كل المؤشرات خلال الآونة الأخيرة كانت تشير الى ان رؤوس المحافظين الجدد الحاكمين في البيت الابيض وفي مقدمهم دونالد رامسفيلد قد "أينعت وحان قطافها". آثار أقدام هذه المؤشرات كانت موجودة في كل مكان: في الكونغرس حيث اشتم الديموقراطيون رائحة الدم، فانقضوا على كل سياسات إدارة الرئيس جورج بوش في العراق. في الاعلام الذي انقلب بين ليلة وضحاها من ممجد للقوة العسكرية الاميركية الساحقة الى مشكك بالقدرات السياسية والاستراتيجية الحكومية الاميركية. وأيضاً في الجامعات ومراكز الابحاث التي لها تأثير قوي على التوجهات الخارجية الاميركية. ولخّص ستيفن وولت، عميد كلية كينيدي في جامعة هارفارد، هذه الانتقادات بالكلمات المجلجلة الآتية: "يجب على الرئيس جورج دبليو بوش أن يطلب استقالة الاشخاص الذين أدخلونا في هذه الورطة، بدءاً من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائبه بول وولفوفيتز، ومستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس. لقد ثبت أن مهندسي هذه الحرب هؤلاء، كانوا مخطئين وفق كل الاعتبارات: فلم يكن هناك أسلحة دمار شامل، والشعب العراقي لم يرحّب بالقوات الاميركية بأذرع مفتوحة وبباقات الورود، كما لم تكن هناك علاقة بين حزب البعث والقاعدة". وفي الوقت ذاته كان محللون اميركيون آخرون يشددون على أن مشروع الثلاثي رامسفيلد - وولفوفيتز - رايس العراقي، يتكشّف عن كونه طرقاً ذات اتجاه واحد: من الحرب الى الحرب. فلم يكن هناك وليس هناك الآن تصوّر لعراق ما بعد الحرب، وليس ثمة خطط واضحة لإعادة البناء الاقتصادي، ناهيك بمسألة بناء الدولة - الأمة في العراق. ويبرز الباحث الاميركي فريديريك كاغان المحصلات الثلاث الآتية لهذا المشروع: الولاياتالمتحدة ربحت حرب العراق، لكنها فشلت في ربح السلام. وهذا تكرر قبل ذلك في أفغانستان. السبب وراء ذلك يكمن كلياً في رؤى الحرب التي أدخلها الرئيس بوش وفريقه الى الادارة. وهي رؤية تركّز على تدمير القوات المسلحة للعدو، ومعها قدرته على قيادتها والسيطرة عليها. بيد انها لا تركّز على مشكلة تحقيق الاهداف السياسية. وهكذا فإن "الطريقة الاميركية الجديدة للحرب" تعتبر انه حين يتم تدمير كل اهداف العدو، سيستسلم هذا الاخير وستتحقق كل الأهداف الاميركية. ما لم تتغير هذه الاستراتيجية بشكل دراماتيكي، سيكون على الرأي العام الاميركي توقّع العديد من الحروب التي تنتصر فيها الولاياتالمتحدة عسكرياً وتنهزم سياسياً. هذه الاجواء العابقة بالانتقادات العنيفة للادارة الاميركية، أوحت بأن الأزمة سرعان ما ستنتقل من الخارج العراقي الى الداخل الاميركي، لتطرح على بساط البحث كل جدول أعمال الجمهوريين الجدد في الشرق الاوسط والعالم. بيد ان الادارة الاميركية، بكل طاقمها، بادرت الى توحيد صفوفها، وشنّت حملة معاكسة قوية دفاعاً عن كل توجهاتها العراقية. الرئيس بوش كان أول من دشّن هذا المنحى، حين أعلن في خطاب الى الامة أن ادارته "ستبقى منغمسة في العراق، وستفعل ما هو ضروري لتحقيق هذا النصر الضروري في الحرب على الارهاب". وبعده جاء دور رامسفيلد الذي جال في العراق ليعلن من هناك أن "الخطط العسكرية والسياسية الاميركية