أنقذوا هذا الرجل! انه يقف أمام أضواء التلفزيون زائغ النظرات متلفتا بعصبية يمنة ويسرة. وعندما ينظر الى الكاميرا يبدو مرعوبا ومضطربا، مثل غزال تفاجئه أضواء سيارة مقبلة. هكذا كان جورج بوش عندما القى ذلك "الخطاب الكبير" في السابع من الشهر الجاري، والذي قال مساعدوه انه سيشرح فيه للأميركيين لماذا عليهم الاستعداد للحرب على العراق. لم يكن منظره يبعث على الاطمئنان. وذكرني الموقف بما قيل قبل بضع سنوات عندما تسلم واحد من رؤساء الشرق الأوسط السلطة خلفا لأبيه، وعبّر كثيرون عن القلق من أن الرئيس الجديد الشاب قد يقع تحت سيطرة مساعدي الأب، الرجال الأكبر سنّا بمعرفتهم بأحوال العالم التي تفوق معرفته بكثير. لكن بشّار الأسد اعطى من البداية انطباعا "رئاسيا" يفوق ما نراه من جورج بوش الابن. التكساسيون لا يزالون يسمونه "الغصين"، أي ذلك الفرع الضعيف من الشجرة القوية التي كانها والده. انه وضع مخيف حقا. وليس للأميركيين وحدهم، بل للعالم أجمع، سوى الشعور بأشد القلق اذا كان بوش الأبن فعلا تحت سيطرة دونالد رامسفيلد وريتشارد تشيني وأجهزتهما السياسية المليئة بأنصار الليكود المحنكين. استحدث البروفسور جون ايكنبري من جامعة جورجتاون تعبيراً لوصف ما يحصل في السياسة الأميركية اليوم وهو أن الحكومة الأميركية تعاني من ال"لَكُوَدة". ورغم انني لم أسمع شرحا مفصلا لنظريته فان التعبير نفسه يدفع الى الكثير من التفكير. اذ بامكاننا، مثلا، أن نلاحظ النفوذ القوي ضمن الادارة الحالية لمساندين عنيدين لليكود مثل ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث، هذين "المدافعين عن الدولة" كما قدما نفسيهما في توصيات مكتوبة الى بنيامين نتانتياهو في 1996 - "الدولة" التي لم تكن بالتأكيد الولاياتالمتحدة. لكن الأفضل، بدل الاكتفاء بمعاينة هؤلاء الليكوديين، النظر في محتوى بعض سياسات بوش وتأثيرها في الحياة السياسية الأميركية عموما. هناك أولا بالطبع الاعلان عن استعداد أميركا لاتخاذ استراتيجية الاستباق كما طرحها "مبدأ بوش" المذاع على الملأ في 17 من الشهر الماضي. وكما لاحظ السفير السابق صموئيل لويس وآخرون فان أميركا توسلت مبدأ الضربة الاستباقية مراراً في الماضي، لكن الجديد في الأمر هو طرح ذلك علنا. "الضربة الاستباقية": انها بالضبط ما يهدد بوش بالقيام به تجاه العراق، وهي تأتي بالتبريرات نفسها التي يستعملها شارون عندما يشن غاراته الدموية على الفلسطينيين، حتى اذا لم يسبقها استفزاز فلسطيني. العنصر الثاني في "مبدأ بوش" هو الأحادية، وهو أيضا مشترك مع ممارسات ليكود عبر تاريخه. انه باختصار مبدأ البلطجة واذلال القوى الأخرى الذي استعمله شارون بنجاح في غالبية الحالات. وها هو بوش الآن يريد استخدامه للتعامل مع بقية العالم. ولكن هنا أيضا نجد أن العمل الاحادي ليس جديدا على السياسة الأميركية. وكان المؤرخ تشارلز مي تحدث في كتابه الرائع "الاجتماع في بوتسدام" عن اصرار الرئيس الأميركي هاري ترومان في الاجتماع الذي انعقد نهاية الحرب العالمية الثانية على معارضة مسارعة الحلفاء المنتصرين الى عقد مؤتمر السلام "لتقاسم الغنائم" اثر دحر النازية. وأوضح مي موقف ترومان بالقول: "اذا... كانت لديك