حين يذكر موضوع الاختراق الروسي لأجهزة الاستخبارات الغربية فإن أول اسم يقفز الى الذاكرة هو الجاسوس البريطاني الشهير كيم فيلبي الذي عمل مديراً لمكتب الاستخبارات البريطانية ام. آي. 5 في واشنطن، وعاد الى لندن ليشغل منصب كبير محللي شؤون الاستخبارات السوفياتية في رئاسة الجهاز. غير أن أوليغ كالوغين الجنرال السابق قي جهاز الاستخبارات السوفياتي كي. جي. بي الذي لجأ الى بريطانيا يقول إن روبرت هانسن عميل موسكو داخل مكتب التحقيقات الفيديرالي اف. بي. آي الذي حكم عليه السنة الماضية بالسجن 17 عاماً، إثر إدانته بتهمة التخابر لمصلحة الجهاز السوفياتي المذكور وجهاز المباحث العامة الذي خلفه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يعتبر "أكبر بكثير من فيلبي" لجهة نوع وقيمة المعلومات الاستخبارية التي قام بتمريرها الى الروس. وصدر أخيراً في واشنطن كتاب عنوانه "المكتب والعميل"، يسرد فيه مؤلفه ديفيد فيز مراسل صحيفة "واشنطن بوست" للشؤون العدلية، قصة هانسن، وكيف نجح في إخفاء سره الكبير عن عملاء اف. بي. آي ووكالة الاستخبارات المركزية سي. آي. ايه، بل كيف نجح في إخفاء هويته الحقيقية حتى عن مسؤولي الاستخبارات الروسية المكلفين متابعة الاتصال به، ولم يكن هؤلاء يجهلون هويته فحسب، بل لم يسمح لأي منهم بمقابلته وجهاً لوجه حتى اللحظة الأخيرة التي سقط فيها في قبضة الأميركيين. مثل فيلبي الذي كان يعتبره مثله الأعلى، تفوق هانسن في القيام بدور العميل المزدوج. وكان فيلبي اشتراكياً مثل كثيرين من أبناء جيله من المثقفين البريطانيين، وكان حريصاً على تزويد موسكو بالتطورات النووية لدى الغرب ليضمن أن الحرب الباردة لن تتحول مطلقاً حرباً حقيقية. والمعروف أن فيلبي لم يتقاض أي مبلغ مالي في مقابل تعاونه مع الروس، الى أن اضطر الى الفرار الى موسكو حيث حصل على راتب تقاعدي. أما هانسن فهو كاثوليكي متشدد، يكره الشيوعيين "الملحدين" من أعماقه، مثلما كره مكتب التحقيقات الفيديرالي الذي كان يعتبره على الدوام مؤسسة غير فاعلة. لكنه تقبل أموالاً أرسلتها له موسكو لتسديد بعض الفواتير. غير أن فيز يعتقد بأن هانسن لم يتقبل تلك الهدايا المالية إلا لأنه كان يخشى إذا تمسك برفضها أن يدفع ذلك الروس الى الارتياب في أمره، والاعتقاد بانه يقدم معلومات مضللة. أكثر فصول الكتاب إثارة الوصف الذي يقدمه المؤلف للمعاناة النفسية والبدنية لهانسن من جراء المعاملة القاسية التي لقيها من والده الذي كان يعمل شرطياً في شيكاغو، خصوصاً أنه الابن الوحيد لأبيه. لم يقو هانسن على مصارحة أي شخص آخر بما كان يعتمل في نفسه نتيجة الاهانات المستمرة من جانب والده. كان يحرص على حضور القداس كل يوم. وكان يعترف للقس بالانتهاكات الامنية التي كان يرتكبها، وحرص على إطاعة تعليمات القس الذي وجهه بالتبرع بالأموال التي كانت ترسلها موسكو اليه للأغراض الخيرية. وقد خص بتبرعاته المنظمة التي رعتها الأم تيريزا في الهند، وحول جانباً كبيراً من تلك الاموال الى الحسابات المصرفية الخاصة بزوجته وأطفاله. ومن المفارقات أن والد زوجته، وهو أستاذ جامعي متقاعد تخصص في علم النفس، كان تعليقه على ما أوردته