القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    جيش الاحتلال ينتهك قواعد الحرب في غزة.. هل يُفشل نتنياهو جهود الوسطاء بالوصول إلى هدنة ؟    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    العضلة تحرم الأخضر من خدمات الشهري    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بدولة الكويت يزور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    الكويت تلغى رسمياً حصول زوجة المواطن على الجنسية    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق ليس فيتنام أو الصومال لكنه بدأ يصبح أزمة استراتيجية عد عكسي للانسحاب الاميركي تمهيداً لحرب عراقية - عراقية ؟
نشر في الحياة يوم 10 - 11 - 2003

في أواخر تشرين الاول أكتوبر الماضي، فجّر وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد قنبلة سياسية صغيرة فاجأت خصومه وأنصاره على حد سواء في الادارة الاميركية.
فقد سرّب الى الصحف مذكّرة داخلية كان وزّعها على كبار مساعديه في البنتاغون، يثير فيها للمرة الاولى الشكوك حول ما اذا كانت الولايات المتحدة تربح حقا الحرب ضد الارهاب، ويشكو من عدم وجود "خطة بعيدة المدى" لإنزال الهزيمة به.
هذه المذكّرة التي وقعت في صفحتين واقتصرت على طرح الاسئلة، شكلت تحولاً حقيقياً في توجهات هذا الوزير الذي يوصف بأنه رأس حربة المحافظين الاميركيين الجدد. اذ كان يحرص دوماً في السابق على رسم صورة وردية لمحصلات الحرب على الارهاب، ويركز على الانجازات التي يتم تحقيقها في معارك العراق وأفغانستان.
ما دوافع رامسفيلد من وراء هذه الخطوة غير المتوقعة؟
الاجتهادات كثيرة. فقد اعتبر بعض المحللين الاميركيين أن البنتاغون يخطط لتوسيع امبراطوريته البيروقراطية، عبر الحصول على اعتمادات مالية ضخمة جديدة بحجة محاربة الارهاب، على رغم ان موازنة الدفاع الاميركية الحالية ناهزت ال400 بليون دولار، وهو المبلغ نفسه الذي خاضت به الولايات المتحدة حرب الاستنزاف الناجحة ضد الاتحاد السوفياتي.
وقال آخرون ان مذكرة رامسفيلد هي مجرد محاولة أخرى لتخويف الاميركيين من خطر الارهاب، بهدف تمكين وزارة الدفاع من مواصلة الامساك بكل تلابيب السلطة السياسية في الادارة الاميركية.
بيد أن ثمة من رأى في واشنطن أن المذكرة كانت تعبيرا عن وجود أزمة حقيقية في الحرب ضد الارهاب، خصوصاً في العراق، وأن رامسفيلد يريد إبعاد سهام الاتهامات بالفشل بعيداً عن صدر البنتاغون، تمهيداً لتوجيهها نحو صدور كل المسؤولين الاميركيين الاخرين. وهذا ما استنتجته "واشنطن بوست" حين قالت ان رامسفيلد "لاحظ اخيراً وجود فجوة بين كلماته وحقيقة ما يجري في العراق وأفغانستان. وهذا ما جعله يتخوف من ان الرأي العام الاميركي سيستنتج بأن البنتاغون فقد الصلة بالحقيقة او بأنه لا يمتلك احساساً بكيفية الرد على التحديات التي يواجه. ولذا قرر شن هجوم معاكس".
أي وجهات النظر هذه الاقرب الى الصحة؟
هذا لم يعد مهماً كثيراً الآن. فسواء كان رامسفيلد سعى الى الهجوم الاستراتيجي او التراجع التكتيكي في مذكرته، الا ان خطوته عكست في النهاية وجود تخبط اميركي حقيقي تجاه الحرب في العراق.
وهنا تجب ملاحظة نقطة مهمة: صدور مذكرة رامسفيلد مع عاصفة الجدل التي أثارت، قبل النكسة الكبيرة التي حلت بالقوات الاميركية في العراق، حين نجحت المقاومة في اسقاط طائرة هيليكوبتر من طراز "شينوك" مما أدى الى مقتل 16 جندياً واصابة 20 آخرين دفعة واحدة. وهذا كان أعلى رقم خسائر اميركية منذ الاعلان عن نهاية العمليات العسكرية الكبرى في العراق في أيار مايو الماضي.
