هل ستخضع المنطقة العربية الى حقبة استعمارية جديدة؟ هذا ليس سؤالاً - فزاعة، ولا هو تضخيم سايكولوجي لمخاوف عربية لا تحتاج أصلاً إلى تضخيم. بل هو استشراف لمعالم مرحلة ربما نعيش الآن بداياتها الاولى. القصة تبدأ بالطبع مع بدء التدخلات العسكرية الاميركية في منطقة الشرق الاوسط الكبير، انطلاقاً من البوابتين الافغانية والعراقية. لكنها لا تنتهي هناك. فإلى جانب أميركا هناك أوروبا. وهذه الاخيرة قد تبلور عما قريب استراتيجية جديدة للشرق الاوسط، ربما لا تقل حدة في سطوتها وهيمنتها عن الاستراتيجية الاميركية. قد يقال هنا إن هذه الفرضية تتناقض بنداً ببند مع ما يطرحه الاتحاد الاوروبي الآن من صيغ جديدة للشرق الأوسط وللنظام الامني العالمي. فهو يدعو الى نبذ الحروب والتخلي عن مفاهيم موازين القوى وسيادة الدولة - الامة، وإلى الاعلاء من شأن الحوار السياسي السلمي والاندماج المشترك في النظام الاقتصادي العالمي. كما يطالب بالتعددية القطبية في قمرة القيادة العالمية، وبقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. بيد ان هذا الذي يقال، قد لا يكون أكثر من ذلك: أي مجرد أقاويل! فما هي حقيقة المشروع الاميركي في الشرق الاوسط الذي ينوي المشروع الاوروبي منافسته؟ "الثغرة القاتلة في الاحتلال الاميركي، هي أن أميركا ليست في العراق لخلق الديموقراطية، ولا لتسريع التنمية الاقتصادية، ولا لمصادرة أسلحة الدمار الشامل، ولا لمقاتلة الارهابيين، بل لخلق قاعدة سياسية وعسكرية طويلة الأمد لحماية تدفق نفط الشرق الاوسط. وهذا أمر معروف في كل منطقة الخليج، حيث الشعوب المحلية هناك عوملت طيلة قرن باحتقار، أولاً من جانب الامبراطورية البريطانية ثم من الولاياتالمتحدة. فعقداً بعد عقد، كانت هاتان القوتان تعارضان الحكم الديموقراطي، وتسقطان الحكومات الشعبية، وتقفان مع الحكام الاوتوقراطيين والفاسدين. وهذا دوماً من أجل النفط". هكذا تحدث جيفري ساش في "فاينانشال تايمز" أخيراً. "حصيلة كل التحليلات هي ان "الحرب العالمية ضد الارهاب" لها كل معالم الاسطورة السياسية التي تنشر لتعبيد الطريق أمام جدول أعمال مختلف كليا، وهو الخطط الاميركية للسيطرة على العالم، من خلال تأمين السيطرة على إمدادات النفط بالقوة". وهكذا تحدث مايكل ميتشر، وزير البيئة البريطاني في الفترة بين أيار مايو 1997 وحزيران يونيو 2003. وإضافة الى ساش وميتشر، يمكن إيراد عشرات الاسماء الغربية التي تشير إلى أن ما يجري الآن في العراق وأفغانستان، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالحداثة أو الديموقراطية أو حقوق الانسان، بل له علاقة كل العلاقة بصراع عالمي واسع النطاق للسيطرة على منطقة جنوب ووسط قارة أورو-آسيا. أي عملياً للسيطرة على العالمين العربي والاسلامي. هذا ما يطلق عليه في الولاياتالمتحدة الآن اسم التوجهات "الامبراطورية الحميدة" في الشرق الاوسط. لا بل يذهب كتاب أميركيون الى استخدام تعابير أكثر شجاعة بكثير من تعبير "الامبراطورية". فبعضهم لا يتردد في استخدام لفظ "الامبريالية الجديدة"، داعياً في الوقت نفسه الى إعادة النظر في المضامين السلبية لهذه التعابير لأنها، برأيه، تنطبق على امبراطوريات أخرى غير الولاياتالمتحدة. لكن، بغض النظر عن الألفاظ، لم يعد ثمة شك في أن الولاياتالمتحدة بشطريها الجمهوري كما الديموقراطي تنوي إخضاع الشرق الأوسط الكبير لسلطتها المباشرة لاعتبارات عدة أهمها، إضافة الى النفط والموقع الاستراتيجي في اللوحة الأورو-آسيوية العامة