عدا الأسئلة عن الموت والحياة، مما يلازم الإنسان مذ تحوم أول علامة استفهام حول رأسه، هناك أسئلة كثيرة، تتبدّل أجوبتها كل حين، مبدّلة النظرات السائدة، وكلّها تتعلّق بالآخر. وسواء كان شيئاً جامداً أم حيّاً، يشكّل الآخر، لمن يريد التعرّف إليه عن كثب، لغزاً قد يتبدّد حلّه ما إن يتم التوصّل إليه. حتّى العلوم، التي من المفترض أن تأتينا بأجوبة "نهائية"، تنهار حلولها على الوتيرة المتسارعة لإنجازاتها و"ضحاياها". فما إن يظهر اكتشاف جديد في غير مجال، حتى يطيح الاكتشاف الذي سبقه، مخلّفاً ضحايا وذهولاً. وأحياناً، تلفّ الاكتشافات وتدور لتعود إلى ما كان سائداً، الأمر الذي يزيد من حيرة الناس العاديين، "مستهلكي الحلول". وأبسط مثال على ذلك، عندما تدخّل الطب في طريقة نوم الأطفال، وحكم أن من الأفضل أن يوضع الطفل على بطنه، منعاً لاختناقه، أثناء نومه. وعندما لوحظ أن لهذه الطريقة أيضاً ضحاياها، بين وفاة وإصابة، عاد الطب وترك للأهل حرّية التصرّف، متنصّلاً من المسؤولية. وينسحب هذا النوع من الارباكات، التي عاناها أسلافنا ونعانيها وسيعانيها أخلافنا، على أمور كثيرة: في السياسة مع زوال الأنظمة "الأبدية" واهتزاز المبادئ الحتمية وتلاوين الديموقراطية، وفي الاقتصاد مع تقلّبات البورصات وادّعاء الازدهار في زمن الركود !، وكذلك، في الاجتماع عندما تزداد "الممنوعات" في بيئة متحرّرة وتتسرّب "المسموحات" إلى بيئة متشدّدة، وكلتاهما تغضّ الطرف. ولعلّ إصرار الإنسان على مشاهدة التجارب والآخرين، من دون أن يتزحزح من مكانه، هو ما يُبقي الريبة في نفسه. والحل بسيط. فإذا كان لا يرى من موقعه ما يتوقّع رؤيته، عليه أن يتنحّى قليلاً، على الأقل ليرضي فضوله الأكّال و... القاتل، أحياناً. ويبدو أن "التنحّي" باتجاه الآخر، غريباً كان أم قريباً، يشكّل الخطوة الأولى للاعتراف به ومن ثم التعرّف إليه. الابداع بالاستعارة والتجديد بدأت تساؤلاتي عن الآخر، الغريب تماماً، عندما كنت أتنزّه في حديقة الحيوان في باريس، صيف 1985. وكنتُ، أنا الشاب الريفي الأصل والبعيد من البحر، أمارس رياضة التجذيف، ماخراً عباب بحيرة اصطناعية في تلك الحديقة، ومختالاً بعضلاتي أمام صديقتي. فجأة، رأيت عائلة يابانية، مؤلّفة من أب وأم وفتى وفتاة، وكلّهم يحملون كاميرات يابانية، ويجلسون في قارب صغير يدور على نفسه، وسط البحيرة، لأنهم لم يعرفوا كيف يستخدمون المجاذيف. فضحكتُ. يابانيون، أولاد جُزر وغزاة بحار، ولا يعرفون كيف يقاد قارب صغير؟ ضحكتُ، ثم سكتّ إذ قالت الصديقة بهدوء: "هل من البديهي أن يعرفوا كيف؟". ثم انتابتني نوبة تساؤلات في طريق العودة. فاليابان في بالي أمر عظيم، بلد أسطوري، شاهدته في فيلم "كاغيموشا" المحارب الظل، للمخرج أكيرا كوروساوا - 1980. ولم أتصوّر يابانياً يجهل أسس بقائه، ومنها الابحار. أعرف عن اليابان تجانسه الناجم عن رفضه الاختلاط، غزوه الصين الأكبر منه مساحة وعدداً، بأسه في القتال، رفضه الموت بعد قنبلتين ذريتين أميركيتين، مقاومته غدر الهزات من خلال عمرانه المطواع كالعشب، ومقدرته على إجلاء مئة ألف نسمة من تحت أقدام بركان متفجّر، في نحو ربع ساعة. وأراه في قوته الاقتصادية، في سياراته، في