كما انها جاءت أيضاً قبل اعتراف كبار المسؤولين عن مكافحة الارهاب في الادارة الاميركية بأن مئات "الارهابيين الاسلاميين" تدفقوا على العراق اخيراً من ست دول اسلامية واوروبية بهدف مقاتلة الاميركيين. وقدر المسؤولون عدد المنظمات الاسلامية المتطرفة العاملة الان في العراق بنحو 15، بعضها يقيم علاقات وثيقة بتنظيم "القاعدة" الذي يتزعمه أسامة بن لادن.
واذا ما عنى هذا شيئاً، فإنه يعني أن الازمة الاميركية في العراق ونسبياً في أفغانستان بدأت تتحول الى أزمة استراتيجية، على رغم حرص القادة العسكريين الاميركيين على اسقاط البعد الاستراتيجي عن نتائج المعارك في هاتين الدولتين.
وبالطبع، الازمة الاستراتيجية تتطلب حلولا استراتيجية من النوع الذي يطالب به الآن المرشحون الديموقراطيون لمنصب الرئاسة، والذي تريد ادارة بوش تجنبه بأي ثمن: وضع "استراتيجية خروج" من العراق.
وهكذا سارع بوش بعد اسقاط طائرة الهيليكوبتر الى التأكيد أنه "لا ينوي سحب القوات الاميركية من العراق قبل الاوان، لأن ذلك سيشجع الارهابيين ويزيد التهديدات ضد الوطن الاميركي نفسه". وفي الوقت ذاته، كان رامسفيلد يعلن أن الهجوم "لن يثبط عزيمة الولايات المتحدة في تحويل حرب الارهاب الى الارهابيين".
بيد أن البيانات التطمينية لم تطمئن أحداً في الولايات المتحدة، حيث بدأت أحاديث "الفتنمة" تتصاعد.
فقد شبه الكاتب الاميركي فيرنون لويب الهجمات الاخيرة للمقاومة في بغداد، بما في ذلك تلك التي استهدفت بول ولفوفيتز في فندق الرشيد، بعملية "التيت" رأس السنة الفيتنامية العام 1968 عندما هاجم الثوار الفيتناميون سايغون و36 عاصمة اقليمية اخرى.
والمرشحون الديموقراطيون أنفسهم، باتوا يتنافسون على عقد أوجه الشبه والمقارنة بين العراق وفيتنام. فقد قال السيناتور جون كيري أن تصريح الرئيس بوش حول "رؤيته النور في آخر النفق العراقي"، ذكره بتصريحات القادة الاميركيين خلال حرب فيتنام. وقال السيناتور جون ماكين، الذي سبق له أن دعم الحرب الاميركية على العراق: "هذه المرة الاولى التي أرى فيها شبهاً بين العراق وفيتنام، بسبب التناقض بين تصريحات الادارة وحقيقة ما يجري على الارض".
لكن، على رغم هذا الحماس لإضفاء سمة الفتنمة على ما يجري في العراق، الا أنه من التسرع في الواقع القفز الى هذا الاستنتاج. صحيح أن هجمات بغداد كانت جريئة ومتطورة نوعياً، الا أنها لا تقارن بأي حال بهجوم "التيت" الذي شارك فيه جيش فيتنامي شعبي جرار. وصحيح أنها هزّت ثقة القيادة العسكرية والسياسية الاميركية بنفسها، الا ان هذا ليس في حد ذاته مؤشراً على أن عمليات المقاومة بدأت تتحول من حرب استنزاف الى حرب شعب كما حدث في فيتنام.
وماذا أيضاً؟ هناك البرامج السياسية. فقادة المقاومة الفيتناميون قدموا لشعبهم رؤية قومية واجتماعية وسياسية واضحة حول مرحلتي التحرير والبناء، فيما قادة المقاومة العراقيون ما زالوا هم أنفسهم غفلاً ومجهولي الهوية والتوجهات.