باقية على حالها". ثم لحقه وزير الخارجية كولن باول الى بلاد ما بين النهرين ليشدد على نقطة كادت ان تكون يتيمة: لا خلافات بين وزارتي الخارجية والدفاع، ولا تغييرات في التوجهات العسكرية والسياسية والاقتصادية في العراق. بيد أن الزخم الرئيس في هذا الهجوم المعاكس الذي تبادل فيه المسؤولون الاميركيون الادوار، كان من نصيب نائب الرئيس ديك تشيني. فهذا الاخير، الذي نادراً ما يتحدث الى الصحافة، رفض في مقابلة تلفزيونية دامت ساعة كاملة كل الانتقادات للسياسات الاميركية في العراق، وقال انه "ليس ثمة حاجة للاعتقاد بأن استراتيجيتنا خاطئة أو تحتاج الى تغيير". لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا هذا الاصرار الذي تبديه ادارة بوش على المضي قدماً في مشروعها العراقي، على رغم كل المخاطر المحيطة به؟ قدّم العديد من الاجابات على هذا السؤال، منه ما ذكرته "واشنطن بوست" من أن الادارة تخشى اذا ما هي اعترفت ببعض أخطائها العراقية، أن يؤدي ذلك الى "فتح أبواب جهنم عليها". ولذا فهي اختارت كما فعل تشيني نفي وجود أية أخطاء. قد يكون هذا صحيحاً، لكنه غير كاف لتبرير تصلّب فريق بوش. هناك ما يعتبره بعض المراقبين "استراتيجيات عليا" يدافع عنها هذا الفريق، وليس مجرد "تفاصيل تكتيكية". وهذه الاستراتيجيات تعتبر الحرب الاميركية في العراقوأفغانستان، مجرد الخطوة الاولى من مشروع جيو- بوليتيكي جغرافي - سياسي عالمي، لإحكام السيطرة الاميركية المطلقة على كل هذا الكوكب الازرق. نقطة البداية في هذا المشروع الاميركي الطموح للسيطرة على كل مفاصل قارة أورو - آسيا انطلاقاً من العراق، لم تبدأ مع احداث 11 أيلول أو بسببها، بل هي كانت جاهزة منذ العام 1992، كل ما هناك ان أحدث أيلول سرّعت في وضع المشروع موضع التنفيذ. المرة الاولى التي سرّب فيها المشروع، الذي اطلق عليه اسم "مبدأ وولفوفيتز"، كان في شباط فبراير 1992، وهو يدعو الى تدخلات عسكرية أميركية واسعة، بهدف ردع او منع ظهور منافسين للزعامة الاميركية في العالم، وبخاصة في قارة أورو- آسيا. وحين وصلت إدارة بوش الى البيت الابيض العام 2000، تبنّت بالكامل هذا المبدأ، ودمجت كل بنوده في وثيقة الامن القومي للولايات المتحدة أيلول 2002. بيد أن الوقائع تشير الى أن الديموقراطيين، وليس الجمهوريين، هم في الواقع الذين كانوا السباقين في تطبيق هذا المبدأ. فالرئيس بيل كلينتون هو الذي طوّر القدرات العسكرية الاميركية في منطقة الخليج/ قزوين، وهو الذي دشّن الروابط العسكرية مع كازاخستان واوزبكستان وجورجيا واذربيجان. وبالتالي فإن النصر العسكري الاميركي في العراق في العام 2003، لم يكن في الحقيقة نصراً لرامسفيلد - وولفوفيتز، بل كان نصراً لكلينتون الذي جعله ممكناً. حرب العراق، اذاً، كانت البداية، مجرد البداية، لخطة استراتيجية عالمية واسعة النطاق، يمكن تحديد مفاصلها الرئيسة كالآتي: 1- أنها تستهدف انطلاقاً من العراق اعادة تشكيل المشهد الجيو - سياسي العالمي عبر العديد من الوسائل التي قد يستمر تطبيقها سنوات وربما عقوداً مقبلة. وعلى أي حال، فهي أدت حتى الآن الى تغيير مجمل العلاقات الاميركية مع أوروبا والشرق الاوسط. 