يواجه العراق استحقاقات ضخمة وخطرة على امتداد المئة يوم المقبلة. ففي أواخر كانون الثاني يناير المقبل ستجري الانتخابات النيابية في العراق كما هو مقرر. وهناك اصرار من الحكومة العراقية ومن قوات التحالف ومن الأممالمتحدة على ضرورة اجراء هذه الانتخابات في موعدها المقرر. لكن المسألة ليست بمثل هذه السهولة في ظل الأوضاع المتفجرة لا سيما في المنطقة التي صارت تعرف بالمثلث السنّي، الممتد بين بغداد وسامراء والرمادي ويشمل الفلوجة الواقعة على منتصف الطريق بين بغداد والرمادي على الضفة الشرقية لنهر الفرات. وفي وضع كهذا يختلط السياسي بالأمني ويصبح من الصعب التحكم بالأحداث الأمنية الهادفة الى تفشيل الأهداف السياسية للسلطة وللتحالف في آن. وينعكس هذا الوضع على التيارات الاثنو - سياسية في العراق بين الشيعة والسنّة والأكراد من دون اهمال أوضاع الأقليات. وفي هذا الاطار بدا الاختلاف واضحاً بين طرح زعماء الشيعة وعلى رأسهم السيد علي السيستاني المؤيد بقوة لإجراء الانتخابات وبين "هيئة علماء المسلمين" السنّية التي تتأرجح بين الرفض والمشاركة بشروط. فكيف سيتصرف العراقيون في المرحلة المقبلة وهم محشورون بين نار "الزرقاوي" ونار "جهنم"؟ عندما وضع هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي السابق، تصوراً محدداً لكل دولة عربية، تحدث عن العراق واصفاً اياه بأنه "طائر بثلاثة أجنحة. الجناح الثالث يعيقه عن الطيران". وكان كيسنجر يشير رمزياً الى السنّة والشيعة والأكراد والى استحالة الجمع بين هذه القوى الثلاث في بوتقة واحدة. هذه الصورة تعود الآن الى الأذهان في ظل ما يحدث في العراق من تجاذبات بين هذه القوى ما ينذر بأيام صعبة للعراق في المستقبل القريب والبعيد. ولعل الاستحقاق الداهم هو مصير مدينة الفلوجة. والسؤال هو: ما الذي سيحل بها باعتبارها معقل المقاومة السنّية في المثلث وحتى في العراق. وهل صحيح ان الزرقاوي جعلها مركز قيادته ليهاجم من خلالها قوى التحالف وقوى السلطة وكل مظاهر "الكفر" في العراق؟ فبعد سقوط النجف وتحول موقف الإمام مقتدى الصدر من المواجهة والرفض الى القبول، وبعد تسليم سلاح مدينة الصدر في بغداد وبعد اجتياح سامراء وفرض القانون عليها جاء الآن دور الفلوجة. وتدرك الحكومة العراقية ان اجتياح المدينة مسألة صعبة سياسياً وان كانت أكثر سهولة عسكرياً. ذلك ان اجتياحها من جانب قوات التحالف سيؤدي الى مقتل مئات وربما آلاف المواطنين وتدمير جزء كبير منها، لهذا تقوم قوات التحالف بالاغارة بالطيران على أهداف منتقاة داخل المدينة مهيئة الأجواء النفسية والعسكرية لهجوم شامل محتمل في المستقبل. وتدرك حركة المقاومة في الفلوجة أن هذه المدينة هي معقلها المهم الأخير حيث يتجمع عدد غير قليل من السلفيين المتشددين الآتين من البلدان العربية لدعم اخوانهم في الفلوجة. ولهذا فمن المستحيل ان تتخلى المقاومة السنّية السلفية عن هذا المعقل. أمام هذين الموقفين الراديكاليين تحاول السلطة وبعض زعماء المدينة الوصول