أمة قوية وتتوقع لها أن تزداد قوة مستقبلا فانك ستمانع في حل المشاكل وتصبح في ما بعد ملزما بالاتفاقات التي توصلت اليها". انه بالطبع توصيف نموذجي لمبدأ ليكود وخطابه المعلن دوما. لكن الجديد حقيقة في طرح مبدأ بوش في 17 من الشهرالماضي هو انه المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس أميركي الاحادية أو التصرف المنفرد قاعدة لسياسة الولاياتالمتحدة، وأنه يطرح ذلك صراحة على كل دول العالم، وبينها دول كثيرة تفضل ان ترى نفسها مساوية للولايات المتحدة في الشؤون العالمية وليس مجرد تابعة لواشنطن. هذان اذن مظهران رئيسيان ل"لكودة" سياسة أميركا في ظل جورج بوش. لكن هناك اعتباراً آخر يبرز من خلال التناغم بين تأثيرات سياسة بوش في السياسة الأميركية عموما وتأثيرات سياسة شارون في اسرائيل خلال الأشهر ال18 الأخيرة، وهو أن سياسة بوش الجامحة نحو الحرب تظهر الديموقراطيين كالطرف الضعيف والمتردد في السياسة الأميركية، تماما مثلما أدت تكتيكات "البلدوزر" الشارونية الى اضفاء الضعف والانقسام والتردد على حزب العمل. اذا اخذنا وضع الحزب الديموقراطي في الشهور الأخيرة، لا بد من ان نضع في الاعتبار أن فكرة الهجوم على العراق تلقى حماسة كبيرة من التنظيمات الأميركية اليهودية ذات النفوذ القوي في أجهزة الحزب، وان الديموقراطيين في الوقت نفسه يأملون بأن انتخابات الكونغرس في الخامس من الشهر المقبل ستدور على الوضع الاقتصادي المتردي وليس الحرب. وكانت استطلاعات الرأي في آب أغسطس الماضي أظهرت الكثير من القلق تجاه احتمال الحرب على العراق. وبدا ان تحذيرات برنت سكوكروفت وغيره من الأطراف العاقلة في الحزب الجمهوري من احتمال تعثر العمليات العسكرية ستحول دون تركيز الجمهوريين على الحرب خلال الحملات الانتخابية. وقد ارتاح الديموقراطيون إلى ذلك، لأنه سيعنى عودة التركيز على الوضع الاقتصادي، خصوصا لجهة الفضائح المحيطة بشركات كبرى لها علاقات وثيقة طويلة العهد بكبار شخصيات الحزب الجمهوري، وعلى رأسها نائب الرئيس ريتشارد تشيني. من هنا برز بوضوح أن الجمهوريين قرروا أوائل أيلول سبتمبر الماضي أن الخيار الأفضل هو مواصلة التركيز على الحرب. والمعروف أن من السهل جدا على الرئيس، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، وضع قضية الأمن القومي في رأس الأولويات. ويأتي هذا في الوقت الذي تجمع المؤشرات على ان العسكريين لن يكونوا مستعدين لشن الحرب على العراق بالطريقة التي يريدونها الا بعد أسابيع عدة من انتخابات تشرين الثاني نوفمبر. هكذا انتقل الرئيس ومستشاروه بسرعة من الذكرى السنوية الأولى لضحايا 11 / 9 الى التصعيد العلني تجاه العراق. ورأينا بوش على شاشة التلفزيون في 11 أيلول الماضي وهو "يتعاطف" مع ذوي الضحايا. ثم رأيناه على التلفزيون أيضا في اليوم التالي وهو يؤكد للأمم المتحدة "التصميم" على التحرك ضد العراق. وأعلن بعد ذلك نيته الحصول على قرار قوي من الكونغرس في هذه الاتجاه... وصولا الى 17 من الشهر نفسه عند نشر التقرير الذي يحمل "مبدأ بوش" الجديد. لا غرابة اذن في شعور الديموقراطيين بأنهم أمام محدلة لا مرد لزخمها. وسمعت من ناشطين ديموقراطيين تكلمت اليهم في واشنطن بعد أيام على 17 أيلول أن التكتيك الوحيد في ذهن قادتهم للمحافظة على الغالبية في مجلس الشيوخ أو لأي أمل في الحصول على الغالبية في مجلس النواب، هو الموافقة بأسرع ما يمكن على طلب الرئيس اصدار قرار يفتح له باب الحرب، لكي يستغلوا الأسابيع القليلة الباقية قبل الانتخابات لتركيز أذهان الناخبين على الوضع الاقتصادي. انه بالطبع موقف لا مبدئي لخدمة غرض سياسي آني. ولكن لماذا نتوقع منهم غير ذلك؟ لنتذكر أيضا أن منظور الكثيرين من الديموقراطيين الى الحرب يتغير تماما عندما تكون لها علاقة باسرائيل، وليس فيتنام البعيدة. قرار الديموقراطيين بالاسراع في تلبية طلب بوش جاء لمصلحته أيضا. فقد تمكّن من خلاله حتى الآن من تجنب التساؤلات والنقاشات الجادة التي سادت أميركا قبل أن يحصل والده في 12 كانون الثاني يناير 1991، أي قبل ثلاثة ايام من انتهاء الانذار الدولي الى صدام حسين، على موافقة مجلسي الكونغرس على الهجوم. ثم سعى بوش الابن ومساعدوه الى كسب المزيد من الوقت عن طريق مواصلة النقاش مع أعضاء مجلس الشيوخ على صيغة القرار المطلوب، مما أدى الى تأخير صدوره بالسرعة التي أملها الديموقراطيون. وهكذا استمر التركيز على قضية الحرب فترة أطول مما أراد الديموقراطيون. مؤدى كل هذا ان الطريق يبدو مفتوحا أمام بوش والجمهوريين. وحاول آل غور في خطاب له اخيراً طرح بعض التساؤلات عن الحاجة الى الحرب، لكنه لم يكن المصدر المناسب للاعتراض، فقد أصبح بعد صمته الطويل منذ الانتخابات الرئاسية الماضية مثاراً للسخرية لدى غالبية الأميركيين. أما بقية زعماء الديموقراطيين، فقد انصاع قائدهم في مجلس النواب ريتشارد جيفهاردت بسرعة مخزية لمطلب بوش، فيما لم يقدم توم داشلي، قائد الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، موقفا واضحا من الحرب، وبدا دوما في حال من الضياع والتردد، اي انه لم يختلف كثيرا عن بيريز وبن اليعيزر في اسرائيل. مع ذلك تبقى مشكلة كبيرة عند مماثلة الوضعين الحاليين في اسرائيل والولاياتالمتحدة مثلما تفعل نظرية "اللكودة". وهي اننا مهما بالغنا في الخيال لا نستطيع المماثلة بين جورج بوش كفرد أو شخصية سياسية وارييل شارون، اذ شتان ما بين "غزالنا" المذعور أمام أضواء السيارة وشارون! لهذا ربما لنا بصيص من الأمل في "انقاذ" الرئيس بوش من اسار رامسفيلد وتشيني وبيرل وفيث ومن لف لفهم. ولكن من يمكنه ذلك؟ هناك بعض الأشخاص الذين يمكن ترشيحهم للمهمة، داخل الادارة وخارجها. اذ لا يزال في أميركا "الحقيقة"، خارج الأجواء السياسية المسمومة في واشنطن، كثيرون من المعارضين المبدئيين للحرب، وعدد أكبر من المشككين في حكمتها. والأرجح اننا لن نسمع نقاشاً جاداً في الكونغرس لأي من الشكوك والتساؤلات التي يطرحها هؤلاء، خصوصا بعد الضربة المشينة التي وجهها اللوبي الموالي لاسرائيل الى النائبة سينثيا ماكنّي. ولكن لا يزال هناك في اللحظة الأخيرة احتمال قيام بعض العقلاء في قيادتي الحزبين الرئيسيين، وبمساعدة من حلفاء أميركا القلقين في انحاء العالم، ب"انقاذ" جورج بوش من قبضة أنصار الليكود المتعطشين الى الحرب، وبالتالي انقاذ العالم منها. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.