يبقى "مركز دراسات الوحدة العربية" متفائلاً بإصدارات لا تعترف بإخفاقاتها الطوباوية والدوغمائية والحلولية، وكأن العالم الذي تفكك لم تصل شظاياه بعد الى نبوءات الوحدويين الذين يتفرّغ الواحد منهم للتفكير عن الجماعة التي لا تشبهه، ولإيجاد حلول لها هي على قياسه وحده، وتضيق على كل سواه. فمن "مركز دراسات الوحدة العربية" يعود بنا كمال عبداللطيف الى أسئلة النهضة العربية بعناوين ثلاثة: التاريخ، الحداثة، التواصل، في كتاب صدر اخيراً ليقول إنه "يمكن التفكير في الأسئلة الغائبة او المهمشة، وفي الأسئلة التي لا تطرح أو التي تطرح بطرق ملتوية في موضوع الديموقراطيات العربية". وإذ يقدّم كمال عبداللطيف لموضوعه "بإمكانية التفكير" لا بوجوبه، يعتذر للاديموقراطيين من جماعات المتشددين عن حديثه في الديموقراطية، ويستعين باسبينوزا قائلاً: "لا يمكن إرغام احد بالقوة او بالقانون على امتلاك السعادة الأبدية" لأن السعادة الأبدية هي لأصحابها من المؤمنين بها، وليست للمفكرين الديموقراطيين الذين لا يزالون يسألونها، خشية عليها من ان تصير عائقاً من عوائق تفكيرهم. فالسعادة الأبدية لولا انها فجّرت اسئلة القلقين على مصيرهم، لا المطمئنين الى مصيرهم، لحوّلت المفاهيم الى أوثان، والحقائق الى ثقوب لا مقر لها، والكتابات القدسية الى حروف ميتة، تلفها غفلات السماع، ولا تشعلها آثام الشرح والتفسير والتأويل. أما كمال عبداللطيف الذي حطّم تحجّر الأوثان ليعود الى ألق فلسفة الأنوار ومحمولاتها العلمانية، فتوقف عند كتابات فرح انطون 1847 - 1922 والفروقات التي قامت قبل مئة عام بينه وبين معاصريه كمحمد عبده ورشيد رضا، ومثلها مما جاء به شبلي الشميل في نظرية النشوء والارتقاء التي رأى فيها الأفغاني صورة الغرب الغازي، الذي يهيئ لاحتلال الأرض ونشر الفساد، واختراق الأدمغة والضمائر بنشره للقيم المادية التي هي قيم الإباحية والإلحاد وخراب العمران، بمفردات الأفغاني. هذا الصراع الذي قام بين فرح انطون وشبلي الشميل ومحمد عبده ورشيد رضا والأفغاني، هو نفسه الصراع الممتد منذ حملة نابوليون على مصر، بين العلمانيين ورجال الدين والذي أعاد كمال عبداللطيف الى اسئلة النهضة العربية، وإلى فرح انطون الذي كان يدعو الى استقلال السياسي عن الديني، وتنزيه الأديان عن المعارك الدنيوية، أو معارك السياسة في التاريخ. ولما كان محمد عبده ورشيد رضا والأفغاني ممن تنكروا لمذهب اوغست كونت وعلم السوسيولوجيا او علم إصلاح شأن البشر على يد العلماء وبسلطتهم المبنية على الواجب ومحبة الناس وحفظ النظام والأمن وتمهيد سبيل المدنية لأنها غرض الإنسانية، فإن فرح انطون رأى الأخذ بمذهب كونت، لأن من فوائده تقديس الإنسانية، واحترام الإنسان احتراماً مطلقاً، لأن المبدأ الأسمى الذي يجب ان يأخذ به البشر قاطبة "كراهية سفك الدم البشري". وقد عالج فرح انطون الشؤون الاجتماعية على كثير من الجرأة والتمدّن، إذ رأى ان الأديان بالصورة التي تصرّف بها الناس، صارت مدعاة الى التفريق والتنابذ والتقاتل الذي ينحر الإنسان و"ديانة الإنسانية". فالدولة هي شكل عقلي مادي نابع من حاجات البشر الاقتصادية والعلمية والسياسية لا الدينية، في حين ان الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني قالا بالوحدة المذهبية او الجامعة الدينية لاعتقادهما ان اصلاح العمران متوقف على إصلاح الدين. واستغرب فرح انطون عقم فكر الأفغاني الذي لم يكتب سوى رسالة صغيرة رد بها على أحد أدباء الهند الذي