الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    منتخب المغرب يستعرض قوته بخماسية في شباك الجابون    منتخب مصر يعلن إصابة لاعبه محمد شحاتة    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    ابن جفين: فخورون بما يقدمه اتحاد الفروسية    شولتس يؤكد أن موقف ترامب من أوكرانيا «أكثر تعقيداً» من المتوقع    رتال تختتم مشاركتها كراعٍ ماسي في سيتي سكيب بإطلاق حزمة مشاريع نوعية بقيمة 14 مليار ريال وتوقيع 11 اتفاقية    القوات الجوية السعودية تختتم مشاركتها في معرض البحرين الدولي للطيران    بعثة الاخضر تصل الى جاكرتا استعداداً لمواجهة اندونيسيا    جدة تشهد أفراح آل قسقس وآل جلمود    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    القمر البدر العملاق الأخير    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    قادة الصحة العالمية يجتمعون في المملكة لضمان بقاء "الكنز الثمين" للمضادات الحيوية للأجيال القادمة    جامعة أم القرى تحصد جائزة أفضل تجربة تعليمية على مستوى المملكة    المملكة تواصل توزيع الكفالات الشهرية على فئة الأيتام في الأردن    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    الذهب يواجه أسوأ أسبوع في 3 سنوات وسط رهانات على تباطؤ تخفيف "الفائدة"    النفط يتجه لتكبد خسارة أسبوعية مع استمرار ضعف الطلب الصيني    جامعة أمّ القرى تحصل على جائزة تجربة العميل التعليمية السعودية    بحضور وزير الخارجية.. اللجنة الوزارية السعودية الفرنسية تجتمع في باريس لتطوير العلا    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    الاعلان عن شكل كأس العالم للأندية الجديد    موقف ريال مدريد من ضم ثنائي منتخب ألمانيا    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    جرائم بلا دماء !    الخرائط الذهنية    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    «خدعة» العملاء!    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    «السوق المالية»: تمكين مؤسسات السوق من فتح «الحسابات المجمعة» لعملائها    لماذا فاز ترمب؟    علاقات حسن الجوار    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    في أي مرتبة أنتم؟    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    استعادة التنوع الأحيائي    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    مقياس سميث للحسد    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تبحث عن علاقات عربية إقليمية أكثر تماسكا إزاء التدخل الخارجي مصر تعيد رسم دورها الإقليمي ضمن محور الارتكاز مع السعودية وسورية
نشر في الحياة يوم 02 - 02 - 2004

يثير دور مصر الإقليمي جدلاً يتجدد من وقت إلى آخر. وكثيراً ما يتركز الاهتمام على حجم هذا الدور أكثر من نوعه وطبيعته وفاعليته. وغالباً ما ينصب التركيز على الدور العربي عبر سؤال متكرر عما إذا كان يتراجع وإلى أي مدى.
ومن الطبيعي أن يثار هذا الموضوع مجدداً في لحظة يشهد فيها العالم العربي، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، تحولات كبرى. فهذه المنطقة هي الأكثر ديناميكية في العالم الراهن بعدما طال ركودها، خصوصاً على مستوى نظم الحكم والمجتمعات في معظم دولها. فقد بدأت أيادٍ خارجية تمتد الى داخلها بالإحلال والتغيير، الأمر الذي فرض تحريك بعض ما لم يكن ممكنا تصور انتقاله من وضع السكون إلى الحركة.
الحرب الباردة العربية
فأي دور تلعبه مصر في هذا السياق وبأي حجم؟ هذا هو السؤال الذي يثار في كثير من المنتديات، خصوصاً من زاوية محددة تعبر عن وجهة نظر مفادها أن هذا الدور تراجع أو تقلص. ولكن الحديث عن تراجع أو تقدم في أي سياق ينطوي على مقارنة بالضرورة، لأن أياً منهما لا يظهر إلا نسبة إلى متغير آخر. وغالباً ما تكون هذه المقارنة في حالة مصر زمنية بين الدور الراهن وما كان عليه في فترة سابقة هي عقدا الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
والمقارنة عبر الزمن لها قواعدها التي قليلا ما تراعى عند الحديث عن دور مصر الإقليمي. فلا يمكن إجراء هذه المقارنة من دون حساب كل ما حدث من تغير في العالم والمنطقة على مدى نحو نصف قرن. وهذه فترة جد طويلة تجعل المقارنة عبر الزمن شديدة التعقيد. ولذلك فالمقارنة الأكثر جدوى في قياس الأدوار الإقليمية هي التي تجري بين الفاعلين الرئيسيين في كل مرحلة، أخذاً في الاعتبار العناصر المميزة للتفاعلات الإقليمية والتي يحدث فيها تغير من مرحلة إلى أخرى.
