مَن يقرأ كتب جورج قرم وآخرها كتاب "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" يدرك جيداً لماذا لم تستطع الدولة اللبنانية أن تستوعب مفكّراً وعالم اقتصاد واجتماع في حجمه وفي رصانته ومثاليته! كان من الطبيعي أن يتعرض جورج قرم خلال تولّيه وزارة المال في حكومة الرئيس سليم الحص 1998 - 2000 للحملات المغرضة التي أظهرت "جهالة" خصومه وفضحت أساليبهم الخبيثة وكان هو خارجاً لتوّه من معركة "الإعمار" التي خاضها كمعارض يراقب ويحلل ويستخلص. راح الخصوم حينذاك يقرأون كتبه لا ليتثقفوا بها أو يستفيدوا منها وإنما بحثاً عن مآخذ يعلنونها ضده محرضين بها المسؤولين السوريين عليه وعلى مواقفه النقدية التي شملت السياسة السورية. يذكر المواطنون كيف أطل أحد الوزراء اللبنانيين على الشاشة الصغيرة حاملاً أحد كتب جورج قرم وقارئاً بصوت راسخ بضعة مقاطع تنتقد النظام السوري، وكان كلما قرأ مقطعاً يتوقف ليذكّر "الجمهور" أن صاحب هذه الأفكار هو وزير في الحكومة. ومثله أيضاً فعل بعض الإعلاميين الذين تنكّبوا قراءة كتبه بحثاً عن جملة أو مقطع ينتقد سورية! إلا أن الحملة المغرضة تلك فشلت في تحريض المسؤولين السوريين على الوزير قرم الذي لم يبدّل آراءه ولا مواقفه، ولم يسع يوماً الى "تمسيح الجوخ" كما يقال. وفات أصحاب الحملة أن جورج قرم كان واحداً من المستشارين الاقتصاديين الذين استعانت بهم الدولة السورية في قضايا مالية ومصرفية عدة، مثلها مثل الجزائر وتونس والمغرب واليمن وإيران وسواها. وفاتهم ان المسؤولين السوريين لا يحتاجون الى مَن يذكّرهم بأي موقف معلن ضدّهم وأنّهم لا يأخذون بمثل هذا التحريض الرخيص أو بمثل هذه "الغيرة" المفضوحة على قضاياهم السياسية. كان جورج قرم أكبر من كل هذه "الحملات" المغرضة التي شهرت في وجهه "السيف" السوري. وهو سرعان ما باشر في برنامجه الإصلاحي، واستطاع خلال فترته الوزارية القصيرة أن يحقق منجزات لافتة، وفي مقدمها دفع متأخرات الدولة للقطاع الخاص وخفض مستوى الفوائد وإعادة التوازن الى ميزان المدفوعات وسواها... ويكفيه أنه ظل طوال فترته الوزارية يقاوم مبدأ زيادة الضرائب على المواطنين الذين ما عادوا قادرين على تحمّل المزيد منها وكأن مسؤولية الديون العامة الباهظة تقع على عاتقهم هم. بدا جورج قرم مفكراً مثالياً في دولة لا تولي الفكر والمثالية أي اهتمام، وبدا رجل إصلاح في وزارة هي صورة عن الإدارة اللبنانية التي تحكمها المصالح الشخصية ويتآكلها الفساد والجهل واللامنطق. وكان رجل السياسة والاقتصاد والعلم في "سلطة" هي أشبه ب"مغارة علي بابا"، تنهكها الفضائح والصفقات... دولة ينقلب فيها المسؤول الى متهم ثم ينقلب من متهم الى مسؤول. كان من المستحيل على جورج قرم أن يبقى وزيراً في دولة لم يبق من معالم الدولة فيها إلا السلطة! مفكّر سياسي ومؤرّخ وعالم اقتصاد يملك رؤية جلية الى شؤون لبنان والمنطقة والى قضايا عدة متوسطية وعالمية. وكتبه التي جمعت بين الفكر السياسي والاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ باتت تصدر الآن في كتب "الجيب" في فرنسا محققة رواجاً لافتاً. يسعى جورج