لا تعاني اليابان اليوم من مشاكل اقتصادية أو انتاجية، لكن قادة هذه البلاد يخشون أزمة قادمة في المستقبل القريب، ويعود السبب الى ما أشارت اليه الاحصاءات الأخيرة بشأن مستقبل العائلة اليابانية التي تعد النموذج الذي يتفاخر به اليابانيون، هي في طريق الزوال، ومعها تتراجع النسبة السكانية بدءاً من العام 2007. ما سيقلب المقاييس الاجتماعية بشكل جذري ويؤثر سلباً على العمليتين الاقتصادية والانتاجية. وحسب التمديد الرسمي للعائلة التقليدية في اليابان، يتألف البيت من أب وأم وطفلين، وترعى الدولة هذا النموذج عبر المساعدات المختلفة. اما اليوم، فالواقع مختلف وبعيد كل البعد عن ذلك التمديد الرسمي للعائلة، التقليدية التي لم تعد تمثل سوى 32 في المئة من مجموع العائلات. ومع بداية 2007 حسب توقعات مركز الأبحاث الاجتماعية والتعداد السكاني فإن عدد هذه العائلات سيتراجع كثيراً ما يؤشر الى بداية التراجع الديموغرافي، وستجد البلاد نفسها أمام أزمة حقيقية تتطلب اتخاذ حلولاً جذرية وقرارات حاسمة. هذه المشكلة الاجتماعية الحادة المتوقعة هي نتاج للتراجع الكبير في عدد الزيجات والولادات ما يؤدي الى أزمة ديموغرافية لها نتائج وانعكاسات سيئة على الصعيد الاجتماعي اضعاف نظام التقاعد من جهة وانخفاض الانتاج المحلي للثروات الطبيعية وفي البلاد من جهة أخرى. لكن هذه الأزمة تطلق صيحات انذار من نوع آخر، اذ انها تزعزع الهيكلية العائلية في هذا المجتمع التقليدي المحافظ بشكل خاص على التراتب العائلي ضمن العائلة الواحدة، وعلى عدم مشاركة أو اهتمام الرجل بالأمور المنزلية. لكن المرأة اليابانية الحديثة غيّرت الكثير في حياتها الخاصة عندما دخلت دنيا العمل وحصلت على استقلالها الاقتصادي منذ زمن بعيد. وساهمت بجدارة في الازدهار الاقتصادي للبلاد وبمضاعفة الانتاج، كما انها توصلت الى مراكز مهمة في المجالات المختلفة. من هنا، فهي تفضل اليوم حياة العزوبية على الزواج الذي يعني بمفهومها العمل خارج المنزل وداخله، لأن الشاب الياباني الحديث يعود بعد الزواج الى رجل تقليدي في الحياة العائلية، تماماً كما كان في منزل أبويه، والشابة اليابانية لا تستطيع حتى اليوم الاعتراض فعلا على التقاليد العائلية. كما انها لا تستطيع، أو لا تريد، التخلي عن عملها بسبب غلاء الحياة بشكل عام والمدارس خصوصاً. وهي في الوقت نفسه مضطرة للاهتمام بأهل زوجها وتقديم العون اللازم في حال مرض احدهما. يضاف الى هذا كله عدم فعالية النظام الاجتماعي الخاص بالعائلة والحماية الاجتماعية. فهذا النظام يقدم المساعدات الفعلية للعائلة التي حددها، أي تلك المؤلفة من أب يعمل وأم تبقى في المنزل وتهتم بالأبناء الذين يحدد عددهم بطفلين. ومن الواضح ان ما من أحد يستطيع الطلب من المرأة اليابانية، التي عرفت طعم النجاح في الحياة العملية ومعنى المشاركة الفعلية في العمل والتي ادركت أهمية الاستقلال الاقتصادي والتحرر من عبودية التقاليد العائلية، الزواج وانجاب الأطفال والاهتمام بالعائلة وأهل الزوج ايضاً. لذلك لم يعد الزواج ضرورة بل اختيار في اليابان وهذا ما يؤكده آخر احصاء حول هذا الموضوع، فقد وافق 70 في المئة على هذا الأمر. وبين فئة الشباب من 20 الى 39 سنة بلغت النسبة 90 في المئة. ويذكر ان عدد الزيجات في اليابان انخفض بنسبة 30 في المئة عام 2003 مقارنة مع عام 1972، وستنخفض أيضاً هذه النسبة عام 2015. وهناك عازب من اثنين يؤكد انه لم يجد الرفيقة المناسبة للزواج، بينما يعلن عازب واحد من ثلاثة عن عدم قدرته المادية على الزواج. ان ظاهرة انخفاض نسبة عدد السكان في اليابان، لم تكن أمراً فجائياً. فقد أصدرت اللجنة الحكومية الخاصة بالمسألة الديموغرافية في البلاد، تقريراً مهماً عام 1969 تعلن فيه ان "نسبة الولادات الحالية في بلادنا، غير قادرة ولا تكفي لتعديل عدد السكان في الأجيال المقبلة". لكن اليابان التي كانت يومها في أوج انطلاقة ازدهارها الاقتصادي لم تكن تؤمن الا الآنية والمستقبل المادي، ولم يكن أي مواطن على استعداد أو قادر على التفكير