"امرأة من هذا العصر" رواية العام 2004 للكاتبة السورية هيفاء بيطاردار الساقي، المثقلة بأسئلة المرض والسرطان وأمنيات الشاعر الجاهلي ابن مقبل "ما أطيب العيش لو ان الفتى حجرٌ"، تتقاطع مع أمنيات صاحبة سرطان الثدي في تحولها الى امرأة من رخام بارد وعقيم لا يعاني السرطان، بل يحول دون مساسه بالذرات الضعيفة والجينات الواهية في تسلله الصامت اليها والغدر بها. سرطان الثدي زلزال ومحنة ينتظر اشتعاله المراوغ والأخير قبل السقوط في استئصاله، ففي النهد يموج الوجد، وتضجّ الأنوثة، وتستكين الأمومة التي بالقوة والتي بالفعل ورحيله من مكانه يجعل الاطلالة تنكسر، وتهرب من طعم الحياة الى شيخوخة بغرف كثيرة تتداعى وتنهدم بأسوار وحدتها. قبل الوداع، وقفت صاحبة الثدي أمام المرآة تتأمل جروحها القادمة والآثار التي ستنحفر وتعرض عنها نظرات الشهوة والتيقظ والعبور، وكل وجوه الرجال الذين تعاوروا وما سألوا: أيّ حزن ينهش امرأة تشتاق الى ذكريات حلّ محلها الغياب والظلمة التي تواطأت مع السرطان لتهدّ الروح وتعزلها في سجن بغير قضبان. وإذ قررت حاملة سرطان الثدي ان نهاية ثديها هي نهاية الرجل في حياتها شعرت بالاشمئزاز أكثر مما شعرت بالخوف، بعد ان أيقنت ان الرجل الذي يبحث عن المغامرات وكثرتها لن يحب امرأة بثدي واحد. وفي غرفة العمليات امتلأت البطلة بالغثيان، اذ رأت وجوهاً كثيرة حركها الواجب لا الحب، فتعالت فوق الوجوه وقالت ليس أروع من العيش بلا غاية ولا انجازات ولا هدف. وإذ تغربت البطلة عن ذاتها بعد أن أحسّت انها تسقط من جرف الى جرف راحت تسأل: "هل أنا ضحية التركيز الاعلامي على الجنس كقيمة عليا تثبت لي اني متحررة ولديّ شهوة للحياة؟ لِمَ أحسّ بالكره لرجل أسلّمه جسدي بغير حب، وهل أن من لم يصادف الحب في حياته مكتوب عليه ان يعيش في قحط انساني؟" هل العناية بالجسد الأنثوي هي ما يؤجج الكره في روح البطلة التي ما ان تلتقي بمن ينتظرها وتحلم بأنه سيمسح على وجهها بحنان، حتى تفاجأ بقبضتيه القويتين تكشفان عن فجاجة عبدٍ لشهواته، يراوغ أداته قبل ان تهرب من متعه الميكانيكية والملحة يشبعها على فراش الخداع! أي طبيعتين مختلفتين، لا تشبهان الأكرتين اللتين تحدث عنهما أفلاطون في بحث الواحدة عن الأخرى لتكتمل بها، وتعيد اليها بهاءها. فالحب الذي جعله أفلاطون فضيلة الفضائل هو قرابة تشدنا الى الموجود الذي نود معرفته ونشده الينا بحيث ننتهي بالاتحاد معه. ففي حوار المأدبة تنقل العرّافة ديونيما الى سقراط ما أخذته من علماء بابل والشرق الأقصى عن أسرار الحب في شكل يشبه تلقين المريد في التصوف أسرار العارفين ومراتب المعرفة. ومن هذه المراتب الزهد بالشهوات والتطهر منها للانتقال الى جمال الروح، والسكنُ اليها! فالحب هو الرغبة التي تهيب بالانسان لاجتراح المعجزات اجلالاً للآخر الذي يسعى لامتلاكه. هذه المعجزات إذ تغيب في رواية هيفاء بيطار، تحضر عوضاً عنها