أنشأ مؤسس "مايكروسوفت" احدى أهم المؤسسات الخيرية في العالم بموازنة مقدارها 30 بليون دولار. وتعتبر هذه المؤسسة اليوم الأكثر كرماً في الولاياتالمتحدة لناحية تقديم المساعدات، اذ تجاوزت المؤسسات التاريخية، مثل مؤسسة "فورد" و"ليلي انداومنت". فهل هي محاولة لطلب الغفران، أم قناعة راسخة بجدوى تقليص الفوارق الاجتماعية ومكافحة الأمراض المستعصية. سؤال من السابق لأوانه الاجابة عليه طالما استمرت أسهم "مايكروسوفت" على ثباتها في الأسواق المالية العالمية. إذا كان العالم بأسره يعرف بيل غيتس، معجزة المعلوماتية، الذي يقف خلف أبرز النجاحات في هذا الميدان وعلى مستوى بورصة وول ستريت من خلال شركته العملاقة مايكروسوفت، الا ان كثيرين لا يعرفون ربما أبعاد الوجه الانساني الاستثنائي له. فإذا كان الرجل يعد من أغنى أغنياء العالم، إلا أن كرمه فاق اليوم كرم المشاهير من أمثال جون روكفلر واندرو كادنيجي، أو أخيراً بيل باكارد وديفيد هويليت. ومع ذلك يحاول بعض الخبراء في هذا المجال التقليل من الاعتراف بمستوى غيتس وجنوحه نحو الأعمال الانسانية، معتبرين أنه، على رغم تقديمه المساعدات الأكثر سخاء من حيث القيمة، إلا أنه لناحية النسبة، بالمقارنة مع ثروته الشخصية، لم تصل هباته بعد الى حدود كبار المانحين، مثل روكفلر. ويعزو هؤلاء تشخيصهم الى كون الآخرين أعطوا الكثير من قبل أن يبدأ مفعول المرسوم القاضي بخفض الضرائب على الهبات المقدمة للمؤسسات الخيرية. وأن غيتس لم يبادر عملياً إلا بعد صدور هذا القانون. على أية حال، لقد جعلت الموازنة التي خصصها رئيس مايكروسوفت وزوجته ميليندا، والبالغة 32 بليون دولار، من مؤسستهما الانسانية، المنظمة الأكثر أهمية في العالم. فمنذ منتصف العام 2000 تجاوزت موجوداتها للمرة الأولى، تلك العائدة لمؤسسة "ويلكوم تراست" التي أنشأها السير ويليام هنري سنة 1939. كما تجاوزت أيضاً عمالقة آخرين في هذا الميدان في أميركا، من أمثال ليلي انداومنت البالغة موازنتها 8.12 بليون دولار، وفورد 8.10 بليون وروبرت وود جونسون 9 بلايين، صاحب مجموعة "جونسون أند جونسون" الشهيرة، اضافة لذلك صنفت جمعية "سنتر فاونديشن" مؤسسة غيتس في المرتبة الأولى لناحية مجمل الهبات المقدمة في العام 2001، والتي ناهزت 1.1 بليون دولار. أما اللافت في كل ذلك، فهو كون هذه الأخيرة رأت النور عملياً قبل أقل من ثلاث سنوات. وتجدر الاشارة الى أن هذه المؤسسة برزت نتيجة دمج مؤسستي "وليام غيتس" و"لايبريري". وجهات العمل حصلت الجمعية الخيرية الأولى لغيتس على إيداع أولي بقيمة 94 مليون دولار في العام 1994، لم يلبث ان زاد بسرعة فائقة ليصل الى 6.1 بليون دولار بعد ثلاث سنوات. وفي العام 1999 كانت الموجودات تبلغ حوالى 3.13 بليون دولار. وتلخصت مهمة ويليام غيتس، والد بيل بتأمين الاحتياجات الصحية للمحتاجين في أنحاء من العالم، خصوصاً لجهة تأمين اللقاحات. كذلك، مساعدة الفقراء في كل من ولايتي واشنطن وأوريغون شمال شرقي الباسيفيك، وتحسين شروط الحصول على