لا تحاكي هيئة كل من كاتيا وليرا اللتين تسيران كل ليلة في شوارع مدينة سانت بطرسبورغ الصورة النمطية المعروفة عن بائعات الهوى، فهما لا تتجاوزان التاسعة عشرة وترتديان في الأغلب سراويل الجينز وملابس قطنية، وتضعان مسحات خفيفة من ماكياج رخيص قديم ينال أحياناً من نقاوة بشرتهن الطبيعية، كما بدا طلاء أظافرهما متآكلاً قديماً. حين تسير هاتان الفتاتان في شوارع المدينة، تبدوان على الأغلب مثل كثيرات من بنات جيلهن اللواتي يعانين صعوبات اقتصادية لا أكثر. لم تجمعهما الصداقة بشكل طبيعي، لكنها المهنة، فقد تعارفتا من خلال ممارسة الدعارة وأصبحتا صديقتين. غالباً ما تسدل كاتيا شعرها الأشقر بإهمال على كتفيها، وهي قليلة الابتسام وتكتفي باعطاء أجوبة قصيرة حين تريد أن تشرح قصتها. وتشعر نظرتها الجامدة سائلها بأنها تنفّذ واجباً ما، لا أكثر حين تتكلم. أما ليرا فتبدو على النقيض من خلال إسهابها في الحديث عن معاناتها من اليتم و الفقر، وتزيد نظراتها المترددة الساهمة من بؤس محياها على رغم الجاذبية التي تتمتع بها. بكلمات قليلة واضحة وهي تمجّ سيجارتها تحدثت كاتيا عن الجوع الذي عاشته مراراً هي ووالدتها المدمنة على الكحول منذ رحيل والدها عن المنزل حين كانت طفلة، وهي تتحدث عن هذه الفترة من حياتها ببرود من يرغب قطع أي صلة حميمة بتلك المرحلة، "بدأت العمل في الدعارة منذ سنتين بعد أن عانينا طويلاً أنا وأمي من الجوع فهذه المهنة تكسبني المال بسهولة". أما ليرا فهي لا تعرف شيئاً عن أهلها، فقد نشأت في الميتم وعاشت فيه حتى السادسة عشرة، وهي خرجت منه لا تملك أي خبرة في الحياة ودفعها الفقر إلى قبول عرض صديقة لها للعمل في ميدان الدعارة وهو قطاع تعتبره ناشطاً في مدينتها سانت بطرسبورغ. لكن كاتيا وليرا اختارتا العمل بمفرديهما أي من دون الالتحاق بمجموعة، كما هي حال معظم من ينخرطن في هذا الأمر، حيث تعمل فتيات مع شبكات دعارة منظمة تؤمنّ لهنّ الحماية والمرافقة الأمنية في مقابل جزء من الأرباح. وهذه الشبكات تتنافس في ابتكار أساليب ترويج فتياتها بدءاً من نشرهن على الطرقات وفي قاعات الفنادق وصولاً إلى مواكبة المسافرين في القطارات وأساليب كثيرة متنوعة يساهم الانترنت في تسويقها، فقد بلغت تجارة الجنس في روسيا حدوداً غير مسبوقة. وما أن يحلّ الظلام في شوارع المدن الروسية حتى يتهيأ المتجول لمصادفة أسراب من الفتيات العاملات في الدعارة أينما حلّ وارتحل، فوجودهن لا يقتصر كما هو حال مدن كثيرة، على مناطق أو شوارع معينة، بل هو شائع في أطراف المدن كما في وسطها. هذه الأعمال تتمّ بسهولة فائقة تكاد تنسي كم تخفي هذه المهنة بؤساً في طياتها. تلقت كاتيا عروضاً عدة للعمل في الدعارة خارج روسيا لكنها كانت دائماً ترفض، "من الصعب أن أصدق أولئك الذين يعرضون علينا العمل، فهم يكذبون ولا أصدقهم، وأنا شخصياً أفضل العمل هنا في روسيا اذ يمكنني أن أجد الزبائن بنفسي، وهو أمر في غاية السهولة، كما إنني لا أريد أن يشاركني أحد في مالي ولا أريد أن أعمل تحت سقف وضغط تلك العصابات التي تجبر الفتيات على هذا الأمر". تشير كاتيا إلى أنها باتت تلاحظ ازدياد ظاهرة الدعارة التي لم تعد تقتصر على مراكز المدن إذ باتت اليوم في كل مكان، وهي لا تنكر أن ثمة مخاطر تواجهها هي وليرا وجميع الفتيات اللواتي يعملن بمفردهن لكنها تؤمن أن الأذى سيقع في الحالتين. الشرطة والعصابات أما ليرا فتقول: "إذا عملت مع مجموعة وتحت رعاية عصابة فأنا أحصل حينها على حماية و سيارة توصلني لكنهم يشاركونني في المال وأنا أعرف العديد من الفتيات اللواتي يعملن تحت هذه الشروط، وهي شروط سيئة لأن هذه العصابات تمارس ما تريد مع الفتيات اللواتي يتعرضن للضرب والاغتصاب. أنا لا أعرف أقرباء لأنني عشت في ميتم لذا لن يسأل عني أحد إذا تمّ بيعي إلى أي مكان في العالم.