"المسألة أصبحت كخلط الاوراق: من المستحيل إعادتها الى سابق عهدها الا بمعجزة". هذا المثل الاوروبي ينطبق بحرفيته الان على الوضع في الشرق الاوسط. فأوراق اللعب السياسية والعسكرية في الازمة العراقية اختلطت بشكل لا يصّدق. والمعجزة لا تبدو واردة. والجهود لإعادة الامور الى سابق عهدها تبدو مستحيلة. وفوق هذا وذاك، يبدو ان الولاياتالمتحدة وصلت الى مرحلة في الملف العراقي لم يعد في وسعها معها الا التقدم الى الامام. إلى أين الى الامام؟ الى الحرب بالطبع. فقد تأخر العراقيون كثيرا قبل ان يقدموا فبل ايام على الاستسلام بلا شروط لشروط الولاياتالمتحدة. وسبب هذا التأخير هو نفسه السبب الذي دفع الرئيس العراقي صدام حسين في السابق الى دفع الاثمان الباهظة: سوء الحسابات. فقد اعتقد الرئيس صدام أن النقاشات الحادة التي كانت تجري في الداخل الاميركي، وبين اميركا وحلفائها الاوروبيين والعرب، طوال الشهور الاربعة الماضية، تمكّنه من ان ينام قرير العين في بغداد، من دون ان يكون مضطراً لمشاهدة أية كوابيس. وهو ظن أيضاً أن حصيلة هذه الانقسامات، ستعطيه مدى زمنياً كافياً يمكّنه من البقاء على عرش السلطة، الى حين نهاية ولاية جورج بوش الابن، تماما كما شهد في السابق نهاية رئاسة جورج بوش الاب ثم بيل كلينتون. لكن الرئيس العراقي ربما نسي أن سياسات ما قبل 11 سبتمبر، لم تعد قابلة للحياة بعد 11 سبتمبر. كما لم ينتبه الى أن اميركا بعد هذا الحدث الجلل، لم يعد في وسعها إستكمال "العمل معه كالمعتاد"، كما كانت تفعل في السابق، وهو عمل استند الى لعبة القط والفأر غير القاتلة لأي من الطرفين. وحتى خطاب الرئيس بوش امام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أسبوعين، وقبله خطاب نائب الرئيس ديك تشيني في 29 آب أغسطس أمام قدامى المحاربين، واللذين أكدا فيهما تصميمهما على مقاتلته، لم يقذفا نوراً في صدره. فبقي مقتنعاً بأن الزمن يعمل لمصلحته، وان الانتخابات الاميركية الرئاسية والبرلمانية قد تعيدان كلا من القط والفأر الى ساحة الملعب مجدداً. تطور آخر واحد جعل حاكم بغداد يعي خطورة ما يجري: تحّول الدول العربية والاوروبية بعد خطاب بوش من الضغط على أميركا لأقناعها بعدم شن الحرب على العراق، الى الضغط على العراق لأقناعه بالاستسلام لأميركا من دون حرب. فهو أيقن بأن هذه الاطراف لم تكن لتقدم على هذا الموقف، لولا تأكدها من ان الحرب الاميركية باتت على الابواب، وأن باب الاجتهاد حول هذه المسألة أغلق. وهكذا سارعت الحكومة العراقية الى إبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان موافقتها على عودة المفتشين بلا قيد أو شرط. وهكذا أيضا كان المناخ السياسي العراقي ينتقل بين ليلة وضحاها من موقع التحدي والمواجهة، الى موقع الاستسلام والوداعة. لكن الارجح ان السيف سبق العزل. فخطوة بغداد بدأت حيث انتهت خطوات واشنطن لشن الغزو. والقوات الاميركية لم تكتف بحشد مواردها البشرية واللوجستية في منطقة الشرق الاوسط، بل باشرت أيضا التمهيد الجوي لهذا الغزو من خلال قصف مراكز القيادة والتحكم التابعة لسلاح الجو العراقي. هذا في حين كان كل الدلائل يشير الى أن الولاياتالمتحدة حددت بالفعل ساعة الصفر للحملة العسكرية. وعلى رغم أن هذه الساعة تبقى بالطبع حبيسة السرية العسكرية المطلقة، الا انه بات سراً معروفاً أيضاً أن عقاربها تتأرجح بين موعدين لا ثالث لهما: تشرين الثاني نوفمبر وشباط فبراير. بالطبع، هذا لا يعني أن زمان الديبلوماسية انتهى. فخطوة المفتشين ستشجع فرنساوروسيا والصين وغيرها من الدول على الدخول مجدداً في بازار الحرب العراقية، إما لابتزاز تنازلات جديدة من اميركا في جورجيا لموسكو، وفي نفط العراق