المفكّر السياسي الفرنسي جاك أتالي، الذي عمل مستشاراً للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، كانت له نبوءة مميّزة في الثمانينات. فقد قال في كتابه "النظام العالمي الجديد":ش "عاجلاً أم آجلاً، ستنفصل أميركا عن القارة الاوروبية، وستنضم الى حضارات آسيا - المحيط الهادئ. وهذا لأسباب ثقافية واقتصادية وسياسية وحتى أمنية وديموغرافية". وفي الاسبوع الماضي، بدا وكأن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الاميركي يشير بالتحديد الى هذه النبوءة، حين وصف فرنساوألمانيا بأنهما "تنتميان إلى اوروبا القديمة"، وأن هناك الآن "دولاً شرقية أهم منهما بكثير". ماذا يجري بين هذين الحليفين الاطلسيين التاريخيين، اللذين تتشّكل منهما حضارة صموئيل هانتينغتون الغربية؟ أو بالاحرى ماذا حل بالتحالف بين الحليفين؟ هناك نقطتان لاهبتان تعملان على دفع كلا الطرفين نحو "صدام الحضارات" عذراً مجدداً من صموئيل: الاولى تكتيكية والثانية استراتيجية. التكتيك هو العراق. والاستراتيجية هي مستقبل الاتحاد الاوروبي. لنحاول معا أولاً مقاربة نقطة الصدام الاولى. يحدد فيليب غوردون، وهو باحث في مركز الدراسات السياسية الاميركي، نقاط الخلاف بين الطرفين على النحو الآتي: يعتبر معظم الأميركيين أن نظام صدام حسين يشكّل تهديداً رئيساً للأمن الإقليمي والدولي، تنبغي مقاومته حتى ولو أدى ذلك إلى التلويح بالقوة العسكرية أو استخدامها. ففي رأي واشنطن لو قيّض لصدام أن يمتلك أسلحة نووية لقام باستخدامها للسيطرة على الشرق الأوسط، وغزو جيرانه، على الأرجح، كما فعل في الماضي، ولربما حال دون تمكين الولاياتالمتحدة من ردعه. وقد ينتهي الأمر بأسلحته النووية والبيولوجية أو الكيماوية إلى الوقوع في أيدي الإرهابيين الذين قد لا يظهرون واعزاً في استخدامها ضد الولاياتالمتحدة، أو قد يقدم صدام نفسه على فعل ذلك مدفوعاً بعطش الإنتقام. وفي الوقت الذي يبدو فيه أن أي فشل محتمل لمعالجة الوضع في العراق قد يسفر عن إلحاق السخرية بالقرارات الدولية لمجلس الأمن والقانون الدولي، فإن قراراً حاسماً لإطاحة صدام قد يحرّر الشعب العراقي، ويسمح، في الوقت عينه، للولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على العراق، وسحب قواتها من بعض مناطق الخليج. وقد ينطوي هذا الأمر، أيضاً، على تحقيق تقدم في اتجاه إحلال الحرية في الشرق الأوسط. في المقابل، لا ينكر الاوروبيون التهديد المتمثّل في النظام العراقي، غير أنهم يتساءلون عمّا إذا كان ذلك التهديد ضاغطاً حقاً إلى درجة تدفع المجتمع الدولي إلى المجازفة بغزو بلد عربي يقع في قلب الشرق الأوسط. فهم يخشون ان تؤدي حرب تُشن على العراق الى إراقة دماء غزيرة بين القوات الغازية والمدنيين العراقيين، خصوصاً إذا كان من شأنها أن تدور في المدن الآهلة، أو إذا ما أقدم العراقيون على استخدام أسلحة الدمار الشامل. وحتى لو تبين ان الغزو الأساسي يسير على نحو جيد من الناحية العسكرية، فإن الاوروبيين يشكّون في قدرة المجتمع الدولي على إحلال الاستقرار والديموقراطية بعد إطاحة صدام، كما يبدون قلقاً، في هذا الاطار، حيال النزاعات الدولية التي قد تنشأ بسبب الموارد والسلطة، الأمر الذي قد يشعل فتيل حروب أهلية. كذلك، يخشى الأوروبيون أن يؤدي هجوم على العراق إلى الانحراف عن الحرب ضد