إنجازاته التكنولوجية، وفي إبداعاته الفنّية، مسرحاً وموسيقى وأدباً. ولكنّ الأهم من ذلك، مقدرة اليابانيين على استعارة الأشياء والأفكار، وتحسينها أو "إعادة اختراعها". ويبدو أن هذا من تقاليدهم. شكّل اليابان، كبقية بلدان الشرق الأقصى، مادة خصبة لأهل الصحافة والأدب والفن، والفكر، خصوصاً للمفكّرين الأميركيين المعروفين ب"خزانات الفكر"، think tanks، في محاولاتهم لحل لغز "الديمقراطية الشرق أقصوية"، المبنيّة على الالتزام في السرّاء والضرّاء، وفي الربح والخسارة. ومن آخر الإنتاج الصحافي عن اليابان، تحقيق موسّع في مجلة "أوبزرفر" البريطانية، التي أرسلت فريقاً كبيراً لتغطية جوانب حياتية عدّة هناك التسوّق، الجنس، السمك، السفر، الفنون، والأزياء، وتحقيق آخر في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، تناول النساء اللواتي يرفضن الزواج في سنّ مبكّرة، وأثرهن في الاقتصاد الياباني !. ومع أنه يبعث على الاستغراب قليلاً، يلفت التحقيق الثاني إلى أبعاد مختلفة، لمجتمع جديد قوامه "النساء الطفيليات". ولعلّ ما عبّر عنه الصحافي غابي وود، من "أوبزرفر"، يُعدّ بداية للتقارب من الآخر، إذ كتب في مقال عن الجنس، من خلال الحياة الليلية في طوكيو: "كل زاوية تنضح بمفارقة جديدة، تجعل من المستحيل استعارة النظرة الغربية وتطبيقها". ويبدو أن هذه الملاحظة تنسحب على مجمل مظاهر الحياة وجوانبها. ففي التسوّق، مثلاً، تبدو البلاد تحتوي كل منتوجات العالم، من أزياء وأكسسوارات وأطعمة، ولكنّها مصهورة في الذوق العام المحلّي، شكلاً ومضموناً. وعلى رغم أن اليابان يمرّ في انكماش اقتصادي، لا يُبدي المتسوّقون أي علامة للتخفيف من نشاطهم الشرائي. لكأنّ الركود، الذي امتدّ سنوات من مطالع تسعينات القرن الماضي، أطلق العنان لخوض غمار حياة جديدة، ومنح الأجيال الطالعة مزيداً من الحريات. فبدلاً من البقاء في المنزل مع الأهل، بلا عمل في انتظار وظيفة في شركة كبرى، يبادر الشباب إلى السفر، أو فتح مصالح صغيرة، في غير قطاع. حتّى أن الموظّفين "المحظيين"، أمسوا يتركون أعمالهم "المضمونة"، ويغامرون في مصلحة أو مهنة خاصة، يساعدهم على ذلك التنوّع الشديد وروح الابتكار. ويركّز اليابانيون في التجارة أكثر على المبدأ وتقديم التجارب للمستهلك، بدلاً من السلع، كأن يوفّر متجر ألعاب كومبيوتر عدداً من الأجهزة، في مقابل دولار للساعة الواحدة، بدلاً من بيع الألعاب نفسها. فالمتاجر هناك أمكنة ذات مواضيع، أو مراكز لعرض الأفكار الجديدة. وذلك من ضرورة مجاراة مخيّلة الزبون "لو كنت تريد أن يستهلك سلعك، ضمن البيئة التي تعرضها فيها". وعلى رغم هذه الفورة والنزوع إلى الفردية وتصارع القديم والحديث، لا يزال مجمل اليابانيين يتحلّون بدرجة من الحياء، تمنعهم من ردّ "بضاعة، ولو فاسدة، لئلاّ يتّهموا بقلّة التهذيب"، علماً أن ذلك من عادات الاستهلاك المقبولة في الغرب. دور المرأة ودور الرجل تنطبق مقولة الابداع بالاستعارة والتجديد على فنون العرض عموماً. وربّما كانت هذه أفضل تعبير عن التمازج بالفنون العالمية والإبداع المحلّي، مع أن الفنّان الياباني المحدّث والمعاصر، لم يجد لنفسه مكاناً في المجتمع، بعد. ومنهم من يرى في سلوك