على رغم سنواتها الخمس والستين وشعرها الأبيض الكثيف وخطوط التجاعيد العميقة التي باتت تغطي وجهها، لا تزال دايان كروميل تتمتع بحيوية ورشاقة بالغتين يزيد منهما مرحها الدائم وميلها الى المزاح والضحك بصوت عالٍ. وتنهض دايان يومياً هي وصديقتها بيفرلي بايتاغ التي انتقلت للعيش معها منذ مدة، فترتديان سراويل الجينز والأحذية والقبعات التقليدية التي تميز سكان ولاية تكساس الأميركية، وتبدآن يوماً طويلاً من العمل كراعيتي بقر. وعمل دايان وبيفرلي الذي يبدأ باكراً صباح كل يوم يتنوع بين تفقد السياج الالكتروني للمزرعة، وما إذا كان بعض قطعان الماشية قد علق به، وبين إطعام ورعاية ما لا يقل عن 300 بقرة وعدد من الأحصنة والثيران وبعض الحمير والقطط. هاتان السيدتان لم تكونا راعيتي بقر بالفطرة بل اختارتا ذلك بإرادتهما بعد أن أمضتا أكثر من ثلثي عمريهما في رعاية الزوج والأبناء والعائلة الى أن بات كل ولد مستقلاً بذاته، فقررتا أن تمضيا فترة تقاعدهما في تلك الحقول الخضراء الممتدة على تلال صغيرة محيطة بمنزلهما الخشبي الأنيق. كثيراً ما يستهوي هاتين السيدتين الأميركيتين التجول في المزرعة ورعاية الحيوانات التي تتوزع في حظائر مختلفة، فأصبحتا بذلك من أشهر رعاة البقر النساء في ولاية تكساس. ودايان هي الوحيدة من بين الورثة في عائلتها التي أظهرت اهتماماً بتربية الماشية، وهي عمدت الى شراء حصص أقاربها في المزرعة التي امتلكتها عائلتها منذ أكثر من مئة عام، وذلك قبل أن تصبح تكساس جزءاً من الولاياتالمتحدة الأميركية. لاحقاً دخلت دايان وبيفرلي في شراكة وأصبحتا تديران المزرعة وتعلمتا أموراً كثيرة لم تكونا تعرفانها عن هذه المهنة، واستحقتا عن نشاطهما جائزة ولاية تكساس المخصصة للمزارع التي لا تزال تنتج في شكل متواصل لأكثر من مئة سنة. انها حياة ريفية أميركية أليفة وتقليدية بالكامل مغايرة للوتيرة السريعة التي تعيشها مدن كبرى كشيكاغو ونيويورك مثلاً. ويزيد من وداعة الحياة في مزرعة هاتين السيدتين تلك الحقول الخضراء وتلك الحيوانات التي ترعى من عشبها، إذ تتجول قطعان البقر والماشية كما يحلو لها، ما عزز تلك الصورة التي اكتسبتها ولاية تكساس منذ تأسيسها في كونها الموطن التقليدي لرعاة البقر الأميركيين. وتكساس هي الولاية الأميركية الثالثة من حيث كثافة عدد السكان حسب احصاءات عام 2000، حيث يبلغ عدد سكانها نحو خمسة عشر مليون نسمة. ومن على التلال الخضراء في مزرعة دايان وبيفرلي التي تمتد على مساحة ثلاثة آلاف هكتار تلوح كروفورد، وهي مسقط رأس الرئيس جورج بوش والتي عاش فيها معظم طفولته ومن حين الى آخر إجازاته الرئاسية الرسمية. تشير دايان بيدها التي لم تضعف على رغم سنها الى مزرعة بوش وهي تقدم لضيوفها أطباق لحم الستيك على شرفة بيتها في شكل عادي لا يحمل الكثير من الشغف لكنه أيضاً بعيد عن اللامبالاة. ودايان وصديقتها بيفرلي وعلى رغم انهماكهما الكبير بالمزرعة تجدان بعضاً من الوقت لمتابعة الأخبار وما يدور من جدل في الولاياتالمتحدة حول الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي ينقسم حولها الأميركيون في شكل حاد وعميق لم يعهد مثله الناخب الأميركي من قبل. وعلى رغم توازن النسب بين المرشحين لا تزال نسبة أولئك الذين لم يتخذوا قراراً نهائياً حول مرشحهم النهائي مرتفعة واليها سيعود قرار حسم المعركة الانتخابية. تقليدياً تعتبر قاعدة الحزب الجمهوري متركزة في ولايات الغرب والشرق، فيما تتركز قاعدة الحزب الجمهوري في ولايات الوسط والجنوب. تكساس