بالزواج والأولاد. ولم يهتم القادة آنذاك بالتقرير الديموغرافي. وبعد 35 سنة أدركت اليابان ان الثمن الذي ستدفعه نتيجة اهمالها هذا التقرير سيكون غالياً وفي مجالات متنوعة وعدة، خصوصاً ان معدل الولادات انخفض الى ما دون 1.3 وخلال سنوات قليلة. المساكن الجماعية قطاع صناعة السيارات كان أول المهتمين بتأثير انخفاض عدد السكان على تصنيع وتسويق الانتاج. ففي الربيع الماضي سارعت شركة "تويوتا موتورز" الى تشكيل فريق خاص لدراسة تأثير هذه الظاهرة على منتوجاتها داخلياً. وأتى التقرير الذي وضعه الفريق ان كل المعطيات يدل على ان غالبية السكان ستبلغ الخمسين من العمر في سنة 2010 وفي الوقت نفسه يتراجع عدد العائلات التي تضم اطفالاً صغار السن، بينما سيزداد عدد العائلات المؤلفة من أب وأم وفتى. وبالفعل قررت الشركة الى اعتماد هذا التقرير لوضع سياسة خاصة بالاستهلاك والانتاج المحلي. وقبل وضع النقاط النهائية لخطتها المقبلة، طلب أحد كبار مسؤوليها من مسؤول عن الاحصاءات الديموغرافية عن رأيه في مستقبل العائلة اليابانية، فنصحه هذا الأخير باقتصار المقاعد في السيارة الجديدة من نوع "كراون" على مقعدين فقط. ويبدو ان المشاركة في العيش بمنزل واحد انتقلت من الجيل الشاب الى كبار السن. ففي احدى ضواحي طوكيو تحوّل منزل تقليدي يعود بناؤه الى 150 سنة خلت على الطريقة اليابانية القديمة، الى نوع من النزل، يعيش في غرفه العشر سبعة أشخاص لا يمت الواحد منهم بصلة قربى لصاحب البيت. وكل مستأجر في المنزل له غرفة خاصة لكنه يشارك الجميع في المطبخ الواحد والحمام. ويقوم كل بدوره بعملية التنظيف وشراء ما يلزم للعيش سوية. اما صاحب المنزل فيبلغ السادسة والستين من العمر وقد ملّ العيش وحيداً فاعجبته فكرة المشاركة، واقترح على أصحابه فكرته، ووافق البعض ممن يعيش بمفرده عليها، خصوصاً ان الوحدة قاسية ومن الأفضل لكل جيل ان يعيش مع جيله، فالتفاهم مع الجيل الجديد صعب ان لم يكن مستحيلاً تقريباً. وقصة المشاركة في المنازل ظهرت منذ العام 1995 عندما انشأت البلدية مساكن جماعية لكبار السن ممن يخشون العيش بمفردهم. وساهم هذا النوع من العيش المشترك، في كسر التقليد العائلي وأصبح أمراً يتقبله كبار السن والعزاب من سكان المدن الكبيرة. وأثر الاحصاء الديموغرافي الأخير على توقف مشاريع انمائية عدة في البلاد، ففي شمال طوكيو توقف مشروع ضخم لبناء سد خاص بالانشاءات الهيدروكهربائية. وكان المشروع بدأ على أساس دراسة احصائية لعدد سكان المنطقة تدل على بلوغ نسبة عدد السكان نحو 8 ملايين شخصاً في عام 2015. اما الاحصاء الأخير فقد دل ان النسبة لن تتجاوز 7.3 مليون. هذا ما يجعل من المشروع الضخم من دون فائدة تذكر، لأنه يعتمد ليس فقط على منشآت ومحولات كهربائية، بل أيضاً على مد الطرق وانشاء المطارات وبناء المساكن والمدارس والمراكز التجارية وغيرها. وهكذا توقف المشروع ومثله مشاريع عدة، فعندما ينخفض عدد السكان في اليابان، فإن أول من يتعرض للضرر هي الضواحي السكنية الصغيرة. ويتوقع مراقبون ان تندلع حرب من نوع آخر بين بلديات هذه الضواحي لجذب أكبر عدد ممكن من العائلات للسكن فيها. وحسب آخر الأبحاث في التعداد السكاني العالمي، ستكون اليابان بدءاً من العام المقبل، آخر دولة في الترتيب العالمي بين الدول التي لا تستطيع العائلة العناية والاهتمام بأفرادها. واعتمدت الأبحاث احصاء عدد الفتيات والكنّات ومقارنة هذا العدد بمجموع عدد العجائز في البلاد. وأتى عدد كبار السن أكثر بكثير من عدد النساء اللواتي يهتمن عادة بأفراد العائلة من العجائز. وتسير اليابان بسرعة كبيرة نحو الشيخوخة، وهي تؤمن من خلال المؤسسات والشركات التجارية الكبرى كل ما يلزم للعيش في شيخوخة هانئة، لمن يملك المال. لكن العائلة النموذجية في طور التراجع. وقريباً ستتغير صورة المجتمع الياباني الديناميكي في بلاد مزدهرة، فهذا المجتمع سيفقد مع تصاعد نسبة الشيخوخة وقلة الولادات الديناميكية والازدهار. اما العائلة الكلاسيكية والتقليدية فهي ذاهبة الى غير رجعة