تواجه المرأة الألمانية خياراً صعباً: العمل أو الانجاب! ويشمل هذا الخيار بشكل خاص، الفتاة حاملة الشهادة العليا وصاحبة المركز المرموق في قطاع العمل والانتاج. كما يطاول في الوقت نفسه، وبمفهوم نفسي مختلف، المرأة الألمانية القادمة من موروث اجتماعي تقدمي للقسم الشرقي من البلاد، والذي يكرّس مبدأ العمل والانتاج للرجل والمرأة على السواء. ويقف وراء هذا الخيار الصعب نظام اجتماعي قديم، ونظام تربوي يقضي بتطبيق الدوام النصفي في المدارس من دون الأخذ في الاعتبار النقص الكبير لدور الحضانة وحدائق الأطفال والمراكز الخاصة بالنشاطات المعتمدة خارج إطار الدراسة. هكذا تجد المرأة الألمانية نفسها مرغمة على البقاء في البيت للاهتمام بصغارها أو العمل بنصف دوام. ولم ينسَ المستشار الألماني غيرهارد شرودر مشكلة المرأة الألمانية هذه، بل استغلها في حملته الانتخابية العام الماضي، حيث أكد في أكثر من خطاب له أهمية تطبيق نظام الدوام الكامل في المدارس، باعتبار أن هذا الاجراء سيحقق مساواة بين الرجل والمرأة ويسمح لها "القيام بما ترغب به لا ما يجب عليها القيام به"، خصوصاً في ما يتعلق بالعمل. وفعلاً فاز شرودر على منافسه من الحزب الديموقراطي المسيحي بفارق بسيط، وبفضل العدد الكبير من الأصوات النسائية. صحيح أن شرودر لم يستطع حتى الآن تطبيق نظام الدوام الكامل في المدارس، لكن حكومته تضم سبع وزيرات من أصل 14 وزيراً، وهذا بحد ذاته مثال نادر للمساواة السياسية بين الجنسين. واضح أن النظام التعليمي الألماني مسؤول إلى حد ما عن مشكلة المرأة والعمل. فهو يحدد بشكل أو بآخر دور المرأة والرجل في العائلة، كما يؤثر بقوة على علاقة كل منهما بالأطفال وبقطاع العمل والانتاج. فالمدرسة الألمانية التي تهتم براحة الطفل النفسية والجسدية، كانت محط أنظار العالم كله، وتحسدها حتى دول أوروبا على برنامجها التربوي الفريد من نوعه والذي يطبق الدوام النصفي للدراسة، بينما يكرّس فترة بعد الظهر لنشاطات تربوية وثقافية ورياضية. لكن الحقيقة، ان حدائق الأطفال والمراكز التربوية المؤهلة لهذه النشاطات قليلة بالنسبة إلى عدد التلاميذ ما دون الخامسة عشرة، وهكذا عندما تنتهي المدرسة ظهراً يعود قسم كبير منهم إلى البيت. وتعاني المانيا منذ زمن بعيد من هذا النقص في البنى التحتية المهمة هذه، لكنها تعتمد على وجود الأم في المنزل، في القسم الغربي من البلاد. على رغم نظام الدوام النصفي، كان يوجد في عام 1990 54 ألف حديقة أطفال ودور حضانة تكفي لاستقبال 3 في المئة فقط من أصل مليون و800 ألف طفل، وبالفعل اضطرت المرأة الألمانية للبقاء مرغمة في المنزل بالقرب من أطفالها الصغار، إذا لم تستطع ايجاد عمل بنصف دوام. بعد إعادة توحيد المانيا، تغيّر الوضع الاجتماعي، وتفاقمت أزمة حدائق الأطفال والمراكز التربوية لنشاطات بعد الظهر، خصوصاً بعدما أخذت الحكومة الألمانية الموحدة على عاتقها مهمة ايجاد حلول جذرية لاستيعاب أطفال القسم الشرقي من البلاد. وفي عام 1994 استقبلت هذه المراكز في شرق المانيا عدداً من الأطفال بلغ عشرين ضعفاً عنه في المانيا الغربية ولفترة بعد الظهر، على رغم ان مدارس الحضانة فيها تعمل بدوام كامل. بالطبع، في المانيا الغربية، كما الشرقية، نرى أن غالبية أمهات الأطفال دون الرابعة من العمر، تبقى في المنزل من دون عمل. وهناك 23 في المئة منها تعمل في القسم الغربي في مقابل 27 في المئة في القسم