قدّم زعيم حزب العمل الاسرائيلي عميرام ميتسناع استقالته من زعامة الحزب، وشدد في كتاب استقالته على العوامل الداخلية في الحزب التي دفعته الى التخلي عن زعامة اليسار والبقاء عضواً في الكنيست. فما هي مبررات هذه الاستقالة؟ وما هي انعكاساتها على الوضع الداخلي الاسرائيلي ومجمل الوضع الفلسطيني غداة حرب العراق وتسلّم أبو مازن رئاسة الحكومة الفلسطينية وسير الرباعي الدولي في "خريطة الطريق"؟ أولاً: في خلفيات الاستقالة: في محاولة شرح مبررات الاستقالة، يصعب التفريق بين العوامل الذاتية المتصلة بشخصية ميتسناع كرجل سياسي قيادي والعوامل الموضوعية المتصلة بواقع حزب العمل داخل الحياة السياسية للدولة العبرية، ومن ثم العوامل الاقليمية والدولية المتصلة بالنزاع العربي - الاسرائيلي. 1- يفتقر ميتسناع الى ثلاثة أمور أساسية في تحديد القيادة السياسية خصوصاً في مجتمع مسيّس ومعسكر وقلق كالمجتمع الاسرائيلي: - فهو لا يملك الكاريسما القيادية كأحد قادة اسرائيل العسكريين ضابط شبه عادي. - وهو ذو خبرة سياسية محدودة التعايش بين العرب واليهود في حيفا. - وهو لا يملك العمق الفكري / الاستراتيجي ليصوغ ايديولوجية "عمالية" جديدة تتحدى اليمين وتقنع شباب اليسار. 2- في المقابل لدى ميتسناع شفافية شخصية تتميز بالصراحة في اعلان مواقفه وبالعمل لمصلحة الحزب وليس لمصالحه الخاصة، كما لديه الإيمان بضرورة وحدة حزب العمل وبخياراته السياسية الموضوعة تحت عنوان: التزام السلام بين العرب واسرائيل. وهذا ما يسميه "أتيت ولديّ سياسة نظيفة"، من هنا اتهامه في كتاب استقالته بعض قادة حزب العمل بالتآمر ضده وتفضيل مصالحهم الشخصية على مصلحة الحزب قبل الانتخابات وبعدها، الى حد انهم انشغلوا بالصراع ضده "وليس في النضال من أجل السلم والعدالة". 3- والواقع ان حزب العمل، لدى تزعمه من جانب ميتسناع، كان يعاني من صراع داخلي عميق عبر ثلاثة أجنحة تمثلت في ثلاثة من قادة الحزب: ميتسناع وبنيامين بن اليعيزر وحاييم رامون. وكان من الصعب على ميتسناع، او أي زعامة جديدة، دمج هذه التيارات الثلاثة اضافة الى التيار الرابع: تيار الشبيبة العمالية التي فقدت ثقتها بهذه القيادات باعتبار ان الفترة السابقة للانتخابات 28 كانون الثاني / يناير 2003 كانت قصيرة جداً بحيث لم يتسنّ ايجاد اللحمة المطلوبة بين التيارات لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الايديولوجي، كما كان من الصعب في فترة قياسية استعادة الصدقية لدى الناخب اليهودي. ولم يكن ميتسناع ولا حزب العمل مسلّحين بانتلجنسيا يسارية عقائدية قادرة على اقناع الشعب الاسرائيلي بخطأ مراهنات اليمين بزعامة شارون، خصوصاً في طروحاته حول امكان اخضاع الفلسطينيين بالقوة وتحقيق أمن اسرائيل المطلق بالقوة وفرض الحل السلمي على الفلسطينيين والعرب بفعل الضغط العسكري! 