كان أهم ما ميز عقدي التحولات الشاملة في العالم العربي، والشرق الأوسط عموما، في خمسينات وستينات القرن المنصرم هو حدة الصراع على القيادة الإقليمية. وقد حصلت مصر في تلك المرحلة على هذه القيادة عبر صراع عنيف مع الدول العربية الرئيسة كلها تقريباً إن بالتزامن أو بالتتابع. تحالفت مصر مع سورية ضد العراق ثم ضد المملكة العربية السعودية. وأعقب ذلك خوض صراع ضد سورية "الانفصالية" ومواصلة الصراع ضد السعودية والتحالف بدرجة أو بأخرى مع عراق عبدالسلام ثم عبدالرحمن عارف. كانت هذه مرحلة الحرب الباردة في العالم العربي، كما في العالم والنظام الدولي. ازداد دور مصر الإقليمي في تلك المرحلة عبر الصراع لا التوافق. ولم يكن هذا الدور مقبولا من معظم أقطاب النظام العربي الرسمي في أي وقت، كان دوراً تبشيرياً وإعلامياً أكثر منه سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً.
ولكنه كان منسجماً مع طبيعة مرحلة تصاعد فيها خطاب التحرر الوطني والاجتماعي في عالم قسمه الصراع في قمته الى كتلتين كان لهما امتدادهما بدرجة أو بأخرى في مختلف الأقاليم.
تحولات كبرى
لكن هذه المرحلة بدأت في الانحسار عقب حرب 1967 مباشرة. كانت مصالحات قمة الخرطوم العربية في آب أغسطس من العام نفسه نقطة تحول باتجاه مرحلة جديدة في تطور النظام العربي الرسمي تزداد فيها مساحة التعاون والتوافق مقارنة بمساحة الصراع. في تلك المرحلة ظهرت ارهاصات الدور المصري الراهن الذي تأجل تبلوره الكامل الى مطلع العقد الماضي. كما وضعت بذور التعاون المصري - السعودي - السوري الذي حقق الإنجاز العسكري والاقتصادي الكبير في حرب 1973، ثم تعرض لانتكاسة وصلت الى ذروتها في أزمة كامب ديفيد 1978 - 1979، وعاد ليكون بمثابة محور الارتكاز للنظام العربي الرسمي الذي هزته الغزوة العراقية للكويت من أعماقه.
كان النظام العربي الرسمي في أشد الحاجة إلى محور ارتكاز يحفظ تماسكه في لحظة بدا فيها مهدداً بالانفراط. وتميز هذا المحور بأن دوله الثلاث تكمل إحداها الأخرى كقاعدة عامة يجوز فيها الاستثناء. ولذلك يصعب تقويم دور مصر الإقليمي الآن بعيداً عن محور الارتكاز الثلاثي هذا ودوره الإقليمي.
كان هذا المحور، ومازال، هو صمام الأمان بالنسبة إلى النظام العربي الرسمي. لم يكن ممكناً لهذا النظام أن يحقق هدفه المعلن في قمة الخرطوم 1967، وهو إزالة آثار العدوان، من دون تعاون أطرافه الثلاثة هذه التي خاضت معركتي الحرب والنفط في العام 1973، كما كان صعباً للنظام العربي أن يتماسك في أزمة 1990 - 1991 من دون توافق هذه الأطراف. ولذلك كانت هذه الأزمة هي التي أعادت بناء محور الارتكاز الثلاثي الذي انكسر في أزمة كامب ديفيد التي باعدت بين مصر وكل من السعودية وسورية، فاضطرت القاهرة الى الدخول في تحالف مضطرب مع بغداد كمدخل الى استعادة دورها العربي. كانت الفترة من 1978 إلى 1988 هي التي حدث فيها تراجع حقيقي في دور مصر الإقليمي بكل المقاييس. وعلى هذا النحو جاء تحالفها المرتبك مع عراق صدام حسين اضطراريا قصير الأمد بطابعه.
