرية والعمارة فقط خمسة آلاف نسمة. أما الإحصاءات العراقية الرسمية في القرن العشرين فأشارت إلى عددهم كالآتي: في 1920 بلغ عددهم 87488 نسمة، وفي 1930 120 ألفاً، وفي 1947 118 ألفاً. بعد قانون إسقاط الجنسية السنة 1950 تضاءل عدد يهود العراق الكلي ليصل إلى خمسة آلاف نسمة، كان يقيم معظمهم في بغداد. وحسب احصاء 1957 بلغ عددهم 4906 نسمة. وحالياً لم يبق منهم سوى بضعة أفراد.