زجاجة أحضرتها البطلة وتركت لصاحبها ان يصبها في كأسين لعلّ شرخاً هائلاً يردمه الشراب أو النشوة. وكان على هيفاء بيطار تذكر بدر شاكر السياب إذ قال: "من ضاجع العربية السمراء لا يلقى خسارة" أو تذكر ما قاله خليل حاوي بكثير من المرارة: "كلٌ يعاني سجنه جحيمه في غمرة العناق"! فأنّى لامرأة تلهث وراء من تيقنت انه يعبث بها ويلهو ان ترقى الى مرتبة "بينيلوب" في الأوديسية التي ظلت عفيفة متأبية على رغم تيه أوديسيوس وشروده في البحار عشر سنوات بعد اشتراكه في حرب طروادة عشر سنوات، عاد منها ليجد ان كفن أبيه بين يدي بينيلوب، كان الذريعة التي بها صرفت بينيلوب عشاقها، إذ خشيت ان ينتهي نسيج الكفن، وبنهايته تكون نهايتها! فلو أن هيفاء بيطار عادت الى فن الهوى لأوفيد لقرأت فيه نصيحة قديمة "أيتها الفتيات حسبكن حبٌ مرحٌ لا عناء معه. فالنساء لم يخلقن لرمي السهام النافذة ولا لقذف الشعلات الحارقة، ولو انهن فعلن فنادراً ما ينلن من الرجال". فالرواية اذ تحتج بامرأة هذا العصر، فإنما تحتج بآليات العصر وتقنياته وعولمته بغير ان ترى الى انسانه، وبغير ان تعتبر ان جاسون هجر ميديا بعد أن أنجب منها، وبعد أن قتلت أباها وأخاها لتهديه ملكهما غير آبهة بعاطفتين لها: عاطفة البنوة والأخرى الأخوة، حتى بلغت من حقدها على خيانة جاسون لها ان قتلت أبناءها لعلها تنتقم بالأبناء من جاسون، وتدمر سلالة له قبل ان تخونها! فميديا اذ صعقت أفلاطون وبعده أرسطو في كتاب "فن الشعر" خالفت قوانين الطبيعة، وكفرت بأمومتها. ان "امرأة من هذا العصر" فاتتها قراءة حسرات العصور الغابرة إذ حكاها أوفيد وقال: "واأسفاه لزمن يعرّينا نحن الرجال ولأيام تطحننا ويساقط شعرنا تساقط الأوراق عندما تهزّ ريح الشمال الغصون، على حين تصبغ المرأة شعرها وتضفي عليه بفنها ما يفوق هبات الطبيعة، وتختال تحت ثقل جدائل ليست لها، لأن الجدائل منها ما تكاد تذوي حتى تبتاع لها بديلاً من شعر صبية، بحيث يُباع الشعر ويشترى بلا خجل على مرأى الملأ". أي حاجة للحب الى حواشي الثياب المطرّزة؟ والى سير النساء محملات بمدخراتهن فوق الأبدان؟ أي حاجة للحبيب ان ترفل الساعية اليه بثوب فيروزي هو هدية من عاشق سابق أو من واهبٍ دفع ثمن ثوب لقاء حاجة نالها بغير حب أو عاطفة أو وجد أو شوق؟ فنساء هذا العصر إذ يخشين من عطن "الجدي الريفي" يلحق بالإبطين منهن، أو من شعيرات خشنة تسلبهن نعومة السيقان، هنّ النساء اللواتي يحنّ أصحابهن الى بشرات غير مكسوة بالمساحيق التي تخفي عيوب الوجنات أو شحوبها، أو ذهاب نضارتها. لم يعد لامرأة من هذا العصر هوية، أو سحر هو لها لا لسواها، إذ صارت الواحدة تحاكي الأخرى، وكأنها نسخة لا أصل لها. وإذ تعود هيفاء بيطار ببطلتها المريضة لتسأل بعد كثير مغامرات فاشلة: ألم تملّي الحزن؟ تتذكر طلاقها من زوجها وإحساسها بجسدها الغائب، واستعادة أزمتها وكأن الحياة تصفعها كل صباح. فهي إذ قررت ان ترتاح وتريح بعدم المواجهة، نهض في نفسها سؤال كررته مرات واعتذرت به أخرى: لماذا لا أنهار وأستسلم؟ وإذا بجوع الجسد يذل صاحبته ويلحّ عليها حتى تضطر الى تخفيفه بإمتاع نفسها ولو مهزومة ومنكسرة وضعيفة، وكأن هيفاء بيطار كما بطلتها تنكر ان اشباع الجسد يمتهن الروح ويعذبها، إذ يضيف الى وحشتها وحشات أعظم، والى جروحها جروحاً لا نبل فيها ولا عزاء! "امرأة من هذا العصر" رواية سريعة تقتنص لحظات لا فرادة فيها، ولا تميز" ولو أن صاحبتها حاولت ان تجعلها رواية امرأة بورجوازية تشف عن التعاطي إلا مع الأطباء والمهندسين، أو تستغل خادم المطعم لتطفئ فيه شهوة، لم يعلم الخادم انه وقودها. هذه الرواية المفعمة ب"الأنانية" هي رواية تلجأ الى كثير من نساء العصر "الأميات والجاهلات" اللواتي بلغن الخمسينات بغير ان تتعاطى الواحدة منهن عملاً أو تتقاضى أجراً إلاّ ما أنعم به عليها بعلها لسدّ بعض حاجياتها الضرورية، تأتيهن البطلة ليمتدحن "حريتها" أو "دخلها" الذي حررها من عبودية الرجل واذلاله. هي "بطلة" تجعل من نفسها فلكاً، ومداراً وتنسى ان لكل ذات "مدارها وفلكها"، كما تنسى ان لكل امرأة من هذا العصر عالمها المراوغ، والآخر الصادق، والآخر الخائن، والآخر الأمومي، والآخر المثقل بحميميات ينغلق عليها ولا يبوح بها! وإذ تأتي هيفاء بيطار الى النهاية من روايتها، تصعقنا ب"مجانية انسانية" تفتعلها البطلة إذ تقرر الانصراف للعناية بشابة تشبهها بغير ان تكون اياها، هي شابة طلّقها زوجها ليقترن بأخرى بعد أن أصيبت بالسرطان، واضطر الجراح ان ينتزع لها ثديها، ليترك المرض يفتك بالعظام ويتعجل بموتها وعظمة آلامها. فالبطلة التي من هذا العصر إذ تنزلت عليها "رحمة السماء" استعاضت باعضائها المقطوعة بأخرى ليست لها، كما استعاضت الصحيحة بأخرى مصابة تقارب الشلل، وكان لها من عذاب غيرها عزاء وصحة تتخفف بهما من مرضها، وتسعى الى بدائل أخرى، حاملة العصفورين اللذين أهدتهما لآمال ثم استعادتهما بعد غيابها الأبدي، لتقدمهما لأخرى تطفح بالموت، وتجعلها تفيض بالحياة. "امرأة من هذا العصر" كتاب "ذرائع" لا أصالة فيه، ولا تفرّد، ولا خصوصية، إذ ان هيفاء بيطار جعلت امرأتها "نتاجاً اعلامياً"، وكأن المرأة هي وعاء فارغ يمتلئ بالدعايات، والدعابات، والألوان، والثقافات الهجينة، والأخرى اللقيطة، والأخرى المريضة، بحيث لا يقع المتلقي على "امرأة صحيحة أو رجل معافى" ولو ان الخيار البورجوازي وقع على المثقفين الساعين جميعاً الى لذات عابرة، وعلاقات شهوانية أسرع عبوراً! إن عالماً يحتاج الى كثير انسانية، وكثير حب، هو عالم لا تكون فيه "الأنا" مبتدأ الحنين ومنتهاه، وانما "الآخر"، عليلاً كان أو غير عليل، أمياً كان أو مثقفاً، بورجوازياً كان أو بروليتارياً! "امرأة من هذا العصر" رواية استغرقها زمن كتابتها، من دون ان يستغرقها زمن مغاير للكتابة هو "زمن الابداع والابتداع والاختلاف"