كانت مصر تبحث عن استعادة دورها العربي انطلاقاً من سياسة تهدف الى تدعيم عناصر التوافق والاستقرار في النظام الإقليمي، فيما كان عراق صدام حسين قد تحول الى ما يطلق عليه في دراسات النظم الإقليمية "القوة المراجعة"، أي تلك التي تريد إعادة النظر في أسس النظام الإقليمي أو انتزاع قيادته بالقوة، على نحو ما كانته مصر من قبل، مع فرق جوهري لا يغيب عن أي مدقق. فقد انطلقت مصر عبدالناصر من رؤية قومية لم تنقصها سعة الأفق. ولذلك حرصت على ألا تقود الضغوط التي مارستها على قوى عربية أخرى إلى تعريض النظام العربي الرسمي الى خطر جسيم. كما أنها لم ترفع السقف كثيراً في أكثر لحظات الصراع العربي - العربي احتداما. بل قامت بدور مغاير لاتجاهاتها الثورية المراجعة، عندما تبنت سورية سياسة جامحة اعتباراً من العام 1963 وصلت إلى ذروتها عقب انقلاب شباط فبراير 1966، كما اصطدمت مع العراق بعد انقلاب تموز يوليو 1968، وتعرض رئيسها في ذلك الوقت لحملات إعلامية عنيفة شنتها عليه بغداد. وكان مما أدهش عبدالناصر أن يصعد صدام الى موقع الرجل الثاني في العراق في العام 1969، وهو الذي كان يرى فيه "ولداً طائشاً وبلطجياً" وفق روايتين متطابقتين على الأقل. ولذلك كان طبيعياً أن يتحطم التحالف المصري - العراقي فور نشوب أزمة 1990، وأن يعاد تأسيس محور الارتكاز الإقليمي العربي بأطرافه الثلاثة الرئيسة في غمار هذه الأزمة.
ونجح هذا المحور في احتواء تداعيات الانقسام في أزمة 1990 - 1991، وإن لم يتمكن من تجاوزها. كما نجح في تأمين توافق عربي واسع خلال الجهود السلمية التي استهدفت تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي خلال العقد الماضي الذي بدأ بمؤتمر مدريد 1991، وإن لم يتمكن من ضمان حد أدنى من العدل في هذه التسوية التي لم تتحقق.
ولكن أهم ما تميز به، ولا يزال، هو إرساء قواعد إيجابية لإدارة العلاقات بين أطرافه بحيث لا يؤدي أي خلاف يحدث إلى فراق أو قطيعة، مع التركيز على مساحات الاتفاق الكبيرة أصلاً والعمل على زيادتها. وعلى رغم أن كل دولة تعنى بزيادة دورها لتعظيم مكانتها، وأن هذا يؤدي الى التنافس بطبيعة الحال، إلا أن وجود مشكلات كبرى ضاغطة على الجميع ومولدة لضغوط خارجية يدفع الى تغليب اعتبارات التعاون والعمل المشترك. وهذا هو ما حدث، مثلا، عندما قامت السعودية بتنشيط دورها في تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي وطرح ولي عهدها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز مبادرته التي أقرتها قمة بيروت في آذار مارس 2002 وجعلتها مبادرة عربية شاملة. فقد راجت تكهنات في ذلك الوقت عن أن مصر لم تتحمس لهذه المبادرة أو أن قلقا انتابها من أن يطغى هذا التحرك السعودي على دورها المركزي الذي تحرص عليه في جهود التسوية، خصوصاً على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي. بل فسر بعضهم عدم مشاركة الرئيس مبارك في قمة بيروت انطلاقاً من هذه الخلفية التي لم تكن صحيحة. ولم تمض أسابيع حتى تبين أن مساحة التعاون بين الدولتين أوسع من أن يحجبها أي تنافس حتى إذا وُجد في مجال أو آخر. فعندما زار الرئيس المصري واشنطن في حزيران يونيو 2002، حمل معه مشروعاً مكملاً لمبادرة ولي العهد السعودي وليس منافساً لها بأي حال، بل تضمن آلية محددة للشروع في تنفيذها، إذ ركز على إعادة الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ما كان عليه في 28 أيلول سبتمبر 2000 ثم إعلان دولة فلسطينية في المناطق أ وب وتوقيع اتفاق إطار تجري على أساسه مفاوضات الوضع النهائي التي تقود الى انسحاب الى حدود 1967. وكان هذا المشروع أحد المداخلات التي اعتمدت عليها اللجنة الرباعية الدولية في صوغ خطة "خريطة الطريق" خلال الشهور التالية. وما هذه الخطة إلا خطوة باتجاه تنفيذ مبادرة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز.