هؤلاء تمرّداً على التقاليد السائدة. وتنطبق المقولة أيضاً على "صناعة الجنس". وهنا عرّج مقال "أوبزرفر" على دور المرأة اليابانية اللافت في المجتمع، وليس في هذه الصناعة تحديداً. فاليابانيات لا يبدين اهتماماً بها، لأن غالبية العاملات في هذا القطاع لسن من اليابان. تعجّ طوكيو، بعلب ليل من كل الأنواع والممارسات، وتتوجّه إلى كل الأذواق، وتخطّت أساليب "فتيات الغيشا" المعروفة عن اليابان. بعضها يستورد "المرأة وأنوثتها" من الغرب، وبعضها الآخر يستوحي الممارسات "الشاذة" اليومية. وعلى سبيل المثال، هناك أماكن تسهّل للرجال ممارسة عملية التحرّش الجنسي على العاملات فيها، نظراً لانتشار هذه الظاهرة في طوكيو الشديدة الاكتظاظ. ففي عام 2000، ألقي القبض على 1854 رجلاً بسبب التحرّش بالنساء في محطات المترو. وثبت أن معظم مرتادي تلك العلب تحديداً، هم من الأطبّاء والمحامين والأساتذة "المحرومين من ممارسات مشابهة في أماكن عملهم، أو ممن يُحجمون عنها أثناء تنقّلاتهم". حتّى عند معالجة هذا الجانب من الحياة اليابانية، تُدحض النظرة الغربية إلى هذه "التجارة"، عند معايشة المجتمع ومعاشرة أفراده. وعلى رغم ضخامة "صناعة الجنس"، وتزايد معدّل انخراط اليابانيات فيها، خصوصاً بين الفتيات، لا يزال للمرأة دور آخر، مغاير لدورها الذي نعهده في المجتمعات الغربية. تقليدياً، دور المرأة اليابانية في المنزل، ولكن ليس على غرار "ستّ البيت" عندنا. فاليابانية تتمتّع بنفوذ اقتصادي في منزلها. تدير صرف الأموال وتقرّر في شؤون تربية الأولاد. وهذا يُعدّ "وظيفة" اجتماعية. وربمّا لا حقوق لديها في المجتمع، عموماً، ولكنّها تتمتّع بحقوق ضمن العائلة، سواءً كانت متزوّجة أم تعيش في كنف الأهل. أما الرجل الياباني فدوره العمل وجني الأموال. ومع تزايد الضغط على الرجال، نتيجة تزايد صعوبة تأمين لقمة العيش، سُجّلت حالات انتحار واختفاء عدّة. وأشارت احصاءات إلى أن النساء اليابانيات يعمّرن أكثر من الرجال، والسبب أنهن ينعمن بعيش هادئ. أما نظرتهن إلى التحرّر فمغايرة أيضاً لنظيراتهن الغربيات. ففي عام 1992، وضع قانون المساواة بين الجنسين، وقانون المساواة في فرص العمل. تلاهما، العام الماضي، أول قانون ضد العنف المنزلي. وسجّلت النساء اليابانيات أول "انتصار" لهن في مسألة التحرّش الجنسي، في واقعة غريبة، إذ اعترف الحاكم الشعبي المحبوب، أوساكا، بأنه تحرّش بشابة 21 عاماً، من مندوبات حملته الانتخابية. فأجبر على الاستقالة، وحلّت محلّه امرأة كرمز لهذا الانتصار. وفي حين يقول محلّلون اجتماعيون إن اليابانيات لا يعرفن بعد معنى "تحرّر المرأة"، هناك من يرى أن هذه الحركة بلغتهن، ولكنّها أخذت، كبقية الأشياء والأفكار الوافدة، على طريقتهن. وعلى سبيل المثال، عندما حصلت المرأة اليابانية العاملة على حق العطلة يومين في مرحلة الطمث، اعتُبر هذا الحق انتصاراً عظيماً، في حين لا تقبل المرأة الغربية بمجرّد لفت النظر إلى طمثها. وفي المقابل، يرتبط النشاط السياسي النسائي هناك، بحماية البيئة وتحسين الوضع العائلي. ويتلخّص هذا المنطق الخصوصي في إدراك الأمور في أن "الحياة، بالنسبة إلى المرأة اليابانية ليست مسألة حقوق فقط، فهي مرتبطة