الصحف عن زوج ابنته بعد اعتقاله أن هانسن بحاجة الى طبيب نفسي وليس قساً ليعالج مشكلاته. تردد هانسن بانتظام على الكنيسة نفسها التي كان يتردد عليها قاضي المحكمة العليا انطونين سكاليا ومدير مكتب التحقيقات الفيديرالي لويس فريه الذي يحرص على وضع صورة صغيرة للبابا على مكتبه. وحرص العميل المزدوج على إلحاق أبنائه الاربعة بمدرسة ترعاها الكنيسة نفسها. ومثلما كان انطوني بلنت وغاي بيرغيس - زميلا فيلبي في العمالة للسوفيات - يعانيان من المثلية الجنسية، كانت حياة هانسن الخاصة مفعمة بالإثارة والحرمان. فقد أنفق جانباً كبيراً من الأموال التي تلقاها من موسكو على راقصة في ناد للعراة كان يأمل بإقناعها بالتحول الى المذهب الكاثوليكي، ولذلك دفع بعض فواتيرها، واشترى لها سيارة، بل اصطحبها معه الى هونغ كونغ حين طلب منه القيام بمهمة هناك. وأفادت الراقصة - طبقاً للكتاب - بأن كلاً منهما نزل في فندق بعيد عن الفندق الذي نزل فيه الآخر. لكنها أقنعته في نهاية المطاف بضرورة نومهما في غرفة واحدة، لأنها شعرت بالذنب، إذ أنفق عليها كل تلك الأموال الطائلة من دون أن تعطيه شيئاً في المقابل! وكان لديه صديق منذ عهد الدراسة يحب أن يتقاسم معه المتعة المحرمة. ولهذا تشاركا في قضاء ليلة مع إحدى بنات الهوى في ألمانيا. وما لبث هانسن بعد تلك التجربة أن قام بتثبيت كاميرا في غرفة نومه حتى يرصد لصديقه اللحظات الحميمة الخاصة بينه وبين زوجته في غرفة نومهما! وارسل اليه رسائل بالبريد الالكتروني يتحدث فيها عن الجوانب التي تثير غريزته في سلوك زوجته. ويجتهد مؤلف الكتاب ليشرح الوسائل التي استعان بها هانسن في الإبقاء على عمالته طي الكتمان نحواً من 17 عاماً، بل نجح من خلالها في اخفاء هويته حتى على عملاء الاستخبارات الروسية الذين كانوا يتسلمون منه المعلومات التي يحصل عليها. ولم يدرك الاميركيون أن ثمة جاسوساً مندساً وسطهم إلا بعدما قام أحد المنشقين على الاستخبارات الروسية بتسليمهم ملفاً عن هانسن، ليثبت المنشق للأميركيين أنه منشق بحق وليس عميلاً مزدوجاً آخر يريد الانضام الى لعبة الجاسوسية الدولية المستمرة طوال عهد الحرب الباردة. غير أن الملف لم يكن يتضمن أي معلومات عن هوية الجاسوس الأميركي المدسوس. ولأن الملف يشير الى أن هانسن كشف للسوفيات أسماء 11 عميلاً سوفياتياً يعملون لمصلحة الاستخبارات الاميركية، اثنان منهم عملا في السفارة الروسية في واشنطن، ولأن معظهم أعدم نتيجة لذلك، كان طبيعياً أن يسعى ممثل الإدعاء الى الالتماس من القاضي توقيع عقوبة الاعدام بحق هانسن، غير أن مسارعته الى قبول عرض من المحققين للتعاون معهم جعلت السلطات الاميركية تكتفي بطلب الحكم عليه بالسجن المؤبد. وسمح لزوجته بالاحتفاظ ببيت العائلة، وتقرر منحها معاشه التقاعدي من مكتب التحقيقات الفيديرالي ومبلغ 40 ألف دولار سنوياً. وكان هانسن قد بلغ الستين من عمره حين افتضح أمره. ولا تزال زوجته تذهب الى القداس صباح كل يوم، لتعود للعناية بشؤونها المنزلية. أما بالنسبة الى مستقبل هانسن، فليس أمامه أمل في تذوق طعم الحرية مرة أخرى، إلا إذا نجحت روسيا في كشف عميل مزدوج يتجسس لمصلحة الاميركيين وحكمت