وثمة نقطة ثانية لا تقل اهمية: فعلى رغم أن المقاومة العراقية حققت انجازات لا ريب فيها، أهمها دفع رامسفيلد وصحبه الى الاعتراف للمرة الاولى بوجود أزمة في حربي العراق وأفغانستان، وعلى رغم ان هذه الخطوة المهمة قد تليها خطوات أخرى في اتجاه احداث بعض التغيير في وجهة سير السياسة الاميركية ازاء العراق، الا أنه لا يزال أمام المقاومة شوط بعيد لتقطعه قبل أن يتسنى لها القول أنها أجبرت الادارة الاميركية الحالية على تغيير كل استراتيجيتها. لماذا؟ لسببين:
الاول، لأن هذه الاستراتيجية تستند أصلاً الى مفهوم القوة، وبالتالي فإن أنصارها في البنتاغون والبيت الابيض لن يكونوا في وارد القبول بسهولة بأن يفرض عليهم الآخرون تغيير سياساتهم بالقوة.
والثاني، لأن القبول بالتغيير الاستراتيجي يعني، ببساطة، القبول بدحرجة كل رؤوس المحافظين الجدد في السلطة الاميركية. وهذا أمر سيقاومه المتطرفون الاميركيون حتى الرمق الأخير.
والى هذين السببين يجب التذكير مجدداً بجملة الاعتبارات التي تجعل معركة المحافظين الجدد في العراق، جزءاً حيوياً من معركة اميركا نفسها للسيطرة على قلب مركز العالم: قارة أوراسيا. وهي معركة خطط لها الديموقراطيون قبل الجمهوريين، وتحمس لها المعتدلون قبل المتطرفين في الولايات المتحدة، كونها تحدد مصير الزعامة الاميركية للعالم طيلة عقود عدة مقبلة.
ماذا تعني هذه المعطيات؟
انها تعني، او يجب أن تعني، الكثير. فهي تعني أن ما يجري حالياً في العراق وأفغانستان وفلسطين وباقي انحاء المنطقة، هو في العمق معركة تحد واستجابة بين واشنطن وشعوب المنطقة: تحد من الجانب الاميركي يهدف الى اخضاع الشعوب العربية بالعنف العاري، واستجابة من هذه الشعوب لمنطق العنف بالعنف.
وهو يعني أيضاً ان نتائج هذه المعركة ستشكل الحد الفاصل بين استقلال المنطقة او استعمارها. فاذا ما انتصر المحافظون الجدد، سيعود الشرق الاوسط القهقرى الى ما قبل الحرب العالمية الأولى واتفاقات سايكس - بيكو، وسيعاد رسم خرائط المنطقة من جديد بإشراف اسرائيلي مباشر هذه المرة. واذا ما هزموا، ستكون الولايات المتحدة مضطرة للمرة الاولى منذ العام 1967 لأخذ التطلعات الوطنية والقومية للشعوب العربية في الاعتبار.
والحديث عن المحافظين الجدد، يعني ايضاً وبشكل اوتوماتيكي الشارونيين القدماء في اسرائيل. ذلك ان التحالف بين الطرفين بات واضحا كعين الشمس، او، كما قال محلل ليبرالي اسرائيلي، أصبح سراً مفضوحاً لا يحاول أحد في تل أبيب وواشنطن العمل على اخفائه.
وعلى سبيل المثال، بات معروفاً ان شارون ينفذ حرفياً تعليمات الصقر اليهودي الاميركي ريتشارد بيرل، التي تدعو اسرائيل الى استعمال القوة مع الفلسطينيين وباقي العرب، والى رفض العمليات السلمية الدولية، والى الاستناد الى مفهوم موازين القوى وحده في التعاطي مع المنطقة العربية.
وعلى سبيل المثال أيضاً، تحظى كل سياسات شارون بتغطية دولية واقليمية كاملة من ادارة بوش، تحت شعار ان اسرائيل والولايات المتحدة تخوضان معركة واحدة ضد الارهاب.