الإرهاب أو إفشالها، في الاساس، الأمر الذي قد يؤدي الى ظاهرة خطيرة غير مسبوقة لاستخدام القوة الوقائية من جانب واحد. هذه الخلافات "المنطقية" حول العراق، لا تشكّل سوى رأس الجليد المختفي تحت سطح البحر. أما الخلافات الحقيقية فتتمحور حول شكوك الاتحاد الاوروبي بأن واشنطن تستهدف من وراء حربها العراقية، وضع يدها نهائياً على كل نفط منطقة الشرق الأوسط الكبير بما في ذلك لاحقا نفط إيران وبحر قزوين، كخطوة أولى نحو القبض على قارة أورو-آسيا من خناقها. وكما هو معروف، من يُحكِم السيطرة على هذه القارة الشاسعة، تُكتب له الزعامة العالمية الى أجل غير محدود. إذ هي تنتج مع اميركا 80 في المئة من صناعات وزراعات وكل منتوجات العالم الاخرى المدنية والعسكرية. هذا عن "العراق التكتيكي". أما عن الاتحاد الأوروبي كهدف استراتيجي، فقد شهدت الايام القليلة الماضية، وللمرة الاولى منذ انتهاء الحرب الباردة العام 1989، تدخلاً اميركياً مباشراً وعلنياً في الشؤون الداخلية الاوروبية. بالطبع، مثل هذا التدخل تكرّس رسمياً منذ مشروعي مارشال والناتو في أوائل الخمسينات، بيد انه لم يأخذ مثل ذلك الطابع الفظ الذي يرتديه الآن. ففيما كان الرئيس جورج بوش يعلن بسخرية أن "اصدقاءنا في أوروبا تعلموا حقاً من الماضي ..."، كان سفراؤه ومبعوثوه يجوبون كل القارة العجوز من أقصاها الى أقصاها للضغط من أجل إضعاف المحور الالماني - الفرنسي. لماذا؟ ببساطة لأنهم باتوا يخشون ان يؤدي هذا التحالف المستجد أو المتجدد الى سياسات دفاعية وخارجية أوروبية اكثر استقلالية. وتنسب "نيويورك تايمز" الى ديبلوماسيين في بروكسيل قولهم ان المبعوثين الاميركيين، أبدوا في اجتماعاتهم الثنائية مع القادة الاوروبيين قلقهم الشديد من النزعات الاستقلالية والفردية التي بدأ يبديها التحالف الالماني - الفرنسي. وكان الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الالماني غيرهارد شرودر قد حلا خلال شهر واحد العديد من خلافاتهما العويصة حول مستقبل الاتحاد الاوروبي. ومعروف أن ألمانيا تريد اتحاداً فيديرالياً اوروبياً على النمط السويسري، بما في ذلك التزام سياسة الحياد في الساحة الدولية. هذا في حين تفضل فرنسا صيغة أقل فيديرالية بكثير، تعطى فيها الدول - الامم ال25 الاعضاء القول الفصل في كل الشؤون المهمة، على أن يمارس الاتحاد دوراً فعالاً في الساحتين الاقليمية الاوروبية والدولية. وتوصّل الرئيس والمستشار الى حلول وسط بين هاتين الرؤيتين. وهذا بالتحديد ما أثار قلق الولاياتالمتحدة. ويقول ديبلوماسي أوروبي في بروكسيل: "لقد أبلغنا الاميركيون بشكل واضح أنهم لا يحبّون بعض المجالات في الخطة الالمانية - الفرنسية الجديدة، ويشكّون بأنها ستغيّر أوروبا بطريقة يمكن أن تعيد تعريف التحالف الاطلسي بشكل نهائي". وتشير الكاتبة البريطانية جودي ديمبسي الى انه نادراً ما تعرّض التحالف الاطلسي الى ما يتعرّض له الآن من توتر، حيث تهّدد برلينوباريس بالاستقلال عن واشنطن، وتلوّح هذه الاخيرة بالانفصال عن الاطلسي والإبحار نحو منطقة المحيط الهادئ. وتضيف أن "ما يقلق أميركا ليس "أوروبا القديمة" التي أشار إليها رامسفيلد، بل اوروبا الجديدة التي تخلقها الآن برلينوباريس، خصوصاً في مجال الانفاق على التسلّح". قد يبدو من كل هذه المواقف، أن الاميركيين في موقع الضعف فيما