4- اجتهد ميتسناع كي يضع فاصلاً بين حزب العمل وحزب الليكود بالمعنى الايديولوجي - الاستراتيجي - السياسي - الحزبي. فلقد حاول ان يستعيد هوية حزب العمل وتميزه عن ليكود بعدما صار الأمر في شبه مماهاة عبر مشاركة بن اليعيزر الدفاع وبيريز الخارجية في تفسير وتبرير وتسويق سياسة شارون ازاء الرأي العام الدولي. وعمل ميتسناع على بناء وحدة الحزب انطلاقاً من إرث العمل التاريخي لا سيما التراث "الرابيني" من أوسلو 1993 الى طابا 2000. ولكنه لم ينجح لثلاثة أسباب: الأول: لأن فكرة الأمن أصبحت محور حياة الاسرائيليين بفعل الانتفاضة. الثاني: لأن أجنحة داخل العمل خصوصاً بن اليعازر لم تأخذ بالخيار الجديد. الثالث: لأن قدرات ميتسناع، كما بيّنا، كانت محدودة، خصوصاً على صعيد المبارزة الفكرية. 5- والأمر الذي صعّب مهمة ميتسناع أكثر ان اسرائيل تعيش أزمة عميقة: فهي من جهة لا تستطيع ضم الأراضي الفلسطينية وهضمها. ومن جهة ثانية لا تريد الانسحاب منها. اضافة الى ان خيارات العمل منذ أوسلو رابين وصولاً الى مشروع الرئيس بيل كلينتون ايهود باراك 2000 لم تقنع الاسرائيليين الرأي العام بصحة هذه الخيارات، على عكس ذلك رأوا أنها قادتهم الى الهاوية الأمنية - الاقتصادية: مئات القتلى والجرحى، وانهيار في الاقتصاد، وارتفاع في معدلات البطالة. وعلى هذا يمكن القول بل الاستنتاج بأن ميتسناع كان يحمل أفكاراً طوباوية في جانب، و"مستوردة" في جانب آخر ومع ذلك لم يستطع أن يسوّقها لا داخل العمل ولا لدى الرأي العام الاسرائيلي! 6- هذه الأفكار "المستوردة" تشكل برنامجاً بل هي عناوين عريضة قديمة صيغت بأسلوب جديد وهي في ظل الحالة الأمنية في فلسطين، وفي ظل الآلة الاعلامية - العسكرية الشارونية، تشكل هرطقة سياسية في نظر الشارع الاسرائيلي وفيها: - الاعتراف بقيادة عرفات شريكاً في عملية السلام. - اسقاط جدوى الحل العسكري للانتفاضة. - العودة الى طاولة التفاوض مع الفلسطينيين من دون شروط مسبقة. - البدء مما انتهت اليه محادثات طابا أي: العودة عملياً الى مشروع الرئيس كلينتون كقاعدة لحل النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. - تحديد سنة للانسحاب من الأراضي المحتلة مع تعديل طفيف في حدود 1967 وفي حال التعثر تحقيق الانسحاب من جانب واحد. - بناء جدار فاصل بين اسرائيل و"دولة فلسطين". 7- بعد الانتخابات التي كانت أسوأ هزيمة لحزب العمل بقيادة ميتسناع، وهي نتيجة طبيعية في ظل الأوضاع المعروفة، رفض ميتسناع، من موقع الحفاظ على خصوصية حزب العمل وعدم جرّه كي يكون واجهة لسياسة ليكود، الدخول في حكومة وحدة وطنية برئاسة شارون فأضاف بذلك احباطاً جديداً داخل حزب العمل وقاعدته الشعبية، وبدا وكأنه يسبح عكس التيار على طول الخط. ومعلوم ان الاعتبارات الأمنية في اسرائيل تتقدم دائماً على الاعتبارات السياسية وحتى الايديولوجية. ومع ان شارون كان يتمتع ب69 صوتاً داخل الكنيست، فقد ظل شهراً يفاوض العمل للانضمام الى حكومة وحدة وطنية وهو ما رفضه قطعياً ميتسناع وتعرض بسببه للانتقاد من جانب بن اليعيزر وبيريز. 