هذه الاعتبارات يجب أن تدفع الى محاذرة القفز الى استنتاجات متسرعة حيال النتائج السياسية للنكسات العسكرية التي تصاب بها الولايات المتحدة الآن في العراق.
فتحالف المحافظين الجدد - الليكوديين القدماء، ما زال يمتلك العديد من الاوراق الخطرة للغاية. وهو يبدو على اتم استعداد لاستخدامها في أي وقت.
وهذه حقيقة حذر منها قبل أيام مارك ماوزور، بروفسور التاريخ في جامعة لندن، عندما قال: "ان الصقور الاميركيين يمتلكون رؤية معسكرة حول العالم تستند الى أن القوة هي الطريق الوحيد الى السلام، والى انها اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب. وهكذا فإن الحرب مع سورية، او مجرد التهديد بها، سيسمحان لاسرائيل بتوسيع نفوذها مجدداً في لبنان وبإجبار "حزب الله" على التراجع. ومع إضعاف سورية سيصبح الفلسطينيون أكثر مطواعية".
تحذير قوي؟ أجل. وواقعي أيضاً.
ولعل الرئيس المصري حسني مبارك حمل خلال زيارته الاخيرة والمفاجئة الى سورية التحذير نفسه مما قد يعد له المحافظون الجدد - الليكوديون.
ولا عجب، فحين تصاب الذئاب بجروح، كما يحدث الآن في العراق، تصبح خطرة وشرسة وعنيفة وأكثر تمسكاً باستراتيجية القوة التي هي مبرر وجودها نفسه في البيت الابيض والبنتاغون.
واذا كانت "فتنمة" العراق لا تزال هدفاً بعيد المنال، الا ان هذا الهدف يفتقد بشدة الى التنظيم والفرصة. بيد ان هذا لا يعني أن هذين العاملين لا يمكن توفيرهما لتحقيق القفزة الى "الفتنمة". فالقوى الوطنية العراقية قادرة على بلورة برنامج سياسي يتمحور حول التحرير والديموقراطية، اذا تخلى قادتها عن "الأنا" والمصالح الفردية الضيقة، واذا انفتحوا على التحديات التاريخية الكبيرة الملقاة على عاتقهم.
والحال أن بوادر هذا الخيار بدأت تلوح. وهذا كان واضحاً من خلال المداولات التي جرت اخيراً في دمشق بين التيارات القومية والاسلامية والماركسية العراقية، والتي دعت الى الاعداد لمؤتمر وطني يمهد لعصيان مدني اذا لم تضع قوات الاحتلال الاميركي جدولاً زمنياً للانسحاب. كما كان واضحاً أيضاً من خلال وصول عدد من أعضاء مجلس الحكم الى الاستنتاج بأن ولادة العراق الجديد ستكون متعثرة في ظل استمرار قبضة الاحتلال.
ومثل هذه الحصيلة يجب أن تسرع في تبلور توجهات وطنية عراقية جديدة، تتقاطع فيها ألوان قوس قزح المجتمع العراقي كافة على ضرورة المزج بين الديموقراطية والاستقلال في برنامج سياسي واحد.
هذا عن التنظيم. اما عن الفرصة، فسيوفرها على الغالب صلف الجمهوريين الجدد الاميركيين. فهؤلاء ما زالوا متمسكين بأمرين: إدامة الاحتلال الاميركي أطول فرصة ممكنة، ورفض التخلي عن خيار الحلول العسكرية الاميركية المنفردة. وأحد هذين الأمرين كاف وحده لتحويل عمليات المقاومة الجزئية الراهنة الى انتفاضة شاملة، فكيف بكليهما؟
على أي حال، يعترف المحللون الاميركيون أنفسهم بأن المحافظين الجدد لم يعد أمامهم الآن سوى ستة أو حتى ثلاثة أشهر لإثبات قدرتهم على مواجهة المقاومة العراقية. وبعدها سيكون محتماً أن تتحول هذه المقاومة الى شرارة تشعل كل الارض العراقية.
