إذا كان من تصويب لكتاب جورج قرم "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" فإن التصويب يبدأ بالشق الأول من العنوان، اذ رأى جورج قرم الى الشرق والغرب ككتلتين من كتله الاقتصادية، فاختصر الشرق بالحركات الأصولية، وردّ الغرب الى صقور الادارة الأميركية، وخطابهم التوراتي. أما التصويب الثاني فهو ترجم imaginaire بالأسطوري، وشتان بين الوهمي، والمتخيل، والأسطوري. إذا كان من اقتراح لشفافية ما يقرأ من عنوانه، فالأجدى بالعنوان ان يكون: الأصوليات: وجهاً لوجه، حفاظاً على وجه أوروبا، ووجه الشرق الأقصى العريق! ففي كتاب جورج قرم الصادر عن دار الساقي، ينشدّ المؤلف في مقدمته الى كتاب أوزوالد شبنغلر "أفول الغرب"، والى المؤرخ الانكليزي ارنولد توينبي في كتاب: "التاريخ: محاولة تفسير" ليؤكد اعلان توينبي عن حدسه بمستقبل الغرب القاتم الذي عجز عن ايجاد لغة للأخوة العالمية التي تسمح للانسان بأن يشعر بالأمان في علاقته مع الآخر المختلف عنه. فمقولة: النحن والآخرون، يصفها جورج قرم بالتبسيطية، ويكتفي بتعاليه الانساني، وبتسامحه الطفولي مع الذات والآخر. فجورج قرم الذي يرى ان سوسيولوجيا ماكس فيبر لا تزال تهيمن على العلوم الاجتماعية، يضيق ذرعاً بسوسيولوجيا تفصل بين المجتمعات الحديثة المعقلنة، والأخرى الكاريزماتية او السحرية حيث السيطرة للزعيم البطريركي وما له من حظوة على رعيته في أنظمة الآخر، عند الأوروبي. هذه الحظوة البطريركية، وإن أغفلها قرم ولم يُشر اليها، هي التي ألهمت من عانوا استبدادية الواحد، من كتّاب أميركا اللاتينية، ومنهم غابرييل غارسيا ماركيز في "خريف البطريرك" الذي صوّر فيه النموذج الأعلى للديكتاتور، بحيث سمحت الشعوب "لمهرّج" ان يصنع تاريخها، وهو ما صنعه مهرجون كثر في أوروبا الحديثة من ستالين، الى هتلر، الى موسوليني، الى فرانكو، في مجتمعات كاريزماتية تحوّلت بهم الى مجتمعات قبلية، تسحق الفكر النقدي، وتهمش أصحابه، وتحكم عليهم بالمنافي والسجون، وهو ما تزال تضج به كتابات سولجنستين في "أرخبيل القولاق" و"ممرات مرضى السرطان". فالغرب "العبقري" و"النرجسي" الذي يستبدّ ب"مركزية العقل" و"استقلالية الفرد" يرى اليه قرم، وكأنه انفصل منذ قرون عن باقي البشرية، ليعلق في اشكاليات "لا فائدة منها" في فهم العقد النفسية، والعُصابات، والموجات العارمة من القلق الوجداني، والمشاعر الملتبسة، والأهواء العنصرية. هو الغرب يختزله قرم بأمراضه، متجاوزاً مآسي إنسانه الذي سُجن في محاكم التفتيش، ومحاكم التكفير، وغُرّم بصكوك الغفران، وحروب الكاثوليك والبروتستانت، ودفع أثمان الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما دفع بجورج قرم ان يستهجن تمرّد الانسان الغربي المثقل بعبث الوجود، وأسطورة الحرية، بغير ان تعزيه هيمنة استعمار، او رغد عيش، بعد ان زجّت به الحروب في أتونها اللاانساني، من دون ان تقيم وزناً لإنسانيته. فالانسان الغربي الذي حوّلته أنظمة التوسع والاستعمار الى "وقود"، أصبح يخشى على نفسه من "وحشية النظام"، و"وحشية السياسة"، و"وحشية الإدارة" و"وحشية التأويلات التوراتية"، وكلها وحشيات أسقطته في مهاوي عالم سوريالي، وعبثي، ومجنون، يستجدي فيه هويته الانسانية، فيقع منها على هوية "في الدرجة الصفر" كشخصيات صموئيل بيكيت "في انتظار غودو" او على "كتابة في الدرجة الصفر" كالتي دعا اليها رولان بارت، إذ أعاد لإنسانه الغربي عناصر الخلق الأولى: الماء، والنار، والتراب، والهواء، وطلب اليه ان يقف وحيداً في مفازة الوجود والعدم، وأن يعيد تشكيل العالم، بعد ان يقتل ذاكرته الجماعية، وانتماءه الحضاري، ووعيه الانساني الذي لا بدّ من تهديمه، ليرسم عالماً لا ذاكرة له ولا انتماء، هو عالمه اللاواعي الأخرق بكل ما فيه من وحشية وغريزية وبدائية. هذا الانسان الفرد، إذ يتعالى قرم فوق مآسيه وجراحه، هو نفسه من أدخله جاك دريدا فيلسوف العصر في دائرة التفكيك، والتشظي، والبعثرة، والهجنة، ليصبح لقيطاً، وغريباً عن آبائه من اليونانيين الذي مجّدوا "مركزية العقل". فجاك دريدا اذ استلهم تفكيك انشتاين للذرة ونواتها، سحب الفيزياء وما لها من سطوة علمية، على تهدّم الانسان، وتبعثره في شظايا يستحيل التئامها. فالانسان الغربي الذي يصرعه قلق الأنظمة الاقتصادية، والصناعات النووية، والبطالة، وغزو المريخ والزهرة، هو انسان مخلوع من انتمائه، وهويته التي تشظت، لتحلّ محلها هوية "لقيطة" تشبه الرقع في ثوب المتصوف. فجورج قرم إذ يغلب عليه في "شرق وغرب" علم الاقتصاد، لا علم "الأناسة"، بإمكانه ان يحلم بشرخ وهمي يساوي فيه اقتصادياً بين شرق وغرب، ينظر اليهما ككتلتين في الانتاج، وتوزيع الثروات بين شمال وجنوب، او بين "النحن" و"الآخرين". فالآخر الذي يستحوذ على فكر قرم هو الآخر الذي يستلهمه من صاموئيل هانتنغتون في "صراع الحضارات" ليرى الى الطريقة السطحية التي استغل بها المؤلف الشرخ المتخيّل بين الشرق والغرب، ويرده الى انتصار الثقافة الانكلوساكسونية المطبوعة بالبروتستانتية وتمسكها بالنماذج التوراتية الأساسية. هذا التمسك البروتستانتي التوراتي هو ما يميز سكان الولاياتالمتحدة الأميركية، على خلاف الحال في أوروبا. فالمجتمع الأميركي يبذل قصارى جهده لتسيير الحرية والإيمان جنباً الى جنب، ويرفض إقصاء الدين عن المجتمع، لأن المجتمع الأميركي هو الأكثر تديناً في العالم الغربي، والأكثر محاربة للعلمانية. لذا فإن أسطورة "شعب الله المختار" التي لا تستوقف جورج قرم كعقيدة عنصرية، هي التي بدأت تتحكم بعولمة الثقافة، والاقتصاد، والمناهج الأكاديمية، التي ينتجها العالم الانكلوساكسوني ويصدرها الى جهات العالم الأربع. ثم ان نقاط الاختلاف التي يشير اليها قرم في التمايز الثقافي والعلماني والحضاري بين أوروبا وأميركا، هي التمايزات التي كان قارئ كتابه يتمنى ان يرى الى اختلافها بين أوروبا العلمانية التي تنتج الفكر الانساني، وتؤكد على الحرية والمساواة، وبين أميركا التي لا تدين الا بالعنف التوراتي، ترسم منه "الخطوط الحمر"، وتقيم الحدود، وتصرع المتجاوزين. فمؤلف "شرق وغرب" اذ يمثل بإميل دوركهايم الذي كان يردد "لا تنسوا انني ابن حاخام" يسأل بكل براءة عن أهمية الدين في صياغة أفكار الجماعات وعن أهمية إله توراتي اختار ان يكافئ بعض الشعوب، ويبيدَ شعوباً أخرى، ثم يسأل عن تغييب لغة العقل التي هي موروث يوناني - أوروبي - مسيحي. وإحلال لغة التوراة محلها، اللغة التي تجعل الخلاص حكراً على فئة مختارة، متجاهلة ان الفئة الأخرى هي أيضاً "خيرُ أمة أخرجت للناس". فأنّى لجورج قرم ان يستهجن الضجيج والفتن والمنازعات القائمة