ان هذه المنطقة تعتبر المصّدر الرئيسي الآن لما يسمى في واشنطن ب"تحالف الارهاب - الدول المارقة". ومع مثل هذا التوّجه، كل الاسلحة مباحة، عدا بالطبع "سلاح الشعوب" في المنطقة. بكلمات أوضح: الأميركيون قد يختلفون مع حلفائهم الغربيين والشرقيين على كل شيء في المنطقة العربية، لكنهم متفقون على نقطة واحدة: عدم السماح لشعوب المنطقة بحق تقرير المصير. وهذا ينطبق على العراق، كما على فلسطين، كما على كل الدول العربية والاسلامية الأخرى. وحين تتم مصادرة حق تقرير المصير من الأجندة الاميركية، لا يعود ثمة بديل سوى فرض السيطرة الامبريالية أو الاستعمارية لا فرق المباشرة على هذه الشعوب. فهذا هو منطق الأمور، وهذا منطق التاريخ أيضاً، خصوصاً في الشرق الاوسط هذا عن أميركا، فماذا عن أوروبا؟ قلنا إن ما يعلن في أوروبا عن خطط للشرق الأوسط والنظام الامني العالمي، تبدو مناقضة للتوجهات الاميركية القائمة برمتها تقريباً على مبدأ القوة، وعلى فكرة نزع سلاح كل الدول عدا الولاياتالمتحدة كما اقترح مرة الرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت على ونستون تشرشل. لكن الصورة الفعلية ليست كذلك. فالكاتب البارز فيليب ستيفنز كشف النقاب أخيراً عن ان الأوروبيين يتوجهون شيئاً فشيئاً نحو تبني فكرة "الامبريالية الدفاعية" التي تقوم على الأسس الآتية: الدول الفاشلة في الشرق الاوسط تصّدر الفوضى عبر الشبكات الاجرامية، والهجرة الخارجة عن السيطرة، والارهاب وتجارة المخدرات. وعلى رغم أن الاحتلال الامبريالي بات فكرة عتيقة، إلا أن هذه المخاطر، مضافاً إليها انتشار أسلحة الدمار الشامل جنباً إلى جنب مع انتشار الارهاب، ستحتم على أوروبا تبنّي استراتيجية "الامبريالية الدفاعية". بيد أن الطرف الاهم الذي أشار بشكل مباشر الى احتمال عودة الروح الى فكرة الاستعمار الاوروبي، كان الديبلوماسي البريطاني الشهير روبرت كوبر. ومعروف أن هذا الديبلوماسي هو الذي ساهم في بلورة نظريات توني بلير رئيس الوزراء البريطاني حول مبدأ "التدخل الانساني" الذي يضع قيوداً على سيادة الدول الصغيرة بالطبع. وبالتالي فإن أفكاره تعكس الى حد بعيد تلك المتداولة في بعض الدوائر البريطانية والاوروبية. وفي دراسة له أخيراً بعنوان "الدولة ما بعد الحديثة" طرح كوبر الافكار الرئيسة الآتية: في العام 1989، وصلت الانظمة السياسية التي سادت في اوروبا طيلة ثلاثة قرون الى نهايتها، ومعها مفهوم موازين القوى. تلك السنة شهدت ليس فقط نهاية الحرب الباردة بل أيضاً نهاية نظام الدولة - الأمة في أوروبا. ومع تلك النهاية دخلت أوروبا عصر ما بعد الحداثة الذي تخلت بموجبه الدول الاوروبية عن مفهوم الحرب، وقبلت بتدخل الاخرين في شؤونها السيادية، وتبنّت بالكامل مفاهيم التعايش السلمي. بيد ان هذا السلام الداخلي الاوروبي، معرّض بشكل دائم الى خطر من مصدرين: العالم الحديث والعالم ما قبل الحديث. الخطر من العالم الحديث معروف، إذ ان هذا العالم يواصل الاستناد إلى مبدأ الامبراطورية، وتفوق المصالح القومية، وموازين القوى بين الدول العدوانية. اما التحدي من العالم ما قبل الحديث فهو جديد. فهذا العالم يتكّون من الدول الفاشلة، حيث الدولة فيه لم تعد تحقق شرط فيبر القاضي باحتكارها شرعية استخدام القوة. فهي إما خسرت هذه الشرعية أو خسرت احتكار استخدام القوة. لا مفر أمام العالم ما بعد الحديث لمواجهة هذه التحديات، سوى التعّود على فكرة المعايير المزدوجة. فبين أنفسهم يتعّين على الأوروبيين العمل على أساس القوانين