أجمل توصيف للوضع العراقي، ما أورده ماكس بوت، الباحث البارز في مجلس العلاقات الخارجية الاميركي، إذ شّبه حال العراق بحكاية الفيلم الشهير "سرعة" speed 1994، الذي يضع فيه إرهابي متفجرات في باص ويوقتها لتنفجر إذا هبطت سرعة الباص الى دون المئة كيلومتر في الساعة. وهكذا تضطر الممثلة ساندرا بولوك وبقية أبطال الفيلم الى العمل تحت ضغط هذه السرعة الخطرة، لمحاولة حل هذه المشكلة الكارثية. وجه الجمال في هذا التشبيه يكمن في دقته. فالعراق يسير الآن بالفعل في سرعة كبيرة. وأي تباطؤ في هذه السرعة، سيعني إنفجاره المحتم، سواء في شكل حرب أهلية مدمّرة، أو في صورة "حروب الآخرين" التي لن تنتهي على أرضه، أسوة بتلك الحروب التي ضربت لبنان بين 1975 و1989. لكن مهلاً. الى أين يندفع العراق بمثل هذه السرعة؟ هنا ثمة رأيان متناقضان تماماً: الاول يرى أنه ينطلق نحو نهاية سعيدة عبر الخروج من نفق الفوضى والاستبداد والاحتلال، والثاني يحذّر من إندفاعه نحو الهاوية. الرأي الاول تلقى الاسبوع الماضي حقنة تشجيعية قوية في العضل بفعل تطورين إثنين: - وصول تصدير النفط العراقي الى المستويات التي كان عليها قبل الحرب، من خلال إنتاج 2.3 الى 2.5 مليون برميل يوميا، الامر الذي سيضيف نحو 14 بليون دولار الى الخزينة العراقية الجائعة. وفي الوقت ذاته، عودة التيار الكهربائي الى مستويات ما قبل الحرب أيضا. هذا ما دفع الحاكم المدني الاميركي بول بريمر الى الاسراع الى التلفزيون لزف النبأ الى الشعب العراقي. هذان التطوران كانا مفاجئين بالفعل. فكل المؤشرات السابقة كانت تدل على أن إنتاج النفط، الذي يشّكل الدخل الاساسي للاقتصاد العراقي، سيتأخر شهوراً عدة بسبب الاضطراب الامني، والفساد البيروقراطي، وتجّمد تقنيات الانتاج العراقية في حقبة الستينات. وقل الامر نفسه عن شبكات الكهرباء التي شكّل إنقطاعها المتكرر مشاكل إقتصادية وإجتماعية وصحية خطيرة ل25 مليون عراقي. وبالتالي فإن عودة النفط والكهرباء على هذا النحو السريع، أنعش آمال العراقيين بأن إقتصادهم سيكون قادراً قريباً على الاقلاع. - إقرار الدستور الموقت الجديد. وهذا أيضا شكّل مفاجأة سارة أخرى. إذ أثبت ان العراقيين كما قال بريمر عن حق قادرون على ممارسة الديموقراطية بصفتها حلاً وسطاً، تقبل فيه كل الاطراف الا تحصل على مئة في المئة من مطالبها. وهذا ما تضمنه الدستور: حلاً وسطاً حول دور الاسلام في الدولة، حيث يكون واحدا من مصادر التشريع لا كلها على الا يصدر أي قانون يناقض مبادئه العامة. حلاً وسطاً حول السلطة التنفيذية في شكل مجلس رئاسي يتكّون من رئيس شيعي ونائبين سني وكردي ويتخذ قراراته بالاجماع. وحلاً وسطاً حول درجة الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق. بيد أن الاهم كان الحل الوسط بين العلمانية والطائفية وفي التركيبة العراقية، الدين يعني الطائفة. فقد تبنى الدستور الموقت الذي يقع في 62 بندا، تقسيمات للسلطة عبر توزيع هذه الاخيرة على المذاهب والاعراق. لكنه تبنى أيضا 14 بنداً حديثاً ليبرالياً على شكل لائحة حقوق، تضمن حماية حقوق الانسان وضمانات لحرية التعبير