8- لم يكن اصرار شارون على مشاركة العمل في الائتلاف الحكومي محبة باليسار، بل كانت لديه ثلاثة أهداف: الأول: تأكيد ان اسرائيل في شبه حالة حرب، والقاعدة ان تتولى السلطة فيها في مثل هذه الحال حكومة وحدة وطنية. الثاني: ان لدى اليسار قدرة أكثر على تسويق سياسة اسرائيل ازاء العالم لا سيما أوروبا وأميركا. الثالث: ان قبول الدخول في التحالف يسقط نهائياً المبدأ الذي قام عليه طرح ميتسناع منذ البداية وهو الاستقلال بهوية العمل خارج ليكود فيكون بقبوله كمن يناقض نفسه، ومثل هذه التجربة ستزيد من الصراع داخل حزب العمل بما يؤدي الى اضعافه وانهياره! 9- ان ميتسناع، ربما أمام الضغط الدولي الأميركي تحديداً وعشية الحرب على العراق، قَبِل الانضمام ولكن شرط ان يلتزم شارون السلام وبشكل أوضح وان يعلن التزامه "خريطة الطريق". وبمثل هذا الشرط يكون ميتسناع قد وضع شارون أمام خيار حاسم يكشف فيه أوراقه ازاء الاسرائيليين وازاء العالم. وقد تكون هذه البادرة - الشرط، ساهمت في اسقاط ميتسناع نهائياً من داخل حزبه قبل ان يكون من جانب ليكود. ذلك ان قبول الخريطة كما طرحها ميتسناع يعطي للمشروع محتوى سياسياً/ استراتيجياً، في حين ان شارون لا يرى في خريطة الطريق، بل لا يريد ان يرى، سوى بعدها الأمني. وكي لا يقدم أي تنازل سياسي لا سيما في المستوطنات يحوّل كل طرح سياسي الى طرح أمني! ثانياً: انعكاسات الاستقالة: يمكن ان نختزل الانعكاسات المحتمل ان تنشأ عن استقالة ميتسناع بأمور مصيرية على حزب العمل وعلى سياسة اسرائيل ايضاً. من هنا مسارعة بيريز الى اقتراح ان يترأس الحزب لفترة انتقالية كي يجري ترتيب الأمور. ويمكن لهذه التداعيات ان تكون على الشكل الآتي: 1- انشقاق مؤكد في حزب العمل بين أجنحته المتصارعة ما يؤدي حكماً الى انهيار الحزب وضموره مع انه أقوى الأحزاب التي قامت في اسرائيل منذ انشاء الدولة عام 1948. ولكن سيكون من الصعوبة تصوّر حدوث هذا الانهيار بسهولة. 2- مسارعة رجل حزب العمل الدينامي والذكي والايديولوجي يوسي بيلين الى انشاء حزب يساري جديد يستوعب القوى والكادرات الشبابية في حزب العمل ويشكل البديل للحزب الهرم والمتردد. 3- عودة بن اليعيزر وبيريز الى بيت الطاعة الشاروني وتأليف حكومة "اتحاد وطني" لتجويف "خريطة الطريق" لا لتنفيذها مع ما يمكن ان يستتبع ذلك من تداعيات ونتائج على مسار السلام العربي - الاسرائيلي، بمباركة أميركية ستصل عاجلاً أم آجلاً الى طريق مسدود! هذه هي باختصار خلفيات ومبررات وانعكاسات استقالة ميتسناع من زعامة حزب العمل في اسرائيل. انها نسخة بارزة عن أجواء العمل السياسي بين تل أبيب وواشنطن. لقد شاء ميتسناع ان يلعب دور حمامة السلام داخل البرلمان والأصح "البركان" الاسرائيلي. وان لاستقالته معنى واحداً وهو: سقوط الحمائم... في زمن الصقور!