حول خلاص هاتين الفئتين، دون غيرهما من شعوب أوروبا، والشرق الأقصى، من الصين الى اليابان، الى الهند، وهي كيانات صنعت ثوراتها الثقافية، والأخلاقية، والصناعية، وغايتها "الانسان"، وشعارها "الدين لله، والعالم للجميع". فجورج قرم إذ يبحث بكثير من الطوباوية والمثالية عن أخوة عالمية، فاته ان أخوةً كهذه، صارت مستحيلة، إذ راح بعض الفكر في أوروبا يدمر ماضي أوروبا اليوناني، ومركزية العقل فيه، ليفرض عليها الأخذ بتشريعات ماركس، وعدمية نيتشه، وعٌصابات فرويد، بحيث أنكرت أوروبا الفكر: عصر الأنوار، والثورة الفرنسية، والعلمانية التي قال فيها فاليري: أوروبا هي ثمرة من ثمرات اليونان وروما والمسيحية. وإذ يسخر قرم مما يسميه "أسطورة المعجزة الاغريقية" يسأل: هل يجوز ان ننسب العقلانية الغربية حصراً الى المعجزة الاغريقية؟ ألم تكن الثقافة العظيمة الجامعة مستقاة من الشرق، ومن العلاقات المتينة التي قامت بين اليونان والحضارة الفرعونية، وحضارات الفرس، وممالك ما بين النهرين؟ إن أحداً لا يجرؤ على إنكار حضارة الفراعنة والفرس والبابليين والكلدانيين والآراميين والأشوريين، غير أن أحداً لا يجرؤ على العودة الى تاريخ "التوحيد" الذي يردّ فرعونياً الى هرمس، او الخلود الذي يردّ الى جلجامش، او الثنائية الزرادشتية التي تفصل بين إلهي النور والظلام، لأن عودة كهذه، تفسر بأنها عودة الى الوثنية، ولو ان الوثنية ضجت بأسئلة الواجب الوجود، والعقل الأول، والواحد البسيط، الذي ألقى بثقله على كل المدونات، التي استلهمته، ثم عادت وتنكرت له. فالفكر في مهوده الأولى ينعق بالأسطوري ولو كان "غيبياً"، والدراسات المقارنة لا تجرؤ على المقاربة والتوكيد ان ما أنجزته الفرعونية كان أصلاً راح يتفرع في الفلسفة حيناً، وفي العلوم أحياناً. إن قارئ جورج قرم كان يتمنى الاّ تأتيه المقارنة الاعتذارية في الصراع الوهمي بين شرق وغرب، بثوب ديني يسوِّغه التوراتي لنفسه، فيرد عليه الأصولي بالنفور المتطرف نفسه. فالخلاص "الابراهيمي" الذي خرجت عليه أوروبا العلمانية، هو خلاص عاد يرسخه جاك دريدا فيما يسميه اشكالية الأبوة اذ يقول: "إن الأصل الابراهيمي هو في متناول التفكيك، لأنه أصل بلغ نقطة انشطاره واختلافه. فهذه النقطة في محكي سفر التكوين اسمها ابراهيم، وحوله تشكيل أول أسرة توحيدية". وإذ يتابع دريدا يقول: "إن الضفة التي ليست لا أوروبية، ولا لاتينية، ولا مسيحية، أليست هي حيث تتداخل اليهودية والاسلام؟ نحن نعلم ان هناك يكمن عذاب الكائنات والفكر، وأن فك الرموز لن يأخذ بعده الحقيقي الا حين ينقضي التمزق الاسرائيلي - الفلسطيني". وهكذا صار الخلاص هجنة مقلقة يتحدث جاك دريدا كهجنة هوية وانتماء وشرعية، انها هجنة أصله "الابراهيمي" الذي يودّ بسببه ان يحطم منه امتياز "اللوغوس" اليوناني ومركزيته يستبدله بمركزية الصوت ويصبه في قالب ألسني. فدريدا اذ يخشى عنف "اللوغوس" الذي يعني "الكينونة" فاته ان العزيز المتعالي لم يمت في ديار المشرق والاسلام، وان الابراهيمية المشرقة هي "العقيدة" وليست "الاسم العلم". فالتفكيك الذي يدعو اليه دريدا هو تفكيك يحرر النقد من أوهام الحقائق المطلقة، ويتيح له ان يتكلم أكثر من لغة، فيبني بلغاته تاريخاً دائم "الاهتزاز"، ونصوصاً دائمة "المراوغة"، وهويات دائمة "المساءلة"!