ولاية لها خصوصيتها فهي الى جانب اعتبارها الموطن التقليدي لرعاة البقر، فهي أيضاً مسقط رأس كبار أباطرة شركات النفط، الى جانب كونها موطن عدد كبير من رجال الأعمال والأثرياء. وغالباً ما يندرج على لائحة فوربس السنوية أسماء الأثرياء في أميركا والعالم، ومن بين هؤلاء أسماء كثيرة لشخصيات من هذه الولاية الجنوبية التي تتركز نشاطات شركات النفط والأعمال فيها بين مدينتي دالاس وفورت وارث. وفي شوارع هاتين المدينتين يمكن بسهولة لمس النكهة "التكساسية" للحياة، حيث يميل التكساسيون الى ارتداء قبعات رعاة البقر وأحذيتهم الجلدية الشهيرة وذلك خلال قيادتهم سياراتهم الفخمة أو خلال تناولهم العشاء في المطاعم والملاهي الليلية وحتى خلال تجوالهم في شوارع الولاية. في مطعم "بيلي بوب" الشهير بأنه أكبر بار في العالم، إذ يتسع لأكثر من عشرة آلاف شخص، يحتشد في أكثر من ليلة في الأسبوع آلاف التكساسيين للاستماع الى أشهر أغاني الcountry music وحيث يرقص عشرات الشابات والشبان الرقصات التقليدية الأميركية. وقرب هذا المطعم تقع ساحة رياضة "الروديو" التي لا تزال شعبيتها عالية في تكساس وتلاقي إقبالاً لم تضعفه المدينة الحديثة. ويعتبر التكساسيون أن ولايتهم هي بلد قائم بحد ذاته، وهم على عكس كثير من سكان الولايات الأخرى الذين ينتقلون الى للعيش في مدن ولايات أخرى بحثاً عن فرص عمل ومستقبل أفضل، نادراً ما يتركون تكساس للعيش في مكان آخر، وينسبون ذلك الى الشعور العام بالفخر بهذه الولاية التي يتحدرون منها، وهم يصفون مشاعرهم تجاه ولايتهم بأنها الفخر بالولاية أو State Pride. وعلى رغم النكات التي يتندر بها الأميركيون من ولايات أخرى على اللهجة الجنوبية الثقيلة لأهالي تكساس وعلى خلفيتهم المحافظة وثقافتهم الريفية الا انهم يجمعون على أن التكساسيين كرماء ويجسدون "تقاليد الأميركيين" في حسن الاستقبال والتبرع السخي بالمال لدى الحاجة. هذا ما تقوله أرقام التبرعات التي يقدمها أثرياء تكساس لكثير من مشاريع الولاية. ومن لا يستطيع التبرع بالمال فهناك الكثير من النشاطات التطوعية المعنية بالحراسة العامة أو رعاية ذوي الحاجات الخاصة والتي يقبل عليها كثيرون من شبان تكساس. لقد شهدت تكساس انطلاقة بوش السياسية منذ كان طفلاً، إذ كثيراً ما تباهى الرئيس الأميركي بدوره القيادي في مدرسة San Jacinto High School في ميدلاند حيث انتخب رئيساً لفصله. ولبوش قاعدة شعبية فعلية في تكساس عمل على تمتينها على مدى سنوات، فهو بنى علاقة قوية مع كبار رجال الأعمال وأصحاب شركات النفط ودخل في شراكة مع مجموعة منهم قبل أن يصبح حاكماً للولاية عام 1998 ومن ثم رئيساً للولايات المتحدة الأميركية عام 2000. وتمكن بوش من تعزيز وضعه المالي والشعبي مع أصحاب النفوذ في الولاية الذين ساعدوه في تمويل حملاته الانتخابية. وفي تكساس أيضاً تقع قاعدة فورت هوود العسكرية التي شكلت احدى القواعد الأساسية في انطلاق مجموعات مهمة من الجنود الأميركيين للمشاركة في العملية العسكرية في العراق. هذا كله ساهم في تركيز قاعدة فعلية لبوش في الولاية ما أشعر الرئيس الأميركي بأنه ضامن لأصوات أبناء ولايته. واليوم تكاد أن تغيب في تكساس الحملات الانتخابية التي تشهدها الولايات الأخرى، فالرئيس بوش مرتاح لشعبيته في مسقط رأسه، والديموقراطيون لا يملكون حضوراً لافتاً في الولاية، والجميع مقتنع بأن بوش لا يحتاج الى حملة انتخابية هنا، وأنه بالتأكيد سيربح المعركة فيها. هذا بالضبط ما تعتقده دايان وبيفرلي اللتان تتابعان