جاء يسأله عن مذهب "الطبيعيين"، فما كان من الأفغاني إلا الخلط بين متقدمي فلاسفة اليونان كديموقريط وأبيقور وديوجينوس بعلماء العصر الحديث ومنهم داروين وفولتير وروسو، الذين اندفع عليهم وعلى كل من اشتغل بالعلم الطبيعي، لأن علماء الطبيعة - برأي الأفغاني - هم من المساكين الذين رموا أنفسهم في مجاهيل الأوهام والخرافات سعياً لتطهير الأذهان من جهلها، وغرس بذور الإباحة فيها، وما قصد الأفغاني بالإباحة إلا المساءلة والبحث، من دون غض النظر عن مبادئ التمدين، والشك بصحة اليقينيات والمسلمات. وإذ يرى كمال عبداللطيف الى مراوحة الخطى في الفكر السياسي العربي، حيث يظل كثير من أسئلة العلم قائماً، ومثلها أسئلة الطبيعة والمدنيات التي قامت على العقل والابتداع، فإنه يخشى من حركات الردة وما توحي به من تراجعات لا يستطيع المرء ان يتنبأ بحدودها. هي خشية كمال عبداللطيف على الضرورات الحضارية، وعلى اعتبار حسن حنفي ان "الإسلام دين علماني في جوهره" التي تدفع به للسؤال: "لماذا لم يتمكن الفكر السياسي العربي من تركيب وبناء ما يطوّر المقالة العلمانية الأنطونية؟ بل لماذا لا يزال مفهوم العلمانية يحمل دلالة "الشبهة" في الفكر العربي المعاصر؟ وهل إذا اخطأ رشيد رضا قراءة التمدين، وجب على اخطائه ان تنسحب على كل قراءة بعده؟ أليست القراءات الخاطئة والمنحازة هي التي حاكمت علي عبدالرازق في "الإسلام وأصول الحكم"؟ لقد حاول علي عبدالرازق 1888 - 1966 في "الإسلام وأصول الحكم" الرد بطريقة غير مباشرة على اطروحات محمد عبده في جداله مع فرح انطون، كما واجه الداعين الى إحياء مؤسسة الخلافة، بعد ان أعلن مصطفى كمال أتاتورك 1881 - 1938 اسقاطها سنة 1924. فالمرتدون إذ عفّوا عن محاكمة اتاتورك العلماني، انفردوا بالشيخ علي عبدالرازق لأنه قال: "الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء، ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها الى احكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة، كما ان تدبير الجيوش الإسلامية وعمارة المدن والثغور ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنما يرجع فيها الى العقل والتجريب، او الى قواعد الحروب او هندسة المباني وآراء العارفين". هذه الازدواجية في الواقع وفي الفكر هي ازدواجية طغى فيها الجانب التقليدي المحافظ على كل الإرهاصات الفكرية الواعدة، لاستناد الجانب التقليدي الى قاعدة سمّاها نجيب محفوظ ب"الجرابيع والفتوات" التي لا عهد لها ولا قِبل إلا بحكايات الرباب تستمع إليها والدخان يعبق من الجوزات، بانتظار حكاية اخرى، وراوٍ آخر. فالجرابيع والفتوات يفاخرون بالنبابيت يؤدبون بها العصاة من المفكرين، ويحمون بها الجهال والأميين من التفكير، لأن التفكير من عمل الشيطان الذي يؤثر الشك على اليقين، والقلق على الطمأنينة، والمتحولات على الثوابت، والتفاصيل على وحدة لا تتفكك ولا تتشظى، هي وحدة الذات المنزهة عن التقاطع مع الذوات الإنسانية في صيروراتها النازفة. وإذ يرى كمال عبداللطيف الى الجمود الذي اعتاده أبناء أمته، عاد يسأل عن صراع الأقليات وما تحمله المنظومة الليبرالية في بعدها الأنواري الذي نهضت به الأقليات العربية المسيحية في بلاد الشام منذ القرن التاسع عشر، وهي أقليات تشرّدت في أرض الكنانة وفي مهجري أميركا الشمالية والجنوبية تثري تراثها العربي، ولغتها العربية، وفكرها العربي بعبق الصحافة، المقيمة والمهاجرة، وبعبق الفكر التراثي والجديد، وبعبق