الى حل أو تسوية. ولكن الجانبين لا يثقان ببعضهما البعض وليسا مستعدين لتقديم تنازلات حول أمور دوغمائية لا مجال للتراجع أو التساهل أو التسوية بصددها. لهذا تتأرجح المفاوضات الجارية بين الجانبين بين المد والجزر. إلا أن السلطة، بلسان وزير الدفاع، تؤكد انها لم تقفل الباب وانها مستعدة لمتابعة الحوار مع ان المقاومة رفضت شروط الدخول الى المدينة ووضعت شروطاً تبقي الفلوجة في شبه حكم ذاتي يقوم بمهمات الأمن فيها جهاز من سكانها من دون ان يكون لقوات التحالف أو جيش السلطة الحق في دخول المدينة، وهو ما رفضته السلطة وقوات التحالف بالتأكيد. وتبدو السلطة راغبة بالوصول الى حل سلمي حول الفلوجة وان كانت تعتبر هذا الحل شبه مستحيل ذلك ان السلطة لا تود ان ترى الفلوجة مدمّرة والآلاف من أبنائها بين قتيل وجريح، لأن الهجوم على الفلوجة، كما حصل في سامراء، سيكون أشبه بمجزرة حقيقية ورجال السلطة لا يريدون ان يسجلوا هذه المجزرة على ضمائرهم. إن ما يطرحه وضع الفلوجة ليس مصير بعض المقاتلين الأصوليين السلفيين بل هو في الحقيقة مصير مدينة بكاملها. وأكثر من ذلك هو مصير السلفية الاسلامية في العراق والخارج. صحيح ان الأميركيين قلقون من اجتماع هذه المقاومة في المدينة: عربية وغير عربية، لكن الأميركيين سيجدون من المناسب لهم ان تجتمع القوى المتشددة في مكان واحد كي يدمّروا هذا المكان بمختلف أنواع الأسلحة ويجعلوا منه أمثولة للمدن العراقية الأخرى. إن السلطة العراقية أمام خيار وحيد: تأكيد سلطتها على الأرض وإلا فقدت صدقيتها خصوصاً بالنسبة إلى ممارسة السلطة وتأمين اجراء الانتخابات، لذا هناك توافق كامل بين السلطة والأميركيين على ضرورة اخضاع الفلوجة بأي ثمن وقبل اجراء الانتخابات. والأكيد في هذا الأمر نقل قوات بريطانية الى منطقة الحلة المواجهة للفلوجة من جهة الجنوب، ما يسمح للقوات الأميركية بشن هجوم عسكري كثيف على المدينة يقلل الى الحد الأدنى الخسائر البشرية في قوات التحالف والقوات العراقية التي ستهاجم المدينة في أية لحظة. وتعمل قوى السلطة من المخبرين على مسح وضع المدينة العسكري من مختلف جوانبه وتقدم تقارير حول القوى فيها ومراكز وجودها التي تقصفها الطائرات كل يوم، وهو بمثابة تمهيد للهجوم عندما تحين الساعة. وفي المقابل تنظم المقاومة صفوفها داخل الفلوجة وتزيد من أعمالها العنيفة. إن المفارقة الكبرى اليوم هي تركيز السلفيين وعلى رأسهم الزرقاوي على "اعدام" العراقيين المتعاونين مع "الاحتلال"، كما حصل للمجندين أخيراً وكما يحصل كل يوم أمام مراكز التجنيد والتدريب. فالسلفيون يعتبرون ان كل متعاون مع الاحتلال خائن. وبما انهم يعطون لأنفسهم حق "الامارة" بالمفهوم الشرعي، فهم يرفضون كل سلطة تتعاون مع الأجنبي وهي عندهم سلطة مارقة لا بد من اسقاطها، خصوصاً أن العراقيين الذين يتحضرون لممارسة دور أمني الجيش وقوى الأمن يشكلون أهدافاً سهلة للسلفيين. لذا يجهد السلفيون لضرب هذه الفئات بقوة وبقسوة كي لا تشكل في وقت قريب الجهاز