وهكذا يصعب تقويم دور مصر الآن بمعزل عن التعاون الذي تنامى بينها وبين السعودية، وكذلك سورية، وبعيداً عن السمات المميزة للتفاعلات العربية في المرحلة الراهنة، وفي مقدمها ارتباط القيادة الإقليمية بالتوافق والتعاون أكثر من الصراع الذي ساد فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
تطوير النظام العربي
وعندما أصبح النظام العربي الرسمي مهدداً من جراء تطلع الولايات المتحدة إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط انطلاقاً من الحرب على العراق، تطور التوافق الثلاثي باتجاه موقف دفاعي يسعى الى وضع حد لهذا التدخل من خلال تحركات مكثفة لإعادة ترتيب الأوضاع إقليمياً وبدرجة ما داخلياً.
وفي مثل هذه الظروف التي يزداد فيها الخطر، يصعب تصور تصاعد الصراع بين دول عربية على القيادة الإقليمية. صحيح أن أحد المعطيات الأساسية في سلوك أي دولة هو سعيها الى زيادة مكانتها ونفوذها. ولكن في لحظات معينة تعطى الأولوية للحفاظ على الدولة نفسها. ولا يخفى أن إحدى دول محور الارتكاز الثلاثي تواجه تهديداً حالا وفي العمق، وأن الدولتين الأخريين تواجهان مخاطر بدرجة أقل ولكنهما تتعاملان معها بما يكفي من الاهتمام والتركيز. وهذا يفسر تنامي التعاون بين ثلاثي محور الارتكاز العربي، خصوصاً السعودية ومصر، سعياً الى تطوير النظام العربي الرسمي من خلال إصلاح وتفعيل جامعة الدول العربية ومنظومة العمل المشترك.
وكانت زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل للقاهرة، واللقاء الأول من نوعه الذي عقده مع وزير خارجية مصر أحمد ماهر والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في 16 كانون الثاني يناير الماضي هو المؤشر الظاهر الأبرز على هذا التعاون. وكانت سورية التي زارها الفيصل أيضا في صورة هذا الاجتماع وما أسفر عنه من اتفاق على دعوة وزراء الخارجية العرب الى اجتماع استثنائي يومي 11 و12 شباط فبراير الحالي يسبقه اجتماع للجنة التابعة والتحرك المنبثقة عن القمة العربية على مستوى وزراء الخارجية، والتي تضم 13 دولة عربية.
وشهدت الفترة نفسها تكثيفا للاتصالات العربية على أعلى مستوى، سواء عبر الزيارات أو الهاتف. وكانت الرياض والقاهرة، وبدرجة أقل دمشق، محور هذه الاتصالات التي تستهدف التوافق على أسس وعناصر تطوير جامعة الدول العربية ومنظومتها. فقد انتهت الأمانة العامة للجامعة من دراسة المبادرات المقدمة من سبع دول وأعدت اقتراحاً يستند اليها جميعاً في شأن هذا التطوير سيرفع الى قمة تونس في آذار مارس المقبل. وتهدف الاتصالات التي تكثفت الى التوافق على كل، أو حتى معظم، عناصر التطوير حتى إذا حل موعد القمة صار سهلاً عليها أن تتخذ القرار.
وتقوم مصر بالدور الرئيس في هذا المجال جنباً الى جنب مع السعودية إضافة الى سورية التي تشارك بجهد أقل في عملية تطوير النظام العربي.
وكان لمصر دور مبادر في وضع هذه القضية على جدول الأعمال العربي قبل انتهاء الحرب على العراق. ويذكر المراقبون المعنيون ما تردد عشية الحرب عن وجود أفكار لإعادة بناء النظام العربي الرسمي ليضم عدداً أقل من الدول ولكنها أكثر اتفاقاً في سياساتها. ولم يكن هذا الكلام دقيقاً، لأن ما جرى تداوله فعلاً هو إمكان أن تأخذ الجامعة العربية بأسلوب "السرعات المتفاوتة" المعمول به في نظم إقليمية أخرى، بمعنى أنه يجوز لعدد من الدول من دون غيرها أن تتفق على القيام بعمل معين أو عقد اتفاق ما وتشرع في تنفيذه على أن تلحق بها الدول الأخرى عندما تسمح ظروفها بذلك. وسيكون هذا أحد العناصر الجديدة في العمل العربي المشترك إذا تم إقراره ضمن عملية التطوير التي ينتظر أن تقرها قمة تونس.
أما هذه العملية في مجملها فقد بادر الرئيس مبارك بالدعوة إليها اثناء الحرب على العراق في كلمة ذات أهمية خاصة ألقاها أمام الجيش الثاني الميداني يوم 31 آذار مارس، اذ تساءل عن "صدق توجهنا نحو تحقيق حد أدنى من التنسيق العربي المبني على الثقة المتبادلة" داعياً الى "مواجهة التحديات بفاعلية، خصوصاً ما يتصل منها بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه في السماح للغير بالتحكم بمقدراتنا ورسم مستقبلنا وتغيير خريطة منطقتنا وفرض موازين قوى جديدة علينا". وتحدث مبارك في هذا السياق عن ضرورة تجديد النظام العربي بما يعزز قدرته على مواجهة التحديات.