الشرقي. وبينما تؤكد 67 في المئة من نساء المانياالشرقية أنها ستعود إلى العمل بمجرد أن يكبر الصغير وتجد له مكاناً في المراكز التربوية، نجد 22 في المئة فقط في المانيا الغربية من النساء اللواتي يرغبن بالعمل مجدداً. لكن الذي يحدث هو انه عندما يكبر الأولاء تأخذ أكثر الأمهات على عاتقها مسؤولية تربيتهم، وتكتفي بعمل بنصف دوام 48 في المئة في المنطقة الغربية في مقابل 28 في المئة في الشرقية. إن هذا النظام التعليمي الذي اعتبره المستشار شرودر عقبة أمام مساواة المرأة، والذي وضع لاعطاء الطفل الألماني البرنامج الدراسي الأفضل من دون ضغوط الدوام الكامل والدروس المتراكمة، أثبت مع الزمن عدم فائدته التربوية المرجوة. ففي آخر دراسة تربوية شملت 32 دولة صناعية، وجدت المانيا نفسها في المرتبة الثامنة عشرة بعد ايطاليا وقبل هنغاريا وبولونيا والبرتغال، بينما تصدرت اللائحة فنلندا ونيوزيلندا وكندا وبريطانيا واليابان، وتلتها كل من فرنسا وأميركا والدنمارك. هذه الدراسة بنتائجها أدهشت المانيا كلها وحملت شرودر على المطالبة بوضع برنامج اصلاحي للنظام التعليمي الألماني. وبالفعل يعمل حالياً المسؤولون على وضع الأسس اللازمة لهذا البرنامج الإصلاحي الذي يتطلب الكثير من المال لبناء المراكز الضرورية وتأمين القطاع التعليمي والتربوي اللازم لاستيعاب ملايين الأطفال من دون 15 سنة. إن هذا البرنامج الإصلاحي يعتبر في حال تنفيذه ثورة حقيقية في مجال العلم والثقافة، خصوصاً في المانيا الغربية، لكنه في الوقت نفسه سيعمل على إعادة النظر في التركيبة العائلية لهذا القسم من البلاد. فالمجتمع الألماني الغربي مبني على نظرية تحدد الدور الذي يلعبه كل فرد في العائلة، وهي نظرية توزع الأدوار بين "رجالية ونسائية"، فالرجل عليه تأمين حاجة العائلة الاقتصادية، والمرأة تلعب الدور التربوي الذي يؤمن العناية الكاملة لكافة أفراد العائلة ويهتم بتربية الأولاد وتعليمهم. وهذا التنظيم الاجتماعي، الذي يرتكز على التفريق بين الجنسين، هو مفهوم خاص بشكل عام، بالمانيا الغربية. مع العلم ان الصورة هذه بدأت تتغير بعض الشيء لدى الجيل الجديد، والذي ينتج عنها، غالباً ما يكون، قلة انجاب الأطفال أو عدم الانجاب بانتظار ايجاد الحلول اللازمة لحضانة الاطفال. بالطبع اعطى المجتمع الألماني الغربي رأيه الواضح في البرنامج الاصلاحي الجديد، من خلال دراسات واستفتاءات قامت بها وسائل الاعلام المحلية والكنيسة الالمانية، حيث اكد 53 في المئة من الرجال و47 في المئة من النساء، انه من الافضل للجميع، ان يكرس الرجل كامل وقته لعمله، وان تبقى المرأة في البيت لتهتم بالأطفال. بينما أعلن 20 في المئة من الرجال عن موافقتهم على اخذ اجازة أبوة للاهتمام بالطفل، اذا اضطر لذلك. والواقع ان غالبية الشركات الكبرى لا تنظر بعين الرضى لمن يأخذ اجازة لتربية الطفل، وينتج عن ذلك، عدم ترقيته أو صرفه في أول فرصة ممكنة. وهكذا تخسر العائلة مورداً أساسياً. إضافة الى مشاكل العمل، تواجه المرأة بشكل خاص، ضغوطات اجتماعية وعائلية كبيرة، حيث يحمّلها المجتمع عقدة ذنب لأنها تركت أطفالها في رعاية الغرباء دور حضانة أو مربية وفضلت عليهم العمل. صدمة التغيير اذا كانت المرأة الالمانية الغربية قد تأثرت بالتغييرات الناتجة عن اعادة توحيد المانيا، فإن المرأة الألمانية الشرقية عانت اكثر بكثير من نتائج صدمة التغيير الاجتماعي، قبلاً كانت