ما يجري من تطورات حول العالم، خصوصاً في العراق حين تنهيان أعمالهما في مزرعة البقر. وتؤكد دايان انها ستدلي بصوتها في الانتخابات لمصلحة بوش، فهي تؤمن بنزاهته ومبادئه كما تقول، لكن في المقابل فهي ليست من المتحمسين بشكل أعمى للرئيس الأميركي، لكنه بالنسبة اليها يجسد قيماً تقليدية محافظة لا تزال دايان وكثيرون من أهالي تكساس يتمسكون بها. إنه الأفضل بالنسبة اليها لكن ذلك لم يحل دون نظرتها المرتابة بعض الشيء حيال ما يجري في العراق وخلفيات التدخل الأميركي فيه. ليس من السهل تحديد مصير الانتخابات الرئاسية المقبلة في أميركا لكن بات الجميع يدرك أن الوضع في العراق سيكون مفصلاً في تحديد أولويات الكثير من الناخبين المترددين على رغم شعبية بوش القوية. في الصيف الماضي أظهرت الاستطلاعات أن الأميركيين يهتمون بوضعهم الاقتصادي أكثر من اهتمامهم بالحرب، لكن الاستطلاعات الأخيرة أظهرت عكس ذلك. الرئيس المؤمن جورج بوش رجل مسيحي مؤمن بالانجيل ويمارس عمله السياسي كرئيس للبلاد انطلاقاً من هذا. صفات التدين والالتزام بالتعاليم المسيحية هذه ترد في شكل تلقائي في المرتبة الأولى لدى كثيرين من الأميركيين حين يتم سؤالهم عن بوش. وهذه الصفة بالذات هي ما بدأت به جودي بوك حديثها لدى سؤالنا لها عن رأيها بالانتخابات الرئاسية المقبلة في الولاياتالمتحدة. وجودي سيدة شارفت على الخمسين من عمرها وتعمل في مجلس العلاقات الدولية في فورت وارث في تكساس. وعدا عن عملها فهي لا تملك الكثير من الخلفية العلمية فهي أنهت دراستها الثانوية ولم تدخل الجامعة وأمضت معظم حياتها في تكساس حيث تزوجت وأنجبت وأصبحت جدة لأحفاد عدة. "أنا سيدة مسيحية محافظة وآرائي وقناعتي تنبع من ايماني وعقيدتي المسيحية ولهذا أنا معنية جداً بنتائج الانتخابات الرئاسية هنا في أميركا، وأنا أصلي يومياً كي لا ينجح المرشح الديموقراطي جون كيري في الانتخابات، فهو رجل يعمل ضد تعاليم الانجيل والدين المسيحي، أما بوش فأنا أعرف مبادئه في الحياة وأعرف من أين تنبع". ولا تخفي جودي قلقها من طروحات الحزب الديموقراطي، خصوصاً تلك المتعلقة بالإجهاض وزواج المثليين جنسياً، "ان الزواج رباط قائم بين ذكر وأنثى. أنا لست ضد المثليين جنسياً فهم يمكنهم أن يبرموا عقوداً تضمن لهم حقوق الميراث والملك لكن من دون الزواج أو الاجهاض فلا أفهم كيف يطالب أناس بالسماح بقتل روح لا تملك من أمرها شيئاً". ليس جديداً القول ان عامة الأميركيين قليلو الإطلاع والمعرفة بما يجري حول العالم الى حدّ كبير، وهذا الواقع لم يتغير بعد اعتداءات 11 أيلول سبتمبر. بل ربما ساهمت المعلومات السريعة وغير الدقيقة وأحياناً المنحازة التي طغت على تغطيات معظم وسائل الإعلام الأميركية في استمرار استغراق الأميركيين بهمومهم اليومية المحلية وبالتالي استمرار هذه الفجوة الشاسعة بينهم وبين شعوب وثقافات أخرى. انها براءة تصل الى حدّ السذاجة لدى تقويم التدخل الأميركي في أفغانستانوالعراق. وقد بدا مثيراً لاهتمام جودي أن تتحدث مع مجموعة من الصحافيين القادمين من الشرق الأوسط ومن أفريقيا حول قضايا ساخنة مثل العراق الذي تعتبر جودي ان تدخل الولاياتالمتحدة فيه هو لمساعدة العراقيين ضد صدام حسين "الشرير" وأنه كان الأفضل لو أن الدول الإسلامية هي التي تدخلت لحماية العراقيين. لكنها تأسف ان هذا الأمر لم يحدث ما اضطر الولاياتالمتحدة لأن تلعب هذا الدور. واللافت لدى الحديث مع جودي وغيرها من الأميركيين الموقف الحاد من الأممالمتحدة، فإذا كانت شرائح