كما كان للسعودية السبق في طرح مبادرة إصلاح الوضع العربي عبر تطوير المشاركة السياسية والإصلاح الذاتي في بداية العام الماضي، وهي المبادرة التي كان مقررا أن تناقش في القمة العربية السابقة التي نقل مكانها من البحرين الى شرم الشيخ. ولكن تركيز هذه القمة على الحرب، التي كانت وشيكة في ذلك الوقت، أدى الى تأجيلها لتصبح أولى سبع مبادرات عربية استخلصت منها الأمانة العامة للجامعة اقتراحاً شاملاً للتطوير. ولكن ظلت المبادرة السعودية والمبادرة المصرية التي قدمت في تموز يوليو 2003 الأهم والأكثر تعبيراً عن طابع المرحلة التي يمر فيها العالم العربي. فقد انطوت المبادرتان على رؤية مفادها الإسراع بتطوير النظام العربي الرسمي لدعم فاعليته حتى يكون أكثر تماسكاً أمام الضغوط الخارجية، خصوصاً الأميركية التي تهدف الى إعادة رسم خريطة المنطقة.
وفي هذا الاتجاه نفسه توافقت مصر وسورية بموافقة سعودية على السعي الى إزالة العقبات التي تعترض بناء علاقة إيجابية بين النظام العربي ودولتي الجوار المسلمتين إيران وتركيا في إطار إعادة بناء العلاقات في الشرق الأوسط بهدف سد أو تقليص الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها التدخل الخارجي.
وفي هذا السياق جاءت النقلة التاريخية في العلاقات السورية - التركية عبر زيارة الرئيس بشار الأسد الى أنقرة في الأسبوع الثاني من كانون الثاني يناير الماضي. وعندما اختير عنوان "سورية وتركيا تتحديان أميركا" عنواناً لمقال باتريك سيل في "الحياة" في التاسع من الشهر نفسه، لم يكن هذا العنوان مفارقاً للواقع بكثير. فالتقارب بين دمشق وأنقرة يمثل تحدياً غير مباشر للسياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، مثله في ذلك مثل التقدم الكبير الذي حدث في العلاقات المصرية - الإيرانية ووصل إلى حد اتخاذ مصر موقف الدفاع عن إيران خلال التصعيد الأميركي ضدها على خلفية برنامجها النووي. فقد رأت القاهرة في هذا التصعيد ازدواجاً للمعايير، فضلاً عن عدم معقوليته لأنه يركز على برنامج مشكوك في أمره فيما يتجاهل القائمون به برنامجاً نشطاً أنتج أسلحة نووية فعلاً في إسرائيل. وفي هذا السياق جاء لقاء مبارك وخاتمي في جنيف على هامش قمة المعلومات في 12 كانون الأول ديسمبر الماضي. وحتى إذا لم تعَد العلاقات الديبلوماسية بين القاهرة وطهران قريباً، فقد حدث تطور بل تحول في العمق يقل في ظله مغزى استمرار هذه العلاقات مقطوعة لفترة أخرى الى أن يدرك المحافظون الأكثر تشدداً في إيران ضرورة إعادتها. فقد قبلوا إزالة اسم قاتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات من شارع رئيس في طهران، ولكنهم تمسكوا بالجدارية الكبيرة التي تحمل صورته وواصلوا تجاهل طلب مصر تسليمها مجموعة من المتطرفين المحكومين في قضايا عنف تتوافر معلومات عن وجودهم في إيران.
ومع ذلك سيظل تحسن العلاقات مع إيران مدرجاً على جدول أعمال الديبلوماسية المصرية في الفترة المقبلة الى جانب دعم التقارب السوري - التركي الذي لعبت القاهرة دورا أساسيا في الدفع باتجاهه منذ أن تدخلت لنزع فتيل الأزمة التي تصاعدت بينهما حتى وصلت الى حافة الهاوية في تشرين الأول أكتوبر 1998.
فانسياب العلاقات بشكل سلس بين العرب وكل من إيران وتركيا يكمل التطوير الجاري العمل عليه في النظام العربي. وفي هذا وذاك دور رئيس لمصر بالتوافق والتعاون مع السعودية وسورية في إطار محور الارتكاز الثلاثي الذي أثبت أنه القلب النابض للنظام العربي الرسمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.