دخل الرائد النهضوي شبلي الشميل غرفة الاستحمام صبيحة الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1917 ولم تلبث زوجته أن سمعت أنيناً تبعته صرخة «يا ألله». وإذ أسرعت إليه وجدته جثة هامدة إثر نوبة حادة من نوبات الربو التي طالما عانى منها في سنواته الأخيرة. هكذا انتهت حياة مفكر اعتبر إول دعاة الإلحاد في الفكر العربي على الإطلاق، كما رأى جورج هارون في «شبلي شميل رائد نظرية التطور في عصر النهضة» وأول داعية للداروينية والمادية في الشرق العربي» وفق ز.ل. ليفين، وقد باغت الجماهير بفلسفة زحزحت الأفكار عن مألوفها، ودفعت المعتقدات إلى الأمام بقوله إن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة الطبيعية، على حد تعبير كمال الحاج الذي اعتبر الشميل ذلك المجهول في بني قومه ومن بني قومه. وما ذلك إلا لأنه تفلسف، والفلسفة بضاعة غير مطلوبة تحت سمائنا. وعلى عكس مارون عبود الذي اعتبره أديباً قبل كل شيء، رأى إليه الحاج على أنه فيلسوف مئة في المئة، بل إنه أحد جهابذة الفلسفة اللبنانية الحديثة وأئمتها نظراً إلى أصالته الفكرية وضخامة النتاج الذي تركه. لكن كيف وصلت فلسفة دارون إلى الشميل وكيف استحوذت على تفكيره فكرة النشوء والارتقاء حتى أصبح فيلسوف هذه الفلسفة في الشرق العربي؟ ولد الشميل عام 1850 في بلدة كفرشيما التي أنجبت رعيلاً بارزاً من النهضويين العظام، مثل ناصيف اليازجي وولديه ابراهيم ووردة وسليم وبشارة تقلا مؤسسي الأهرام، درس الطب في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية) في بيروت، وتابع اختصاصه في باريس في عام 1875 حيث درس مع الطب نظرية التطور والعلوم الطبيعية وعلم التشريح، واطلع على نظرية داروين كما شرحها الفيلسوف المادي الألماني لودفيغ بوخنر. عاش ما يقرب من نصف حياته في مصر، حيث مارس الطب والكتابة حتى وافته المنية. أما انفتاحه على فكر داروين فيعود إلى خطبة ألقاها أحد أساتذة الكلية أدوين لويس في 1882 وعرج فيها على مذهب هذا الفيلسوف في النشوء والارتقاء، ما أثار غضب الإرسالية الأميركية، وقسم الأساتذة والطلاب بين محبّذ ومقبّح، ودفع لويس إلى الاستقالة وبعض الأساتذة إلى الهجرة إلى مصر. آمن الشميل بأن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة الطبيعية، وقد رأى في مذهب داروين حلاً لكل المسائل الاجتماعية والعلمية والفلسفية، ذاهباً إلى أن الإنسان من أصل مادي، وأنه قابل للارتقاء إذا عرف كيف يستخدم قوى الطبيعة. كما قال بمبدأ التوحيد الذي لا يسلم بشيء غريب عن الطبيعة، وبقدم المادة وتلازمها مع القوة، نافياً على شاكلة بوخنر أي وجود خارج الطبيعة، وأي تدخل في تحولاتها من خارج العالم المادي. اعتبر أن العلوم الطبيعية هي وحدها الكفيلة بتقدم الناس وبإنقاذ المجتمع من المفاسد والاستبداد، ووقف ضد التعصب الديني الذي هو أصل البلاء، والذي يعود إلى حب الرئاسة في الرؤساء وسطوة دهاة الناس على ساذجي العقول. أما فوائد نظرية داروين فتتلخص في رأي الشميل في أن الانسان من خلالها يرى نفسه في حركة تطوّرية نحو التقدم والكمال، وفي أن اقتراب الإنسان من الطبيعة وأسرارها يساعده على التحرر من الخرافات والأساطير وإبداع الحضارة بتسخير القوانين الطبيعية لمصلحته، كما أن العلوم الطبيعية تمهّد للديموقراطية، لأنها هي وحدها التي تساوي بين الأفراد، وتؤسس للعدالة الاجتماعية من خلال اشتراك الجميع في العمل واشتراكهم في المنفعة على نسبة هذا العمل. ثمة أسئلة لا بد أن تتبادر إلى ذهن الباحث في فكر النهضة العربية: هل بلغ الشميل حد الإلحاد كما أشار أكثر الباحثين في فكره، وهل هو ملحد فعلاً كما يبدو من خلال آرائه المادية أو تبنّيه الفكر الفلسفي المادي الألماني، في حين أن جميع النهضويين العرب كانوا مؤمنين، ولم يذهب عداؤهم لرجال الدين إلى التشكيك بالمسلّمات الدينية، على رغم احتدام هذا العداء؟ إزاء هذه التساؤلات نرى أن الحقبة الزمنية التي تبلور فيها فكر الشميل تميزت بتفاقم استبداد رجال الدين وجورهم واضطهادهم العلماء والمثقفين، وقد دفع ثمناً لذلك أدباء ومثقفون عرب أفذاد اغتيالاً وتكفيراً ونفياً من أسعد الشدياق إلى جبرائيل دلال، ومن فارس الشدياق وفرنسيس المراش إلى أديب إسحق وفرح أنطون. وقد قاد التعصب الديني ورفض الآخر إلى مواجهات طائفية دموية في لبنان وسورية، الأمر الذي حدا بالشميل، وهو المشبع بالفكر العلمي والثقافة الأوروبية، كي يشتط في أفكاره المادية وصولاً إلى الإلحاد. وقد عبر عن موقفه هذا بقوله: «إذا شددت النكير على الأديان فلا لأحرج أحداً في إيمانه. ولولا ما أشاهده كل يوم من شرور مستعصية لما قمت قومتي على الأديان، وهي باتت في أيدي الجهلاء سلاحاً للتفريق، حتى في الوطن الواحد، فإذا بالبركة المقصودة منها تنقلب بأيديهم لعنة جنى بها الخلف على السلف». في رأي ز.ل. ليفين إن الشميل الذي ظل طوال حياته تطورياً راسخ العقيدة، لم يكن مادياً حتى النهاية. ففي كرّاس «الحقيقة» أدخل تعديلاً يدل على اعترافه بوجود خالق أسمى، وكتب أن «تطور العالم وفقاً لقوانينه الخاصة يثبت القوة العظيمة لخالق هذه القوانين» كما رأى في الانتقاء الطبيعي نظاماً معقولاً معيناً هو بمثابة قوة خارجية. الأمر الذي رأى فيه ليفين موقفاً تكتيكياً، ونرى فيه من جانبنا دلالة على أن الفكر العربي، فكر مؤمن مهما بدا لنا غير ذلك. يؤكد موقفنا هذا أن فرنسيس المراش الكاثوليكي المؤمن قال بنظرية داروين وانحاز إلى فكرة التطور والانتقاء الطبيعي قبل الشميل، وذلك في كتابه «مشهد الأحوال» 1872. أثارت أفكار الشميل جدلاً واسعاً في الفكر العربي لتميزها بالجذرية وتحديها المسلمات الإيمانية حتى أن اسماعيل مظهر قال فيه: «لولا قسط من الحرية كسبته مصر الحديثة منذ غزو نابوليون وما بعده، لما كان بُعد شميل عن السجون والتعذيب بأكثر من بعد غاليليو عن محرقة محكمة التفتيش». بالفعل بلغ نقد الشميل مستوى كبيراً من العنف وصل إلى حد الشتائم، فاتهمه البعض بالتيه في بيداء الغلط وخداع الآخرين، ورأى في تعريب الشميل لبوخنر «لجة اوهام غايتها دك دعائم الهيئة الاجتماعية». ولعل أعنف المناظرات حصلت بين الشميل وابراهيم الحوراني الذي قال بضرورة التصدي ل «الوساوس الداروينية التي أشاعها الشميل والعمل على أبطالها بالأدلة اليقينية» فرد عليه الشميل بقوله: «تباً لدهر رجاله صبيان». بعد مئة عام على غيابه نرى أن مآلات التاريخ أنصفت الشميل في تفكيره العلمي وإيمانه بالتطور الإنساني اللامحدود وريادته في حض العرب على تجاوز تخلفهم التاريخي والمشاركة في الثورة العلمية الحديثة. إلا أن مآلات التاريخ إياها خيّبت موقفه من الدين، فلم يكتب لأفكاره الإلحادية التجذر في الفكر العربي، حتى عند الماركسيين العرب الذين أخذوا بالجانب السياسي الاجتماعي من الماركسية من دون جانبها الفلسفي المادي. وها الإنسان المعاصر، بعد كل التقدم العلمي الباهر يطرح سؤال المعنى والوجود والمصير، ويجد ملاذه في الإيمان الديني الثابت، على رغم كل الثورات والتحولات الجذرية في الفكر والسياسة والاجتماع.