واسعة ومختلفة حول العالم تعتقد بأن واشنطن همشت المنظمة الدولية وبأنها تعرقل كثيراً من قراراتها فهناك في المقابل مجموعات من الأميركيين تحمل بشدة على الأممالمتحدة وتطالب بانسحاب واشنطن منها. فجودي مثلاً التي تملك وجهاً هادئ الملامح وصوتاً خفيضاً بعض الشيء ثارت في شكل حاد لدى طرح أي دور ما للمنظمة الدولية في العراق وصل الى حد قولها انها ضد الأممالمتحدة أكثر من فكرة أن تغزو دولة ما أميركا! وهذه الآراء تبدو انعكاساً للهجوم الذي كثيراً ما يطلقه سياسيون من الحزب الجمهوري ضد الأممالمتحدة وبالتالي فهو يجد صدى فعلياً لدى كثيرين في تكساس وولايات أخرى. وجودي التي دخلت في نقاش مع هؤلاء الصحافيين لم تتمكن من ضبط دموعها حين قال لها صحافي شاب من تركيا ان آراءك بريئة لكن القيادة الأميركية ليست كذلك، وشرع في انتقاد الدور الأميركي في العراق مشيراً الى مصالح أميركية سياسية ونفطية في المنطقة وكيف أن القيادة الأميركية تتصرف كغازية ومحتلة هناك. لم تتحمل جودي فكرة أن يكون لأميركا دور سلبي أو موقف خطأ، فانهمرت دموعها وأعربت عن خوفها من أن تكون أفكارها المثالية عن بلادها وقيادتها السياسية هي أفكار خاطئة، "إذا كانت تلك الأمور حقيقية فأنا سأكون خجلة ببلدي، آمل ألا تكون الأمور كذلك لكن لا أحد يعرف الحقيقة وأنا لا أثق بما تقوله وسائل الإعلام"! مثل هذا النقاش يصيب بيكي، وهي سيدة نحيلة رقيقة الملامح سريعة الحركة، ذكية وتمتلك حسّ النكتة بشكل كبير، بصداع. تعمل بيكي كمعلمة في احدى مدارس تكساس وهي من القلائل في تكساس الذين يعبرون عن آراء مغايرة للجو العام هناك. انها ديموقراطية وكذلك عائلتها وتعيش قلقاً فعلياً من أن يربح بوش في الانتخابات المقبلة. وتشير بيكي الى ما تقوله لطلابها الذين ينتمون في الغالب الى عائلات جمهورية محافظة، "أريدكم أن تقرأوا كتبكم المدرسية بجد وأن تجتهدوا كي تنجحوا وتتخرجوا من المدرسة وبعد ذلك أريدكم أن تطردوا الجمهوريين من تكساس"! تعليقات بيكي تفاجئ أحياناً تلاميذها، لكن شخصيتها الذكية والمرحة تستوعب بسرعة ارتباك بعض التلاميذ وتهربهم من مواجهة مثل هذه التعليقات. لكن حين يتجه الحديث نحو الدين تصبح بيكي أكثر جدية، فهي تعتقد أن المتدينين المسيحيين في أميركا ليسوا أقل تطرفاً من أي متطرفين آخرين في العالم، وأنهم باتوا ظاهرة متنامية تثير القلق. أشارت بيكي الى ما قام به معلمون في مدرستها أخيراً حين دعوا الى اجتماع لأداء الصلاة قبل بدء الدوام الدراسي، وهو أمر غير مألوف، خصوصاً في المدارس الرسمية. هذه الحادثة أثارت حفيظة بيكي التي تعتقد بأن الرئيس بوش يعمل على تغذية المشاعر الدينية في الولاياتالمتحدة لافتة الى مبادرة بوش الإيمانية غير المسبوقة من جانب الرؤساء الأميركيين، والتي تقوم على تعزيز دور الكنيسة من خلال دعم رسمي تقدمه الحكومة، ويتجسد بصرف أموال ومساعدات لمؤسسات دينية وكنسية ما خلق علاقة قوية بين بوش وكثيرين من قادة الكنائس الذين يزورونه باستمرار وبشكل دوري ويناقشون معه نشاطاتهم ودورهم، وهذا الأمر بارز أيضاً في تكساس حيث لبوش علاقة قوية بالمؤسسات الدينية الناشطة فيها، "ان التطرف بدأ يتحول الى ظاهرة هنا في مجتمعنا الأميركي، والانتخابات الرئاسية المقبلة هي من أغرب الانتخابات التي شهدتها أميركا. لقد تمكن بوش من وضع الناس في خانتين: قسم يحبه جداً وقسم يكرهه للغاية. هنا في تكساس وقبل أكثر من عقد لم يكن هناك حضور قوي للجمهوريين، لكن الآن الجميع هنا مع الجمهوريين وهذا يثير قلقي"!