وأشار مسؤول اميركي الى أن الجماعات العراقية المناوئة للاحتلال الاميركي، "تحاول شن حملة منسقة في كل انحاء العراق. وفي حال نجاحها، فإنها ستصبح اكثر فعالية وسيكون من الصعب منعها، لأنها ستطلق رسالة الى الشعب العراقي بأنها هي البديل عن الاحتلال".
واذا حدث هذا التطور، سيكون التغيير في السياسات الاميركية محتماً. لكن تغييراً في أي اتجاه؟
لنقل، أولاً، انه لا يبدو في الوارد لا الآن ولا في المستقبل القريب، ان تقوم الولايات المتحدة بانسحاب مفاجئ من العراق كما انسحبت بشكل مفاجئ من الصومال. فالأمور هنا مختلفة كلياً: في الصومال لا نفط، وقصة العراق "كلها نفط" كما يقال. في الصومال لا مواقع استراتيجية، والعراق في قلب قارة أوراسيا الاستراتيجية. وأخيراً في الصومال لا تنافس أميركي - اوروبي - روسي - صيني على السيطرة، فيما العراق أصبح البؤرة الرئيس للصراعات الدولية والاقليمية.
وهذا يعني أنه ليس في مقدور واشنطن، حتى ولو أرادت، أن تقطع حبل السرة مع العراق وتعلن "استقلالها" عن ازماته، كما فعلت في الصومال.
لكن، ثمة خياراً آخر أمامها: بدلاً من الانسحاب الى خارج العراق، العمل على الانسحاب الى داخله. كيف؟
لنستمع بدقة الى ما قاله رامسفيلد قبل أيام: "وجود القوات الاجنبية في البلاد العراق أمر غير طبيعي. والهدف الآن هو ان نبقي قواتنا فقط طالما ثمة حاجة لها، وهي لن تبقى بعد ذلك يوماً واحداً اضافياً".
هذه كانت المرة الاولى التي يشير فيها رامسفيلد الى أن وجود القوات الاميركية في العراق "أمر غير طبيعي". اذ منذ سقوط نظام صدام في أيار مايو الماضي، كان وزير الدفاع الاميركي حريصاً على وصف هذا الوجود بأنه "قوات تحرير" لا احتلال.
والى تصريحات رامسفيلد هذه، تتراكم الدلائل على أن الادارة الاميركية اعترفت بأنها ارتكبت خطأ حين عمدت الى حل الجيش العراقي، وانها ستعمل الآن على تصحيح هذا الخطأ عبر استدعاء الجنود وصغار الضباط للعمل من جديد.
وهذا يعني أن المرحلة المقبلة ستشهد تكثيف الجهود الاميركية ل"عرقنة" الحرب، أي لتحويل الصراع الى حرب داخلية عراقية - عراقية، على ان تقوم القوات الاميركية بالانسحاب التدريجي من ساحات المواجهة الى قواعد آمنة لها على أطراف المدن العراقية.
ويصف الجنرال الاميركي المتقاعد غراي أندرسون هذه الخطوة بأنها ستكون "استراتيجية الخروج" الاميركية الجديدة في العراق. وهو واثق تمام الوثوق بأنها ستنجح.
حسناً. ربما كان الجنرال أندرسون محقاً. ربما ينجح الاميركيون بالفعل في دفع العراقيين الى حافة الهاوية الوطنية. لكن، حتى لو تحقق ذلك، سيكون في وسع المقاومة العراقية الادعاء بأنها حققت نصراً من نوع ما.
فهي على الأقل أقنعت الاميركيين أن احتلالهم العراق ليس أمراً طبيعياً. وهي أثبتت لهؤلاء الاميركيين انفسهم بأن العراقيين ليسوا هنوداً حمراً جدداً أو أستراليين أصليين. كما أنها لعبت وستلعب أكثر دوراً كبيراً في مساعدة العراق على استعادة استقلاله وسيادته بالسرعة اللازمة.
وهذا وحده قد يكون كافياً للاستنتاج بأن القنبلة السياسية التي فجّرها رامسفيلد عبر مذكرته الاخيرة، لن تكون الاخيرة. انها، على العكس، قد تكون رجع الصدى الاول لأزمة مشروع المحافظين الجدد في العراق والشرق الاوسط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.