قرم في كتابه البديع "شرق وغرب..." الى دحض وجود "الشرخ" الذي طالما جرى الكلام عنه، بين الشرق والغرب، معتبراً إياه شرخاً خيالياً ووهمياً. فالخط الذي فصل بين الشرق والغرب لم يكن ثابتاً عبر التاريخ، وهو تأرجح وفق التطورات السياسية الدولية المتتالية وبات الغرب يسيطر عليه وخصوصاً بعد انهيار "الكتلة الشرقية". ويمضي قرم في تفنيد المسلّمات الرئيسة التي ارتكز إليها الفكر الحديث جاعلاً منها منطلقاً لرسم ذلك الخط "الخيالي" بين شرق وغرب، وهو في نظره خط تبدلت حدوده ومعالمه عبر التغيرات التي شهدتها السياسات الدولية والأوضاع الاقتصادية والعسكرية. يطرح جورج قرم الكثير من الأسئلة بغية الإجابة عنها: هل تقسيم العالم ثنائياً الى شرق وغرب له جذور في الواقع الموضوعي؟ هل للشرق والغرب ملامح أبدية لا تتبدل؟ من يحدد تخوم الشرق وتخوم الغرب وأين هي تلك التخوم؟ وردّاً على مثل هذه الأسئلة يسبر جورج قرم فلسفة الأنوار الأوروبية ومناهج الفكر في العلوم الانسانية الحديثة وهي "غربية" الطابع، وكذلك ردود فعل المجتمعات "الشرقية" التي احتكت بالحداثة الغربية وتأثرت بها. ويستعرض أيضاً مسلّمات الفكر الحديث آخذاً على المثقفين العرب قبولهم بها من دون نقد معمق، ومن دون التطرق الى وظيفة هذه المسلمات في الخطاب الغربي. ويخلص الى أن الشرخ قام في مخيلة رجال الإعلام وبعض الأكاديميين الأميركيين النافذين وأركان الحكومة الأميركية الذين روّجوا لمقولة "صراع" الحضارات أو الأديان وفي ظنهم أن التاريخ جامد ومتمحور حول التعصب الديني. ولا غرابة أن يسمّي جورج قرم مثل هذه "النظرة" الجامدة بالهذيان و"الجدلية العقيمة" ساعياً الى تفكيك مقوماتها عبر نقد المقولات البارزة للفكر الغربي والفكر العربي في هذا الصدد. ويرى ان المثقفين، غربيين وعرباً، عجزوا عن القضاء على هذه "الثنائية الفتاكة" التي قسّمت العالم الى شرق وغرب لا يمكن أن يلتقيا. وانطلاقاً من هذه المقاربة النقدية يفنّد جورج قرم المبررات و"الأكاذيب" التي رسّخت هذا التصور "المتوهم" مستلهمة مفاهيمها من اللاهوت الغربي البروتستانتي ومن "الأصولية" الشرقية. كتاب بديع حقاً، يجمع بين المتعة والمنهجية، بين السلاسة والعمق، ويُقرأ كما لو كان في الحين عينه كتاباً في التاريخ والفكر السياسي والاقتصاد وعلم الاجتماع. وقد تمكن جورج قرم حقاً من صهر هذه العلوم وإلغاء الحدود بينها ليكتب نصاً علمياً لم تثقله المصادر والمراجع على رغم وفرتها. وهو كتاب يردّ على أسئلة راهنة ومطروحة اليوم بإلحاح ويعالج قضايا تعني القارئ الغربي مقدار ما تعني القارئ العربي. والكتاب هو حلقة تضاف الى كتب جورج قرم السابقة ذات الطابع التاريخي والفكري والسياسي والاجتماعي. قد يكون من نوائل الحملة المغرضة التي قامت ضد جورج قرم كوزير للمالية، عودته الى قرائه في هذا الكتاب البديع، وهي عودة تثبت إيمان هذا المفكر بالحوار لا بين الشرق والغرب فقط بل بين اللبنانيين أنفسهم، مهما اختلفوا أو تناقضوا... علاوة طبعاً على عودته باحثاً وكاتباً مرموقاً يصعب أن يجد لنفسه حيزاً ولو ضئيلاً في "دولة" هي دوماً على حافة الانهيار. ع