عليه بالسجن المؤبد ليكون بمستطاعها أن تطلب من الاميركيين مبادلته بهانسن. ولكن هل تستطيع روسيا العثور على عميل يعادل هانسن لجهة الخدمات الكبيرة التي قدمها للإستخبارات الروسية؟. الوثائق المسربة الى الروس بلغ عدد الوثائق التي قام هانسن بتسليمها الى الروس نحو 60 ألف وثيقة، يمكن تلخيص أهمها على الشكل التالي: - تفاصيل موازنة بلغت 500 مليون دولار لبناء نفق للتجسس تحت مبنى السفارة الروسية في واشنطن يشرف على أجهزته مكتب التحقيقات الفيديرالي ووكالة الأمن القومي الأميركي. وقد تمكن الروس بفضل التسريبات التي حصلوا عليها من هانسن من تغذية الأميركيين بمعلومات مضللة واستمروا على ذلك المنوال الى أن تم القبض على هانسن. - خطة استدامة الحكومة لضمان بقاء سلطة الرئيس الاميركي والوزراء وكبار القادة العسكريين في حال تعرض الولاياتالمتحدة لهجوم نووي، الامر الذي أتاح للإتحادالسوفياتي الاتيان بخطة من شأنها إبطال مفعول الخطة الاميركية. - كشف هوية 11 عميلاً روسياً يتجسسون لمصلحة الأميركيين. - تسريب وثيقة عنوانها "برنامج العملاء المزدوجين الخاص بمكتب التحقيقات الفيديرالي"، وتتضمن هوية الأشخاص الذين يمكن تجنيدهم عملاء مزدوجين وكيف يمكن مفاتحتهم في الامر. وقد أتاح ذلك لروسيا الزج ببعض الأشخاص ليكونوا عملاء مزدوجين مزيفين! - تقارير عن خمسة منشقين سوفيات تتضمن أسماءهم المستعارة وعناوين سكنهم في الولاياتالمتحدة. - تسريب وثيقة "البرنامج القومي للتجسس" للسنوات 1988-1991، ويتضمن الموازنة المالية وأوجه صرفها. - تقرير عنوانه: "الدائرة الرئيسية لجهاز كي.جي.بي.: هيكلها ووظيفتها وأساليبها". وقد عرف الروس من التقرير ماذا يعرف الاميركيون عن أكبر أجهزتهم الاستخبارية. - وثيقة تتضمن تحذيراً من أن الديبلوماسي الاميركي فيليكس بلوك يخضع للتحقيق للاشتباه بكونه عميلاً روسياً. - عدد من تقارير مجلس الامن القومي الاميركي الموجهة الى الرئيس. - نحو 30 تقريراً في غاية السرية عن وكالة الامن القومي وطرق الرقابة وطائرة "ستيلث" التي تستخدم تقنية الاستخفاء عن أجهزة الرادار وتحليل القوات النووية الروسية وهوية عملاء الاستخبارات الاميركية الذين تتم تهيئتهم لعرض خدماتهم على السوفيات باعتبارهم عملاء مزدوجين، الى جانب تقرير عن الشيفرة ووسائل الاتصال السري الاخرى. من الكتاب "قد يقول قائل إما أني شجاع الى درجة الجنون وإما مخبول حقاً. وأنا أقول إن كلا الصفتين لا تنطبقان عليّ. بل أقول إنني شديد الولاء الى درجة الجنون. وقد قررت أن أختار هذا النهج حين كنت في الرابعة والعشرين من عمري. إذ قرأت آنذاك كتاب فيلبي". من رسالة كتبها هانسن الى العميل الروسي المكلف الاتصال به وقد أرسلها اليه قبل فترة قصيرة من القبض عليه، ووقعها بالاسم المستعار "رامون غارسيا". "يمكن تشبيه الولاياتالمتحدة بطفل ضخم البنية لكنه متخلف عقلياً ويمكن أن يكون خطيراً جداً، لكنه صغير وغير ناضج ويمكن تخويفه بسهولة. ولكن لا يغرنك المظهر. فهو أيضاً يمكن أن يتحول سريعاً الى طفل بارع، مثل العالم المهووس، إذا اقتنع بهدف معين. وقد خبر اليابانيون ذلك أفضل خبرة" من رسالة أخرى وقعها هانسن باسم "رامون"