2- انها الاستراتيجية تستند برمتها كما أشرنا الى مبدأ الجغرافيا السياسية، لا الى التنافس الايديولوجي مع القوى الاخرى، كما كان الأمر خلال الحرب الباردة. لقد عاد القادة الاميركيون الى السياسات الجيو - سياسية التقليدية الهادفة الى ضمان السيطرة الاميركية على اهم مناطق الموارد الطبيعية في العالم. 3- ولتحقيق هدف السيطرة، يتعيّن على القادة الاميركيين الآن اعادة رسم خريطة أورو - آسيا برمتها التي تضم أوروبا وحوض الباسيفيك والشرق الاوسط الكبير. وهم استنتجوا أن التنافس الاستراتيجي الرئيسي الآن يكمن في منطقة جنوب قارة أورو - آسيا ووسطها، التي تتضمن منطقة الخليج العربي المالكة لثلثي احتياطي النفط العالمي وحوض بحر قزوين المالك لما تبقى من احتياطي النفط العالمي، والمناطق الاخرى في وسط آسيا. وهذا الآن هو مركز الصراع العالمي الجديد. والولاياتالمتحدة، بغض النظر عمن يقطن الآن في البيت الابيض، مصممة على الامساك بكل الخيوط في هذه المنطقة الحساسة. وهي لذلك بدأت منذ نهاية الحرب الباردة بتقليص وجودها العسكري في شرق آسيا واوروبا، في الوقت ذاته الذي كانت تعزز فيه هذا الوجود في جنوب اورو - آسيا ووسطها. ويلخّص الكاتب الاميركي تشارلز شليسينغر هذه التطورات على الشكل الآتي: "العراق ليس الا نقطة البداية في سلسلة تدخلات عسكرية أميركية واسعة في المنطقة. إننا كما اعتقد، نشهد بداية حرب باردة جديدة في جنوب - وسط اورو - آسيا، حرب ستتضمن العديد من الكوارث والأزمات العنيفة التي ستشارك فيها روسيا والصين وأوروبا والهند والعديد من الدول الاخرى متوسطة الحجم، ناهيك بدول الشرق الاوسط. وتبعاً لذلك يتعين علينا ان نتوقع بقاء القوات الاميركية في المنطقة فترات طويلة من الزمن". هذه الرؤية الاستراتيجية العامة المحيطة بالأزمة العراقية الآن، تسمح بالوصول الى خلاصات قد تكون غاية في الوضوح: أجل، حرب العراق بدأت وستستمر من اجل السيطرة على النفط. أجل، النفط هنا ليس مجرد طاقة او وقود، انه مدخل السيطرة على قارة أورو - آسيا، وبالتالي السيطرة على العالم الى عقود عدة مقبلة. وأجل أخيراً: حربا أفغانستانوالعراق ليستا سوى البداية في سلسلة من الحروب والتدخلات التي ستشنها الولاياتالمتحدة في كل منطقة جنوب - وسط أورو آسيا. وهي حروب قد تكون سياسية - ديبلوماسية، كما قد تكون عسكرية - أمنية. هذه قد تكون الأسباب الحقيقية التي تدفع الآن فريق بوش الى التمسك بخططه الاساسية في العراق. وهي خطط تبتعد كل البعد عن ايديولوجيات الديموقراطية وحقوق الانسان والحريات، وتقترب كل الاقتراب من ايديولوجيات المصالح الامبراطورية وبعضهم يقول أيضاً الامبريالية. بالطبع، استمرار هذه الخطط سيعتمد في النهاية على نجاح او فشل فريق بوش في تجربته العراقية الراهنة. لكن ما يمكن قوله من الآن، هو أن السيطرة على منطقة جنوب قارة أوراسيا ووسطها أي عملياً المنطقة العربية - الاسلامية هدف يتشاطره الجمهوريون والديموقراطيون. قد تختلف الاساليب وتتبدل الوسائل بينهم، لكنهم في النهاية متفقون على ضرورة إمساك اميركا بالمفاصل الجيوسياسية الرئيسة في الشرق الاوسط الكبير والعالم. عاشت الجيوبوليتيك!