هناك نسبة 91.2 ي المئة من النساء في سن العمل، تمارس عملاً أو تتبع دورة تأهيلية تساعدها على تحسين عملها وتحسين وضعها المعيشي. وكان التحاق المرأة بدورة الانتاج ضرورة اقتصادية تحتاجها البلاد. وبالطبع لم تكن هذه المرأة تواجه مشاكل من نوع ايجاد دور حضانة أو حدائق اطفال أو مراكز للفتيان. ففي المجتمع الألماني الشرقي، كانت توجد بنى تحتية تسمح للمرأة بالتفرغ لعملها، وكانت المرأة العاملة هي مثال النجاح الاجتماعي. ومع اعادة توحيد البلاد، تلقت المرأة الالمانية الشرقية صدمة رياح التغيير، فإن بها تجد نفسها أمام بطالة لم تعرفها من قبل، من اسبابها اختلاف سوق العمل وعدم وجود البنية الاجتماعية اللازمة لحل مشاكل رعاية الاطفال. ومن جهة اخرى، كان على هذه المرأة ان تتأقلم مع المجتمع الالماني الغربي بمفاهيمه وتقاليده الموجودة منذ زمن طويل. لذلك سرعان ما ادركت ان دورها فيه ثانوي حسب مفهومها الاجتماعي. إن التغيير الذي عرفته المانيا بعد اعادة توحيدها شمل المرأة في ضفتي البلاد وجعلها تطرح العديد من الاسئلة خصوصاً الغربية حول قضايا المرأة ومكانتها الفعلية في المجتمع، وتسلط الاضواء على المشكلة النسوية في المانيا الغربية من حيث المساواة بين الجنسين في العمل وتربية الاولاد، خصوصاً ان تجربة المرأة الشرقية في هذا المجال تعطي المثال على امكان التوفيق بين العمل خارج البيت وداخله، شرط ان يساعدها الرجل وتقدم الدولة الامكانات اللازمة. قد يحل نظام الدوام الكامل بعض مشاكل الاسرة الالمانية وليس كلها، لان تقاليد توزيع الادوار في المجتمع الالماني تحتاج الى زمن كي تتغير، خصوصاً انها مزروعة في عمق التاريخ الالماني، حيث يكرس دستور البلاد وظيفة الام ويحدد بوضوح كامل "كل ام تملك الحق بالحماية والاهتمام والرعاية من قبل المجتمع". من هنا تأتي عقد ذنب الأم التي تترك اولادها من اجل العمل، وتجد المرأة الالمانية نفسها امام الاختيار الصعب: العمل او الانجاب! الزواج المختلط والطلاق: للأم حق مطلق تسلط وسائل الاعلام باستمرار الضوء على المشاكل العائلية والقانونية التي يواجهها الآباء الالمان، وسواهم من جنسيات مختلفة، والمتزوجون من نساء المانيات ويعيشون في تلك البلاد. ففي حالات الطلاق واعلان الانفصال تطالب المحاكم مشاركة الاب في نفقات الطفل. لكنها تمنح الام السلطة المطلقة على الطفل وتعطيها حق الحضانة والتربية. وغالباً ما ترفض الامهات طلبات الوالد بمشاهدة الطفل او السماح له بتمضية نهاية الاسبوع او ايام العطل المدرسية برفقته. وبشكل عام، لا تعطي المحاكم الحق للاب في حال رفعه دعوى على مطلقته. وقد دفع هذا القانون الكثير من الآباء من حاملي الجنسيات الاجنبية خصوصاً القادمين من العالم العربي والشرق الاوسط الى خطف اولادهم والعودة بهم الى بلادهم والتمسك بالقانون المحلي الذي يحمي حقوق الاب والام معاً. في عام 1997 جرت تعديلات على القانون الالماني المتعلق بحقوق الاهل وواجباتهم تجاه الاطفال. وتم استبدال الفقرة الخاصة بتفرّد الام بالسلطة المطلقة على الطفل، بفقرة اخرى تعطي الاب والام الحق بالمسؤولية المشتركة. ولم ينس المشرعون اضافة بند خاص بحالات الانفصال والطلاق، وتمت المصادقة عليه من قبل محكمة العدل الفيديرالية ومن المحكمة الدستورية. ومن ضمن مواد هذا البند: "ان الام تحمل مسؤولية الطفل منذ ولادته، وبالتالي من الطبيعي ان تتحمل كامل المسؤولية في ما بعد".