والأمن التبادلي المنفتح. لكن حين التعاطي مع الاطراف الحديثة وما قبل الحديثة خارج اوروبا، سيكون عليهم أن يعودوا الى الوسائل العنيفة التي طبقت خلال القرون الماضية، أي القوة، والحرب الاستباقية، والخداع. في اوروبا يجب أن تسود سيادة القانون، لكن حين يتم العمل في الغابة، يجب أن يستخدم الاوروبيون قانون الغاب. الاسلوب الوحيد لممارسة هذه المعايير المزدوجة هو "الامبريالية الدفاعية". في الماضي كان اسم هذا الشكل من الامبريالية هو الاستعمار. لكن هذا التعبير لم يعد مقبولاً بالنسبة إلى الدول ما بعد الحديثة. ولذا استخدم تعبير "الامبريالية الدفاعية". والحال ان كل الشروط متوافرة لتطبيق هذا الاسلوب: فالضعيف يحتاج الى القوي، والقوي لا يزال يحتاج الى عالم منظّم. والامبريالية الدفاعية تعتبر مقبولة لعالم حقوق الانسان والقيم العالمية … صحيح أن هذه الامبريالية ستكون مثل غيرها من الامبرياليات من حيث الاعتماد على القوة والنظام والتنظيم، إلا أنها هذه المرة ستستند الى المبدأ الاختياري في مجالي الانضمام الى الاقتصاد العالمي والأمن المتبادل. ويعتبر روبرت كوبر ان كل الحروب التي شنّت أخيراً، من البوسنة وكوسوفو الى افغانستان، هي تجسيد عملي لفكرة "الامبريالية الدفاعية". ويختم بالكلمات المعبّرة الآتية: "هذه هي الرؤيا أي رؤيا الامبريالية الدفاعية. لكن هل بالامكان تحقيقها؟ الزمن وحده سيرد على هذا السؤال. فدول العالم الحديث تواصل السعي سراً للحصول على الاسلحة النووية. وفي دول العالم ما قبل الحديث، مصالح عصابات الجريمة المنظّمة، بما في ذلك الارهاب الدولي، تصبح شيئاً فشيئاً أكبر وأقوى من الدولة. وفي مثل هذه الظروف، ليس هناك كبير متسع من الوقت قبل تطبيق فكرة الامبريالية الدفاعية". هل يختلف هذا التوّجه الأوروبي عن الطرح الاميركي لمفهوم الأمن في عالم ما بعد الحرب الباردة؟ أجل. لكن في الألفاظ فقط. فبدلاً من "الامبراطورية الحميدة" هناك "الامبريالية الدفاعية". وبدلاً من القوة العارية هناك القوة المهذبة. ثم بدلاً من المفاهيم الجيو-سياسية السرية الاميركية المندمجة مع شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان، هناك المعايير المزدوجة التي تتعاطى بها أوروبا مع نفسها ومع الخارج. ومثل هذا التطابق في المضمون، يجب أن يعني الكثير بالنسبة إلى المنطقة العربية التي تنتمي في معظمها، وبامتياز، الى عالم ما قبل الحداثة وفق معايير كوبر. فهي تعني، أولاً، ان الخلافات الاميركية - الاوروبية الراهنة حيال الشرق الاوسط هي صراع للسيطرة على هذه المنطقة، أكثر منها تباين في وجهات النظر حول الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الانسان. وهي تعني، ثانياً، أن المنطقة العربية ستكون عرضة للاجتياحات، سواء تم ذلك باسم الحرب الأميركية على الارهاب، أو باسم "الامبريالية الدفاعية" الاوروبية ضد فوضى ومخاطر العالم العربي ما قبل الحديث. ثم انها ستعني، أخيراً، أن الاحتلالات الكاملة للدول العربية، أو على الاقل لبعضها، بات في أمر اليوم الدولي. قد لا تأخذ هذه الاحتلالات شكل الاستعمار القديم او اسمه، بيد انها لن تكون غير ذلك: أي إعادة إنتاج شكل السيطرة المباشرة الغربية السابقة بشطريها الأميركي والاوروبي على المنطقة العربية. وعلى أي حال، حين يضاف عامل جديد الى هذه السيطرة الغربية، وهو العامل الاسرائيلي المتحالف معها، لن يكون ثمة مناص من وصف كل ما يجري، وسيجري، في المنطقة العربية بأنه عودة حقيقية لاستعمار حقيقي