والتجّمع والدين والمساواة امام القانون، وتمثيل المرأة بنسبة 25 في المئة على رغم ان هذا بند غير ملزم، ومساواة الجنسين أمام القانون، والفصل بين السلطات، وإخضاع العسكر للمدنيين. افتراضات وتمنيات عدنان الباجه جي عضو مجلس الحكم وصف هذا التوازن بأنه "لا مثيل له في هذه البقعة من العالم. فهو لا يعكس فقط الاتفاق على العديد من جوانب المجتمع العراقي الاوسع، بل هو أيضاً وثيقة تتطلع الى المستقبل" . والحال أن العديد من العراقيين يعلقون آمالهم الآن على مستقبلية هذه الوثيقة بالتحديد، ويراهنون على ان البنود الليبرالية الحديثة في الدستور الموقت، ستنجح في النهاية في تطوير الانتماءات الطائفية والمذهبية الضيقة الى هوية وطنية عراقية. ووجهة نظر هؤلاء تستند الى إفتراض وتمن. الافتراض يقوم على أن وجود آية الله علي السيستاني على رأس الاسلام السياسي الشيعي العراقي، وعلى رغم تحفظه على الدستور الموقت يمكن أن يكون نعمة بالنسبة للديموقراطية لا نقمة عليها. فالرجل من أتباع آية الله الراحل الخوئي الذي كان يرفض رفضاً قاطعاً نظرية الخميني حول ولاية الفقيه وتدخل الدين في السياسة. وهو منحاز الى إسلام يبدو معتدلاً الى درجة دفعت أحد رجالاته، وهو ممثله في البصرة سيد علي عبدالكريم الصافي الموسوي، الى الاعلان بأنه "يجب أن يكون الناس أحراراً في تقرير إذا كانوا سيتناولون الكحول أو إذا كانت النسوة سيتحجبن. وهذا يجب ان يحدث، حتى ولو إقترع العراقيون الى جانب إقامة دولة إسلامية". أما التمني فهو أن يكون الاسلام الشيعي، حكيماً بما فيه الكفاية ليضع غلبته المذهبية العددية في خدمة الوطنية العراقية لا العكس. وهذا يعني أن مصير العراق الجديد سيكون معلّقا على الخيار الذي ستنحاز إليه الغالبية الشيعية: الطائفة أم الوطن فصل الدين عن الدولة أم إغراقه في دهاليزها، وأخيراً التعاطي الديموقراطي الجديد مع القضية الكردية ام الانحياز مجددا الى الحلول التوتاليتارية القديمة. ويبدو واضحاً ان لهذا التمني سنداً قوياً. فشيعة العراق أثبتوا مراراً أنهم عراقيون أولا، وعرب ثانياً، ثم شيعة ثانياً. وهكذا، وفي وقت مبكر من القرن العشرين، قامت التيارات السياسية الرئيسية في العراق، وعلى رأسها التيار الشيعي بثورة عارمة العام 1920 ضد البريطانيين، تم خلالها تدشين ولادة الوطنية العراقية بالحديد والنار. ثم تكرر الامر نفسه خلال الحرب العراقية الايرانية 1980 - 1988 حين فاجأ شيعة العراق إخوتهم في المذهب شيعة إيران بموقف لم يتوقعوه، مشكلين الجسم العسكري الاساسي الذي قاتل الجيوش الايرانية. وبالطبع، من يضع مثل هذه الاولويات الوطنية، لا يكون مستعداً لاقامة دولة مذهبية مستقلة أو حكماً ذاتياً كالاكراد، ولا لتحويل نفسه الى امتداد لايران في العراق. أما الافتراضات التي تقول عكس هذا فلم تكن أكثر من ذلك: أي مجرد إفتراضات. أو هذا على الاقل ما يقوله كتاب جديد أشرف على تحريره فالح عبد الجابر بعنوان: "آيات الله والصوفية والايديولوجيات في العراق". الذي تضمن الافكار الرئيسة الآتية: تطور الشيعية في إيرانوالعراق خلال القرون القليلة الماضية، أظهر وجود سياقين