الأمني الذي سيواجههم في بناء الدولة العراقية الجديدة لدى قيامها. إن الموقف السنّي العام من الانتخابات منقسم بين طروحات ثلاثة: - موقف المتشددين السلفيين بزعامة الشيخ الصميدعي وفيه: ان لا انتخابات الا بخروج الاحتلال. وإلا كان المنتخب "عاصياً". - موقف السلطويين من جماعة الحزب الاسلامي العراقي حزب الرئيس اياد علاوي وهو يدعو الى المشاركة الكثيفة في الانتخابات. - موقف "هيئة العلماء المسلمين" الداعي الى الربط بين المشاركة في الانتخابات في مقابل حل مسألة الفلوجة. على ان المستقلين يدركون أهمية الوضع وخطورته في الفلوجة، فالمدينة هي هدف بامتياز في الايديولوجية الأميركية لمحاربة الارهاب. وبالتالي لن يكون لدى الأميركيين أي خيار سوى اجتياح المدينة في الوقت المناسب مهما كانت النتائج في الضحايا والدمار. لذا فإنهم يقصفون المدينة بتقطع كي يخرج منها أكبر عدد من السكان قبل اجتياحها. وأما المفاوضات الجارية فهي في النهاية مضيعة للوقت بالنسبة إلى الفريقين المتواجهين، أو انها في أحسن الأحوال عملية رفع عتب من اننا: "حاولنا ولم نتوصل الى حل". وهكذا، كما يقول أحد المحللين الغربيين، ستكون الفلوجة مهد المقاومة وقبرها في آن. أما الموقف الشيعي فلا يربط الانتخابات بالوضع في الفلوجة، فقد ألقى أحمد الصافي، ممثل السيستاني، خطبة دعا فيها "الى المشاركة الكثيفة" في الانتخابات لأنها واجب وطني وعدم المشاركة يعتبر خيانة بحق الوطن. واعتبر ان للانتخابات "طابعاً مصيرياً" وأنه من خلالها يمكن "تحقيق الآمال التي انتظرناها طويلاً". وحذر من ان "المخالف يدخل نار جهنم". وهكذا أصبح العراقيون بين نار الزرقاوي في هذا العالم ونار جهنم في العالم الآخر. هذه الجذرية الشيعية، التي انضم اليها مقتدى الصدر تأخذ في الاعتبار أموراً ستكون في مصلحة الشيعة: من أهمها فرض ميزان جديد في الحياة السياسية العراقية من خلال العدد أي العامل الديموغرافي حيث هم أكثرية وبالتالي أخذ المبادرة في الحياة السياسية العراقية من خلال الديموقراطية العددية. لكن هذا الأمر يطرح موضوع الديموقراطية ومعناها، هل هي مجرد حكم الأكثرية؟ إن الديموقراطية الحقيقية هي نظرية سياسية ينبغي بموجبها ان تعود السيادة والقرار لمجمل المواطنين وهي تقوم على عمادين: حرية المواطنين والمساواة في ما بينهم. فالمبدأ الديموقراطي يتمتع بثلاث مميزات: انه مبدأ مساواتي بين المواطنين ويتوافق مع مصالح الشعب، ويحترم ارادة كل فرد وحريته. من هنا فإن الانسان الديموقراطي هو من يحترم المبادئ الديموقراطية والمؤسسات الديموقراطية. غير ان الانتخابات وحدها لا تصنع الديموقراطية لأنها عرضة للاستغلال والتشويه. ومع ذلك لا بد من انتخابات منتظمة حرة ونزيهة كي يكون البلد ديموقراطياً. علماً ان الديموقراطية اليوم هي أكثر من كونها حكم الغالبية هي اعطاء الضمانات للأقلية. إن الرؤية الاستراتيجية الأميركية تتوخى قيام عراق جديد على أنقاض العراق القديم بكل أشكال الاستبداد فيه: القديمة والحديثة