التكنولوجيا الجديدة. وهي مهمة تتابعها اليوم عن كثب مؤسسة غيتس الجديدة. من ناحية ثانية، كانت مهمة "غيتس لايبريري" التي ترأسها باتريسشا ستونسفير، المسؤولة السابقة في شرك مايكروسوفت، وحيدة وتمثلت بتقديم المساعدات للمكتبات في كل أنحاء العالم، خصوصاً في المناطق المتعارف على تصنيفها بالصعبة. وفي هذا السياق تعمد هذه المؤسسة الى تجهيز المكتبات المختارة بنظام المعلوماتية ودفع بدلات اشتراكاتها بالانترنت. كما تعمل المؤسسة على تدريب وتأهيل العاملين في هذه المكتبات على استخدام المعدات الجديدة. لذا وظفت فريقاً من 100 شخص للقيام بمهمات التأهيل. فمنذ انشائها جهزت هذه المؤسسة عشرة آلاف مكتبة ب40 ألف حاسوب بلغت كلفتها 250 مليون دولار. ولم يقتصر مجال عمل المؤسسة على الولايات المحدة، بل شمل مكتبات في أميركا اللاتينية المكسيك وتشيلي، في كندا، كذلك توفير امداد القبائل الهندية المتواجدة في ولايات اريزونا وكولورادو ونيومكسيكو بالانترنت. وتبلغ قيمة الهبات التي تخصصها المؤسسة لمصلحة البرامج التربوية في العام ما مقداره 7.1 بليون دولار. ومع دمج المؤسستين في الاول من كانون الثاني يناير 2000، بهدف تسهيل العملية التنظيمية، وصلت موازنة المؤسسة الجديدة الى 21 بليون دولار بفضل سخاء غيتس بالدرجة الأولى، ونتيجة تحويل أسهم من مايكروسوفت اليها، بالدرجة الثانية. لكن هذه الموازنة ارتفعت الى 24 بليون دولار في 2002 بعد الهبة التي قدمتها لها عائلة غيتس، وهي ثروة لا يمكن للمؤسسة استخدامها بشكل تلقائي كونها مرتبطة بصندوق استثمارات منفصل كلياً عن المؤسسة، يقوم بإدارة الموجودات ويلبي الاحتياجات عند الضرورة. وهذه الطريقة باتت الاكثر شيوعا في قطاع "صدقات البيزنس" الاميركية حالياً. ويمكن تفسير الفارق بين هبات عائلة غيتس وقيمة موجودات المؤسسة بالقيمة التي حققتها الاستثمارات. أما بالنسبة الى بنية مؤسسة غيتس، فهي بحد ذاتها خاصة جداً، بحيث تم اختيار نموذج مبسط مبني على مكتب وحيد في مدينة سياتل يضم 220 موظفاً، يهتم مئة منهم بعملية التأهيل في المكتبات. وعلى رغم هذا الواقع، فإن غيتس وزوجته ميليندا يتابعان بشكل يومي شؤون المؤسسة، وبالتالي لديهما الحق في مراقبة الهبات ومصادرها، خصوصاً عندما تتجاوز مبلغاً معيناً حفاظاً على الشفافية ومنع الاختراقات أو محاولات تبييض الأموال، أو استخدام ذلك لأسباب سياسية، وفي هذا الاطار اعطى الزوجان توجيهاتهما لناحية الطريقة الواجب سلوكها في التعامل مع الهبات التي تتركز في الغالب على مجالي الصحة والتربية. من الجوانب الأخرى التي تلفت الانتباه تأثر غيتس الشخصي بمسألة الفوارق الاجتماعية الموجودة في العالم. ولهذا السبب يقول المقربون منه، انه غالباً ما يقوم بالمبادرات السريعة من دون الالتزام بالخطط المبرمجة التي اعدها مستشاروه. وتجدر الإشارة، انه حسب القانون الاميركي، فإن أي مؤسسة خيرية لا تهدف الى الربحية، يجب ان تخصص 5 في المئة من موجوداتها سنوياً للمحافظة على لوائحها التنظيمية. بناء