الالمان والفرنسيون لهم اليد العليا في تحديد طبيعة العلاقة بين ضفتي الاطلسي، وبالتالي في رسم معالم النظام العالمي الجديد. لكن الصورة أبعد ما تكون عن ذلك، للأسباب الآتية: 1- الاتحاد الاوروبي ليس "في زورق واحد"، لا حول العراق ولا حول المستقبل الاوروبي. ففي مواجهة المحور الالماني - الفرنسي، هناك تحالف عريض يضم الى بريطانيا، إيطاليا وإسبانيا وعدد من الدول الاوروبية الصغيرة التي تخشى هيمنة الجرمانيين والغاليين على مصائرها. 2- الاتحاد الاوروبي ليس قادراً بعد على تحمّل مسؤولية الامن في القارة. صحيح انه يمتلك الامكانات الاقتصادية والتكنولوجية لبناء جيوش متطورة، الا ان الصحيح أيضاً أن هذا قد يتطلب سنوات طويلة من الاعداد والتنسيق المشترك. وخلال هذه الفترة قد يحدث "أي شيء" على الصعيد الامني، سواء في البلقان أو شرق أوروبا أو قرب روسيا. وفي حال فشل الاتحاد في مواجهة هذا ال"أي شيء"، سيكون المشروع الاوروبي كله على كف عفريت. 3- بالطبع، ليس من مصلحة الولاياتالمتحدة الاقتصادية حدوث مثل هذا الانهيار. فأوروبا هي شريكها الاول تجارياً وفي مجال الرساميل المشتركة. لكن الاميركيين "لن يمانعوا" إذا ما وقع أشقاؤهم الاوروبيون في بعض المعضلات التي لا تقتل الراعي ولا تفني الغنم. بكلمات اخرى: لا يستبعد أن تثير أميركا المشاكل في وجه بروكسيل، سواء في الداخل عبر تحريك الصراعات الاثنية مجدداً، او في الخارج من خلال تطويق محور باريس - برلين ب"ستار حديدي" يمتد من الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية في الجنوب الى معاقل الدب الروسي في الشرق، مروراً بالطبع بحديقة واشنطن الخلفية في الجزيرة البريطانية. حسناً. إلى أين الآن من هنا؟ الكثير سيعتمد على ما سيجري في العراق. فإذا ما تمكنت الولاياتالمتحدة من تحقيق نصر بلا حرب، أو حرب بنصر كاسح، في بلاد ما بين النهرين، ستكون حينذاك قادرة على الانقضاض على محور باريس - برلين وعلى تمزيقه شر تمزيق. ففرنسا، الباحثة أبداً عن دور عالمي يعيد لها بعض وهج مجدها الامبراطوري، لن تتحمل ان تطرد من الشرق الاوسط. وهي ستكون مضطرة الى مغازلة واشنطن ثانية. وإذا ما حدث ذلك وهو سيحدث حتماً ستجد برلين نفسها في العراء من دون ملابس تقيها صقيع سهوب شرق ووسط اوروبا وجبالهما. أما اذا تعثّرت أميركا وعلقت في فخ عراقي أو شرق اوسطي ما، فهي التي ستكون في حاجة الى هذا المحور ومعه بالطبع كل إمكانات حلف الاطلسي. ووقتذاك ستكون واشنطن ربحت العراق وخسرت اوروبا. وهذا يعني أن كلا الطرفين الاطلسيين يقومان الآن بمقامرة كبرى ستحدد نتيجتها ليس فقط مصير أوروبا، بل أولاً وأساساً مصير الزعامة العالمية الاميركية والنظام العالمي الجديد برمته. وكما في كل مواجهات من هذا النوع الديناصوري، ثمة دوماً ذئاب تنتظر على حوافي الصراع لترى ما يمكن أن تقتات منه. وهذه الذئاب هي الان روسيا والصين وأيضاً اليابان والهند، التي ستجد أهميتها الاستراتيجية قد تضاعفت مرات عدة بفضل هذا الصراع. وهذا، على أي حال، ما كانت تفعله الولاياتالمتحدة نفسها التي كانت تنتظر أن يدمر الاوروبيون بعضهم البعض في الحروب العالمية قبل أن تتقدم هي لجني الرؤوس التي أينعت وحان قطافها. والتاريخ سيعيد نفسه الآن، وإن بالمقلوب، لمصلحة آسيا. وعندها ستكون نبوءة جاك أتالي قد تحققت بحذافيرها