مختلفين بشكل راديكالي لتشكّل المجتمعين. فالسكان الايرانيون أصبحوا شيعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أعقاب تأسيس السلالة الصفوية العام 1501. ومنذ ذلك الحين أصبح الاسلام الشيعي هو دين الدولة الرسمي عدا حقبة قصيرة إحتل خلالها الافغان السّنة أصفهان العام 1722. وفي المقابل تشكّل المجتمع الشيعي العراقي من اواسط القرن الثامن عشر فما فوق، والسبب كان صعود دور النجف وكربلاء كمعقلين للشيعة في بلد كان من ممتلكات العثمانيين السّنة. ثمة إختلافات كبيرة بين شيعة العراقوإيران في مجال الطبيعة التنظيمية. فالشيعية الايرانية تمّيزت بشكلها التنظيمي الرفيع. والدين كان هو اللحمة التي حافظت على تماسك إيران لقرون عدة بضغط من الرأي العام الايراني. اما شيعة العراق، فتميزوا بعدم وجود مصالح بين العلماء والطبقات التجارية في مجتمعهم. فالتجار الشيعة لم يشكّلوا، كما في إيران، الهيكل العظمي للمؤسسة الشيعية. وهذا ما مكنّ الدولة السنّية من عزل الاسواق الشيعية المهمة في بغداد عن التأثير الفعال للعلماء الشيعة، ومن وضع الاوقاف تحت سيطرة الدولة. هناك تباينات عميقة بين الطرفين في كيفية ممارسة الشعائر الشيعية، ما يعكس وجود فروقات ثقافية وإجتماعية، والاولياء مشتركون بين رجال القبائل الشيعة والسّنة في العراق، والشيعية العراقية أكثر واقعية بكثير من مثيلتها الايرانية. إقامة الدولة الحديثة وصعود القومية، عزز هذه الاختلافات بين الدين والمجتمع الشيعي في إيرانوالعراق وباعد الى حد كبير بينهما. ولعبت اللغة العربية والفارسية دوراً مهماً في تعزيز هذا الشقاق، خصوصاً بعدما أدار العديد من شيعة إيران ظهرهم للغة العربية. شيعة العراق لم يفكروا يوماً بالانفصال عن العراق والاندماج بإيران. كل ما كانوا يطمحون اليه هو الحصول على مداخل الى السلطة في بغداد، في دولة سيطرت على مقاليد الامور فيها أقلية سّنة منذ العام 1921. ويفترض ان تقود هذه الاعتبارات الى بناء عراق جديد يستند الى الوطنية العراقية لا الى الانقسامات الطائفية والقبلية والتقسيمات العرقية. وهذه في الواقع مسألة حاسمة الى استقرار العراق وفق أسس متينة وراسخة. فعراق مقسّم، عمليا، الى وحداته الطائفية والاثنية، سيكون ليس فقط وصفة مضمونة لانفجار لاحق، بل أيضا مقدمة لنشوء حركات اصولية إسلامية وقومية، إحتجاجا على هذا التفتيت المناقض للغريزة الوحدوية التاريخية في الشرق الاوسط العربي. هذه نقطة. وثمة نقطة ثانية لا تقل اهمية: العراق الجديد سيكون نموذجا لكل منطقة الشرق الاوسط. فإذا سار العراق على طريق التفتيت والانفجار، ستلحق به حتما كل المنطقة. وهذا سيشكّل بؤرة ممتازة تترعرع فيها شتى انواع الاصوليات المتطرفة. هذه وجهة نظر أصحاب الرؤية المتفائلة. فماذا عن الرؤية المتشائمة؟ يقول أصحاب الرؤية الثانية أن الخطر كل الخطر في ما يجري الآن يكمن في إعادة إنتاج نسخة من النظام الطائفي - العشائري اللبناني في العراق. لماذا؟ لأن هذه برأيهم ستكون وصفة لحروب أهلية دائمة. فحين تكون موازين القوى، لا الموازين الوطنية، هي الحاكم فلا مناص من الصدامات الدموية، في كل حين تختل فيه هذه الموازين. هذا ما حدث في لبنان منذ العام 1860 وحتى الآن: حرب اهلية تمهّد لحرب اهلية شقيقة لها. وحين تغيب الحروب الاهلية بين الطوائف، تنشب داخل الطوائف نفسها. ويضيف هؤلاء: لا يجب أن ننسى هنا وجود مخطط إسرائيلي لتفكيك المنطقة العربية الى قبائل وعشائر، وإعادة رسم خريطة المنطقة على هذا الاساس. وهذا بات سراً معروفا تبحّر مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة مركزه في واشنطن والقدس المحتلة في شرح تفاصيله منذ العام 1997، وفق المحاور الرئيسة الآتية: 1- مستقبل العراق سيحدد الشرق الاوسط العربي برمته. فالمعركة للهيمنة على هذا البلد وإعادة تعريفه، ستحدد مصير موازين القوى في منطقة الهلال الخصيب على المدى البعيد. 2- الولاياتالمتحدة ما تزال منهمكة بالسعي لتحقيق سلام عربي - إسرائيلي شامل، من دون الأخذ في الاعتبار التنافسات الاستراتيجية الاقليمية والطبيعة المنهارة للدول العربية. يجب على الغرب القطع تماماً مع هذه السياسة والاعتماد بدلاً من ذلك على موازين القوى. 3- القيام بهذه الخطوة سيسّهل على الغرب إمكان إقامة تحالفات قبلية عشائرية عائلية في كل منطقة الشرق الاوسط. وهذا ما سيسمح بإقامة دول عربية جديدة على هذا الاساس القبلي العشائري. "عفريت" الفيديرالية ويبنى أصحاب الرؤية المتشائمة على هذا التوّجه الاميركي- الاسرائيلي لاتخاذ موقف حاد من الحلول الفيديرالية الراهنة في العراق. فهم يعتبرون أن ثمة عفريتا يرافق شبح الفيديرالية القومية إسمه فيديرالية التفتيت أو التجزئة الطائفية. ويعترف هؤلاء بأن الشبح الفيديرالية صيغة إخترعها الفقهاء الدستوريون كحل وسط بين الانفصال بالقوة أو الاندماج بالقوة. وهي بالتالي تشكّل مخرجاً حضارياً مقبولاً للعديد من الشعوب التعددية، كالولاياتالمتحدة وسويسرا وألمانيا وبلجيكا وغيرها. بيد أنهم يشددون على أن "العفريت" الفيديرالية الطائفية لعنة او تهمة لا تجر وراءها سوى الدمار والخراب والحروب الاهلية. إنها ليست حلاً وسطاً بين أي شيء، بل هي إعلان صريح عن رفض العيش المشترك، وعن الرغبة في الانفصال بالقوة عن الغالبية. لكن هل عفريت التجزئة ملازم بالضرورة الى شبح الفيدرالية؟ ليس بالضرورة. لكنه يكون كذلك حين تطرح الفيديرالية كصيغة لتقسيم كيان غير قابل أصلا للقسمة. فالحديث عن الفيدرالية في العراق بين العرب والأكراد، هو منطق معقول. إذ ان هذين العنصرين يشكلان قوميتين منفصلتين، وبالتالي من رابع المستحيلات ان يتمكنا من توليد دولة أمة واحدة أو بسيطة وفق التعبير الدستوري. والأدلة على هذه الحقيقة تكاد لا تحصى: من الحروب الاهلية المتصلة في العراق الحديث الذي تشّكل في عشرينات القرن العشرين، الى فشل كل المحاولات لادماج الاكراد او تعريبهم. وفي تركيا المجاورة تجربة مماثلة. فقد رفض الاتاتوركيون الاعتراف بعرق منفصل أسمه الاكراد، واطلقوا على هؤلاء أسم "أتراك الجبال". والحصيلة كانت أيضاً حروباً أهلية مديدة، سواء كانت ساخنة او باردة. الفيديرالية هنا تشكّل حقا مخرجاً ممتازاً. فهي تلغي التوجهات المتطرفة لدى العديد من الاطراف الكردية