بالثقافة ككل". خطر العازبات على الاقتصاد! نبقى مع المرأة اليابانية من خلال نظرة مختلفة، أميركية هذه المرّة، نقلتها صحيفة "نيويورك تايمز". وتتعلّق بشريحة اجتماعية "طفيلية" من الشابات اليابانيات، اللواتي قرّرن عدم الزواج أو تأجيله، على ما ورد في المقال، وتأثيرهن في دورة الانتاج والاقتصاد في البلاد. هناك أكثر من 50 في المئة من النساء، لا يزلن عازبات في سن الثلاثين، وتعيش غالبيتهن عند الأهل. وأطلقت عليهن تسمية "العازبات الطفيليات"، تيمّناً بفيلم رعب ياباني، عنوانه "حواء الطفيلية". وفيه تتسرّب شرانق من الفضاء الخارجي إلى أجساد بشرية حاضنة، قبل أن تنفجر منها مخلوقات عجيبة. وسواءً كان في التشبيه مبالغة مضحكة أم إجحافاً في حق النساء، يبقى وجه الشبه بين تلك المخلوقات والعازبات في "أنهن لا يدفعن بدلات إيجار، ولا ينفّذن الأعمال المنزلية، ويذهبن ويجئن، كما يحلو لهن". ومع أن متوسّط دخلهن السنوي لا يتعدّى 27000 ألف دولار، تُعدّ تلك الشريحة من النساء رائدة المستهلكين بامتياز، لأن مداخيلهن تتبدّد كلّها في الأسواق. وعلى رغم الركود الاقتصادي في اليابان، شكّلن نوعاً من الازدهار في الأزياء والهواتف النقّالة والسيارات، وغير ذلك من الكماليات. ف"هن يسافرن أكثر من نظرائهن من الرجال، ويتبعن "الموضة"، ويتمتّعن بذوق رفيع في المآكل وينزعن إلى الثقافة". وفي حين يرى بعضهم أن تبذيرهن يسهم في إنعاش الدورة الاقتصادية، يرى آخرون أن عدم اضطلاعهن في الأدوار التقليدية سوف يشكّل تهديداً للاقتصاد. فعدد المسنّين في اليابان يتزايد سريعاً، وبحلول عام 2015، سيشكّلون ربع عدد السكان. ثم أن معدّل الولادات انخفض إلى 34،1 لكل امرأة. ويتوقّع خبراء الديموغرافيا تقلّص القوة العاملة، في غضون عقدين من الزمن، ما يزيد من أعباء الضرائب وتكاليف الرعاية الصحية... الأمر الذي قد يجعل اليابان تُقدم على ما لم يكن في التصوّر، وهو التشجيع على استقبال المهاجرين "الغرباء". تزحزح الجبل ربما كانت "النساء الطفيليات" علامة انحطاط، ولكنّهن أيضاً علامة احتجاج على صرامة الدور العائلي وقسوة نظام العمل. وربما كان الجيل الجديد في اليابان يسعى لتدمير "الحضارة القديمة"، ولكنّه لن يستطيع الخروج منها بسهولة، لأنه يبدو الآن عالقاً في دوّامة "احتمالات" التجديد وإعادة الصوغ والابتكار، والتي تبدو لامتناهية، مستنداً إلى ما يتدفّق إليه من الخارج، وإلى معطياته الداخلية المتأصّلة والراسخة. في فيلم "كاغيموشا"، كان زعيم قبيلة "تاكيدا" جبّاراً لا يُقهر وصامداً كجبل. ولم يكن يهجم على أعدائه، بل كان يفرض عليهم أزمنة المعارك وأمكنتها. ثم مات، ونجح أعوانه في إخفاء موته ثلاث سنوات، بعدما وجدوا شبيهاً له في الشكل، وليس في المقام. واستخدموه فقط ليراه الأعداء، فيهابونه. ثم حدث أن اضطرّ الأعوان في قبيلة "تاكيدا" إلى شن هجوم على أعدائهم. فبلغ الخبر مسامع أحد زعماء القبائل المعادية، الذي رقص فرحاً باقتراب النصر على القبيلة القوية السائدة، وأنشد قائلاً: "تزحزح الجبل"، قاصداً أن حين يتزحزح الجبل، يفقد هيبته وينهار. ومع التغيّرات التي تحصل راهناً، هل يتزحزح الجبل الياباني نحو انهيار أم نحو ولادة بلد جديد؟