لباريس، وفي الاقتصاد الاميركي للصين، او لمنع واشنطن من التفرّد بحكم العالم. بيد أن الارجح ان تكون هذه الفرصة قصيرة الاجل. فادارة بوش تصّر، أولا، على الا تستغرق اللعبة الدولية حول العراق "اكثر من أيام أو أسابيع" وفق تعبير بوش. وهي تتمسك، ثانياً، باستصدار قرار من مجلس الامن يخّولها ضرب العراق جنباً الى جنب مع عودة المفتشين. وهي تتحدث، ثالثاً، عن ضرورة تنفيذ ما تسميه "التفتيش القسري"، أي ان ترافق وحدات عسكرية دولية المفتشين وهم يقومون بمداهماتهم في العراق. إضافة الى إصرار الادارة على أن تنفذ بغداد "فوراً" كل قرارات مجلس الامن ال11 الصادرة منذ العام 1991، وأن تلبي "فوراً" أيضا مطالبها الخمسة الخاصة بحماية حقوق الاقليات، وحقوق الانسان، وعودة الاسرى الكويتيين والايرانيين والطيار الاميركي، وتشكيل حكومة عراقية جديدة، والتعويض على جميع المتضررين من حروب صدام. وكل هذه الشروط والمطالب تؤكد أن واشنطن تمارس الديبلوماسية ليس لتجنب الحرب بل لتمهّد لها، وان هذه الحرب بالتالي آتية لا ريب فيها. لكن لماذا هذا الهوس الاميركي الكاسح بغزو العراق؟ النظريات كثيرة هنا، وهي تشمل العوامل الذاتية والسايكولوجية: رغبة جورج الابن في إنجاز المهمة التي لم ينجزها جورج الاب حين امتنع عن الزحف على بغداد العام 1991، أو حاجة الثنائي تشيني - رامسفيلد وهما أيضا من أبطال حرب 1991 الى حرب جديدة مع العراق، لاصلاح الخطأ الذي ساهما في ارتكابه. بيد أن هذه الاعتبارات الذاتية وإن كانت صحيحة تتقزم امام الدوافع الاستراتيجية الكبرى التي باتت تحّرك اميركا الجمهورية في حقبة ما بعد 11 سبتمبر. وهي دوافع تتلخص في ثلاثة محاور كبرى: مفهوم القوة في النظام العالمي، والنفط، والباكس أميركانا السلام الاميركي في الشرق الاوسط. في المحور الاول، بات واضحاً الآن ان فكرة الحرب على العراق ليست سوى الرأس الظاهر لجبل الجليد الاميركي المختفي تحت سطح البحر. فادارة بوش ترى الى هذه الحرب على انها البداية، مجرد البداية، لفرض مفهوم القوة الاميركية بالطبع على النظام العالمي الجديد. ويشير هنا الكاتب الاميركي الليبرالي وليام بفاف الى ان 11 سبتمبر قلب التشكيلات الجيوسياسية في الولاياتالمتحدة رأساً على عقب. إذ انه اطلق يد القوى المحافظة التي تمتلك رؤى راديكالية وطوباوية تقول ان هيمنة أميركا على المجتمع العالمي هي الخاتمة الطبيعية للتاريخ وهي فكرة مطابقة ل"نهاية التاريخ" لدى فوكوياما، وان القوة الاميركية قادرة على إستيلاد "القدر الواضح" الامبراطوري للولايات المتحدة. وقد عّبر الرئيس بوش مرتين الاسبوع الماضي عن هذا التوّجه، حين كرر القول أن أميركا "هي النموذج الوحيد الباقي على قيد الحياة للنجاح الانساني". وعلى رغم ان القوى الليبرالية والديموقراطية الاميركية ترفض هذا التوجه وتدعو، في المقابل، الى هيمنة اميركية تعتمد على "القوة اللينة" بدلاً من "القوة الصلدة"، وعلى التعددية في السياسات الدولية، الا أنها لا تبتعد كثيراً في الواقع عن هذه الرؤية ل"القدر الواضح" الاميركي. فالهيمنة مطلوبة بالنسبة إليها أيضاً، لكن بشكل "حميد". والقبضة الاميركية ضرورية، لكن بشرط ان تضع قفاز التعددية التشاورية مع الحلفاء والاصدقاء. وعلى أي حال، يذكّر المحافظون الاميركيون الجميع بأن الديموقراطيين والليبراليين الاميركيين هم الذين دشنوا سلسلة حروب السيطرة الاميركية في البوسنة ثم في كوسوفو وصربيا وافغانستان والسودان، وهم الذين أعلنوا في الواقع الحرب العالمية على الارهاب. كما انهم هم من كان يسعى لتحويل حلف الاطلسي الى حلف أطلسي - عالمي، لتمكين الولاياتالمتحدة من إحكام سيطرتها على قارة "أورو-آسيا" الاستراتيجية. وهذه بالطبع اتهامات صحيحة ودقيقة. ولا يزيدها صحة ودقة سوى الحقيقة بأن الديموقراطيين لا يتحفظون عن فكرة الحرب مع العراق بما هي خرق للقوانين الدولية، بل إنطلاقا فقط من حسابات الربح والخسارة. هذا عن المحور الاول. أما المحور الثاني، النفط، فهو ينبع مباشرة من فوهة بندقية فلسفة القوة. لماذا؟ لأنه، ببساطة، إذا ما كانت الولاياتالمتحدة تسعى الى فرض تصورها للنظام العالمي بالقوة، فأنها ستكون مجبرة بالضرورة على إحكام قبضتها على البترول الذي يشكل وقود هذه القوة. وحين تطفو أحاديث النفط على السطح، يبرز فوراً النفط العراقي، بصفته ثاني أكبر احتياطي في العالم بعد المملكة العربية السعودية، وتظهر ضرورة السيطرة المباشرة على العراق نفسه كجسر عبور. وقد أشار الكاتبان الاميركيان دان مورغان وديفيد أوتاواي "واشنطن بوست" - 16 أيلول الى هذه الحقيقة بصراحة، حين شددا على ان شركات النفط الاميركية العملاقة هي التي ستدير بترول العراق بعد إسقاط صدام حسين. اما روسياوفرنسا، اللتان أبرمتا صفقات نفطية أسطورية مع بغداد تقدّر بنحو مئة بليون دولار، فسيكون عليهما إرضاء الولاياتالمتحدة سياسياً أولا "كي تدرس منحهما حصصا ما في النفط العراقي". وهذا توّجه أكده أحمد جلبي، زعيم حزب "المؤتمر العراقي"، حين قال انه "يحبذ خلق كونسورتيوم بقيادة اميركا لتطوير حقول النفط العراقية". ومن النفط الى الباكس أميركانا الجديد في الشرق الاوسط، وهو الدافع الثالث وراء الاندفاعة البوشية نحو الحرب على العراق. في خضم هذا الباكس تبرز الان مؤشرات خطيرة للغاية. فقد كشف النقاب أخيراً في واشنطن عن ان القوى المحافظة الجديدة، التي لها اليد العليا في البيت الابيض هذه الايام، وضعت استراتيجية جديدة للشرق الاوسط تستند الى الآتي: شن حروب متصلة قد تستمر بضعة عقود في المنطقة، لاستئصال الارهاب منها. الحرب ضد العراق لتغيير النظام فيه، ستكون الخطوة الاولى في مثل هذه الاستراتيجية. كل الشرق الاوسط الكبير، بما في ذلك أفغانستان وباكستان، سيعاد صوغه كما أعيد صوغ أوروبا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وهذا يتضمن تغيير الانظمة في إيران، اضافة الى العراق، وبعض الدول العربية، ودعم بروز المجتمعات المدنية في المنطقة. هذا البرنامج سينشر في العدد المقبل من دورية "بوليسي ريفيو". لكن أحد المشاركين في وضعه، وهو مايكل ليدين من "مؤسسة أميركان انتربرايز" للأبحاث، اوضح خطوطه العريضة كالآتي: 1- قلة لاحظت أن الرئيس بوش حدد في الواقع اطر حرب واسعة النطاق. فوراء تعبير "تغيير النظام" ، ثمة رؤية متكاملة لحرب هدفها تدمير الديكتاتوريات في الشرق الاوسط وإقامة مجتمعات أكثر تحررا مكانها، كما فعلنا مع اليابان وألمانيا بعيد الحرب العالمية الثانية. 2-ستكون إيران وسورية وغيرهما على لائحة الدول المستهدفة. 3- مثل هذه الحرب الشاسعة بالكاد تحظى بتعليقات من جانب الصحافيين او السياسيين، لكنها متضمنة في كل ما قاله وفعله الرئيس بوش حتى الآن، خصوصاً تشديده على ان الديموقراطية ضرورية لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين، كما انها ضرورية أيضا للمنطقة. 4- أولئك الذين اعتقدوا ان أميركا أهتزت بعنف وهزلت معنوياتها بعد 11 سبتمبر، سيكتشفون قريبا بأن اعداء أميركا هم الذين سيكوننا موضوع "التغيير الثوري" الذي سيحصل على يدها. كلام واضح ومباشر؟ بالتأكيد. وهو يزداد بريقاً، إذا ما أضفنا اليه دافعي القوة والنفط. إذ حينها سندرك ليس فقط حوافز الحرب الاميركية الوشيكة على العراق، بل أيضا أسباب الاختلاط العنيف في اوراق الشرق الاوسط، والذي يحتاج، كما أسلفنا، الى معجزة ألهية لوقف تداعياته... وهي معجزة لا تبدو انها قريبة، أو حتى واردة