العراقية للانفصال التام عن الوطن الام، أو لدى العديد من الاطراف العربية لادماج الأكراد بالقوة. وهي تقّدم، في الوقت ذاته، حلا وسطا معقولا بين كردية الاكراد وعراقيتهم. لكن تطبيق هذا المبدأ على السنّة والشيعة العراقيين أي تطبيق الفيديرالية الطائفية، لن يقود سوى الى تنصيب العفريت زعيما على السياسات العراقية. وهذا للأسباب الآتية: التقسيم هنا سيتم في داخل عرق واحد العرب، وأحيانا في داخل القبيلة الواحدة، حيث أن العديد من القبائل العراقية تتضمن سنة وشيعة. وهذه التجزئة ستتناقض بندا ببند مع الموروث التاريخي والثقافي للسنة والشيعة. فهؤلاء عرب ومسلمون وعراقيون، ثم في النهاية سنة وشيعة. وجعل الانقسام الطائفي الاساس في التركيبة السياسية الجديدة، لن يفعل شيئا سوى وضع عربة التاريخ امام حصان الجغرافيا. وأخيراً، الفيديرالية الطائفية كارثة محققة بحق الوطنية العراقية نفسها، قبل العروبة أو الاسلام. إذ كيف يمكن بلورة مثل هذا الانتماء الوطني الحديث، فيما الدستور والقانون يشجع على تطوير الهويات الطائفية والعشائرية ما قبل الحديثة؟ قد يقال رداً على هذه الاسباب أن الفيدرالية الطائفية، هي الرد الوحيد على النظام التوتاليتاري الصدامي الذي حاول دمج عناصر الشعب بالقوة. كما قد يقال أيضا ان الفيديرالية الطائفية اللبنانية لم تمنع تبلور الديموقراطية وحتى نمو شكل من أشكال الوطنية اللبنانية. بيد ان هذا مجرد لغو. فالرد على الديكتاتورية الصدامية لا يكون بإختراع ديكتاتوريات طائفية تسجن الفرد والدولة في قوقعتها، بل بنظام ديموقراطي يتوّحد فيه السنّة والشيعة العرب في أطر حزبية ونقابية ومؤسسات حديثة، تكون مرتبطة أيضا بأطر حديثة عربية في الخارج. وهذا يعني أن الفيديرالية في العراق يجب أن تكون حلاً للمشكل العربي - الكردي، لا خلقا لمشكل عربي - عربي. وما لم تسر الامور على هذا النحو، فيمكن التوقع من الآن بأن عراق المستقبل سيعيش على برميل بارود قابل للانفجار دوما. من على حق؟ أي وجهتي النظر على حق: المتفائلة أم المتشائمة؟ الثانية! إذ ليس ثمة حتى الآن أي دليل تاريخي في المنطقة العربية يشير الى إمكان تطّور الديموقراطية الحديثة من رحم الطائفية ما قبل الحديثة. وليس أيضاً ما يشير الى ان الانتماءات المذهبية المنغلقة، يمكن في يوم ما ان تشكّل هوية وطنية منفتحة. هذا بالطبع ناهيك عن الحقيقة بأن الانتماءات العشائرية والمذهبية تشّكل عائقاً ضخماً أمام قيام الدولة الحديثة. هذا لا يعني أن ما يجري الآن في العراق لا يتضمن أية إيجابيات. فالدستور الموقت، وإدخال مبدأ الحوار والحلول الوسط الى ساحة العمل السياسي، والتنازلات المتبادلة، كلها مكاسب لا ريب فيها. بيد أنها، وكما الدستور الموقت، ستبقى مكاسب موقتة وتنازلات موقتة أيضاً، ما لم تولد نخبة عراقية قادرة على بلورة هوية وطنية عابرة للمذاهب، وعلى تغليب البنود التحديثية الليبرالية في الدستور على البنود التقليدية المذهبية والطائفية. وفي حال برزت هذه النخبة سريعاً، سيكون في الوسع التأكد من أن القطار العراقي المسرع، لا يتوجه نحو هاوية، بل الى محطة الامن والسلام والازدهار