الإبداع والترجمة، وفية لعصورها الذهبية في العصور العباسية التي كانت عصور انفتاح وفلسفة وفقه وعقل وعلم وجامعات هي عصور ابي جعفر المنصور وهارون الرشيد والأمين والمأمون ويوحنا بن ماسويه وحنين بن اسحق وبيت الحكمة، وهي عصور الحنين الى بغداد عاصمة للثقافة، ومنارة لأبي حنيفة رائد الرأي، وصاحب مدرسة "الفقه" الذي يقوم بالعقل او بالسمع. وقد كان من الأسئلة التي استشهد بها كمال عبداللطيف سؤال عبدالله العروي: متى يستند الفكر السياسي العربي الى التاريخ في فهم التاريخ؟ ومتى يُقرأ التاريخ معطى زمنياً لا معطى غيبياً؟ فالتاريخ هو للبشر ولا علاقة للغيب به، لأن الغيب الأزلي والأبدي يتجاوز الزمن ولا يؤرخ له بداية او نهاية. أليس من الكفر ان يقرن التقليديون بين الإنسان التاريخي والغيب اللاتاريخي؟ فالإنسان هو الزمني، وهو المنقضي، وهو الزائل، وقد يشاء التقليديون فصله عن زمنه وانقضائه وزواله ليجعلوا منه شبيهاً لمن كان في الأزل وسيبقى الى الأبد! ومن عبدالله العروي يعود كمال عبداللطيف الى محمد أركون الذي يرصد الانقطاع الحاصل في الفكر السياسي العربي، والكف عن متابعة جهود علي عبدالرازق في تشخيص وتشريح علاقة الإسلام بأصول الحكم، وذلك بالعودة الى قراءة تاريخ الفكر الإسلامي السياسي قراءة نقدية، فإذا كان "العلم مطلوباً ولو في الصين" وإذا "كان العلم مطلوباً من المهد الى اللحد"، وإذا كانت "ساعة تفكّر خير من عبادة سنة" حديث شريف فلمَ يحول اصحاب التقليد وأصحاب التاريخ بين الإنسان والعلم، وبين الإنسان والتفكر، وبين الإنسان والنظر، وبين الإنسان والعقل، وبين الإنسان وأسئلته؟ أليس من الكفر إغراق المؤمنين في عتمات العالم وخلقه، والتفكّر فيه، كما يتفكر العلماء الذين تأخذهم الروعة، التي قال فيها الليث: كل شيء يروعك منه جمال وكثرة تقول راعني فهو رائع، او مخيف حتى تتفكر به، وتتنبه ان الأمر ليس على ما تحاذر، فتطمئن إليه، إذ انكشف لك ويذهب عنك الفزع، وتسكن منك الروح بالمعرفة لا بجهلها. أليس من الكفر ان يستوحش المرء من فكره ويخشى من نفسه، ولا يتوب إلا الى صاحب السلطتين الدينية والزمنية، من دون صاحبه الأعلى والأعظم الذي تشغله عنهما السلطتان بالتجهيل والأمية، وتعوضان عليه بالذكورة والبطريركية، لتجعلا له من المرأة متنفساً ومتعة وحصناً يؤوب إليه ليفرغ فيه غضبه او يبخسه ليتعالى عليه او يأمره لينصاع له او يحجب عنه روعة الخلق ليرتاع في عتمات الجهل. إن كمال عبداللطيف ومثله محمد أركون وهشام جعيط وناصيف نصار وعبدالله العروي وفرح انطون وشبلي الشميل ويعقوب صروف وجبران خليل جبران وفرنسيس المرّاش وطه حسين وعلي عبدالرازق قاموا الى خطاب يراوغ الماضي والحاضر والمستقبل، وقد فاء كل منهم الى جدليات ومرجعيات بعضها سلفي، والآخر غربي، والآخر ذكوري، والآخر سياسي وكأن الواحد، والكل، والذات منهم والجماعة تعتذر بالعمى وعدم الرؤية أو القدرة على النظر، لأن الواحد منهم كما الجماعة يتعامى عن الدعوة الى محو الأمية وإلى تحرير المرأة. علمانية ام غير علمانية ليست هذه اشكالية نظام الحكم، دينياً او سياسياً، وإنما الإشكالية التي تتعاظم. ويستكبر الجميع من النظر فيها هي اشكالية المرأة التي غاب عنها وجهها ولسانها وعقلها وشمسها وقمرها وكل مخلوقات الأرض التي وجب عليها ان تراها وأن تقرأها وأن تتفكر فيها، ليكون لها ثواب العقل وثواب الفكر وثواب الخلق الذي ميزها عن البهائم التي لا تُثاب ولا تعاقب، لأن العقل ليس لها منة او نعمة