عليه، تنفق مؤسسة غيتس اكثر من بليون دولار سنوياً من خلال 300 هبة تقدمها، وهو مبلغ يتوجب مقارنته مع 30 بليون دولار من الهبات التي تحصل عليها المؤسسات الخيرية في الولاياتالمتحدة سنوياً. وتعكس عملية توزيع الهبات من قبل بيل وميليندا غيتس اهتمام العائلة بهذا الشأن الانساني، فأكثر من نصف الهبات يذهب لبرامج التربية، في حين ان اكثر من 25 في المئة تخصص لمكافحة الأمراض المستعصية المختلفة، اما الباقي فيتم توزيعه على أبحاث البرامج الفضائية وولايات شمال شرقي الباسيفيك، وبرامج مساعدة المكتبات. وعلى رغم كرمها المشهود له، إلا ان المؤسسة تحرص في المقابل على الصرامة في الانفاق، وتبحث في آن معاً الحصول على النتائج الايجابية المتوافقة مع حجم الاستثمار، وفي بعض الأحيان استخلاص العائدات منها. لذا، فهي تقوم بانتظام بتحليلات مالية نوعاً وكماً بهدف تقويم انعكاسات الهبات ومردوداتها. لكن هذا لا يعني أن الربحية هي الهدف، لأن المطلوب هو عدم الوقوع في أخطاء تقديرية، والسماح للهبات بالذهاب في الوجهة المخالفة، واذا كان المسؤولون عن المؤسسة يحرصون على سرية قيمة الهبات المقدرة لهذا العام، إلا ان المعلومات المتوافرة حتى الآن تشير الى انخفاض في المبلغ الاجمالي الذي دفعته الجمعيات الخيرية الاميركية، تحقق للعام الثاني على التوالي ويتراوح بين 10 و12 في المئة. أما السبب، فيعود الى التدني في اسعار الاسهم في الأسواق المالية، ما عدا تلك العائدة من دون شك لمؤسسة بيل وميليندا غيتس التي ارتفعت موجوداتها خلال سنتين من 24 الى 32.7 بليون دولار. وتفيد الدراسة التي نشرتها أخيراً جمعية "سنتر فاونديشن" بوجود 62 ألف مؤسسة خيرية في الولاياتالمتحدة. ففي العام 2002، وزعت هذه الأخيرة 30.3 بليون دولار على شكل هبات، بانخفاض طفيف بالنسبة الى العام المنصرم، حيث وصل حجم هذه الهبات الى حدود 30.5 بليون. ومع ذلك، تضيف هذه الدراسة بأن هبات الجمعيات الاميركية زادت بنسبة 10 في المئة طوال السنوات العشر الأخيرة، حتى ولو شهدت المؤسسة الكبرى المعنية تراجعاً في موجوداتها بسبب تراجع اسعار الاسهم في الأسواق المالية، بسبب زيادة الهبات المقدمة من المؤسسات الصغيرة، ما سمح بإحداث التوازن وتغطية التراجع المسجل. وفي ما يتعلق بالعام 2003، يبدو أن التراجع مرشح للاستمرار. لكن من غير المؤكد انه سيؤثر في أداء المؤسسات. فالأزمة الاقتصادية والاقتراب من حدود الركود الاقتصادي منذ ما قبل حرب العراق، لم يترك سلبيات تذكر على مجال "صدقات البيزنس"، والدليل على ذلك نشوء اعداد متزايدة من المؤسسات الجديدة منذ 11 ايلول سبتمبر، فخلال هذا العام وحده، تم تسجيل اكثر من 5200 جمعية، أي بزيادة نسبتها 9.2 في المئة بالمقارنة مع عام 2000. اما على صعيد الموجودات فإن مؤسسات "ويليام وفلورا هاو ليت، ومودي" شهدت على سبيل المثال زيادة بلغت اكثر من 10 في المئة من قيمة موجوداتها. في المقابل خسرت خمس مؤسسات كبرى اخرى، من بينها، مؤسستا "فورد وستار" اكثر من بليون دولار