إنه عالم مخيف فهناك مجرمون حولنا في كل مكان ورجال الشرطة باعوا أنفسهم للعصابات". تتذكر لينا، وهي شابة روسية في العشرين من عمرها، تلك المرأة الأربعينية الودودة صديقة والدتها، والتي غالباً ما كانت تتحدث وتنسج الكثير من الحكايات عن ابنتها نتاليا التي سافرت واستقرت في الخارج حيث تعمل وتجني المال وترسل مبالغ شهرية لأمها في روسيا. داعبت حكايات هذه السيدة تطلعات لينا إلى حياة أفضل من تلك التي تعيشها، وباتت تأمل بالحصول على فرصة للسفر الى اليونان للعمل كخادمة. وفعلاً تمكنت لينا عبر مكاتب الاستخدام المنتشرة من الحصول على عرض مغرٍ بالنسبة إليها في أثينا، فعاشت تترقب لحظة سفرها ومباشرة تلك الحياة الجديدة التي أملت بأن تكون خلاصها وعائلتها من الفقر. لكن في اليوم الذي وصلت فيه لينا إلى اليونان، صادر رب عملها جواز سفرها بالقوة وضربها وأجبرها على العمل كعاهرة من دون أن يعطيها أي أجر. وبعد أشهر تمكنت لينا من الهرب من خاطفيها وتوجهت الى مركز للشرطة في اليونان حيث تم ترحيلها الى روسيا. مرّ عام على حكاية لينا التي عادت الى روسيا وهي مثقلة بمشاعر الغضب و"العار" كما تقول، وهي اختارت أن تروي محنتها شعوراً منها بالتعاطف مع خمسين الف امرأة روسية يتعرضن سنوياً للخداع و الاستدراج قسراً الى أسواق الجنس في روسيا وخارجها. إنها ليست بالمشكلة الطارئة أو المستجدة، وهي ليست قضية تحتكرها روسيا، لكن عوامل عدة تجمعت لتجعل من روسيا واحدة من أبرز الدول المصدرة للعاهرات عن طريق الإكراه، ما يجعلها ظاهرة عامة، فبحسب دراسة حديثة أجريت العام الماضي في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، فإن 70 في المئة من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 18 و 30 يرغبن في مغادرة البلاد بغية الحصول على عمل في الخارج، لكن القيود المفروضة على تأشيرات السفر، وبالتالي الحصول على إقامة وعمل بشكل شرعي تجعل الأمر بالنسبة إلى النساء الشابات أشبه بالمستحيل مما يترك لهن خياراً وحيداً هو شراء التأشيرات من "مكاتب الاستخدام" التي ترغمهن على ممارسة الدعارة ما أن يعبرن الحدود خارج روسيا. تقول ناشطات في مجال حقوق المرأة ان الظاهرة في موسكو و المدن الروسية الكبرى هي أقل حدة نظراً الى توافر فرص عمل معقولة والى انتشار وعيٍ نسبي في شأن انتشار الجرائم. "في العديد من المدن الصغرى و البلدات في المقاطعات لا تحصل النساء على فرص عمل"، تقول ماريا موكوفا المديرة التنفيذية لمؤسسة "الأخوات" الخيرية في موسكو، والتي ترعى نساءً من ضحايا العنف الجنسي. "نحن نرى العديد من النساء اللواتي تم سوقهن الى الرقّ بسبب اليأس الاقتصادي وبسبب جهلهن بالعالم إضافة الى قلقهن النفسي. ليست هناك احصاءات موثوقة عن هذا الأمر لكنني واثقة من أن المشكلة اكبر مما نتصور". هناك تقديرات بوجود حوالي نصف مليون امرأة روسية تم استدراجهن إلى أسواق الرقّ والدعارة خلال العقد الماضي في حوالي 50 بلداً أجنبياً. وتضم اللائحة الولاياتالمتحدة، لكن البلدان الأكثر جذباً للرقيق الروسي هي المانيا وايطاليا واليونان وبلجيكا والصين وبعض بلدان الخليج، الى درجة أن أسماء الروسيات في عدد من الدول باتت مرادفاً للعاهرات. خدعة المكاتب تقليدياً، يتمّ خداع النساء من خلال إعلاناتٍ تعد بأعمال ذات رواتب مغرية في الخارج. الوظائف المعلن عنها تشمل العمل كخادمات ومربيات أطفال و نادلات أو غاسلات صحون. وكالات التوظيف التي تعمل مع شبكات اجرامية توفرّ التأشيرات والترتيبات اللازمة للسفر، وحين تصل المرأة الى الوكيل المحلي تتمّ مصادرة جواز سفرها وتحذيرها من أنها دخلت البلد بطريقة غير شرعية وأن عليها أن تدفع مصاريف السفر. ويبلغ العديد من الضحايا عن تعرضهن لضربٍ مبرح ولاعتداء جنسي و لاحتجاز لمدد طويلة. "يمكن لهذا أن يحدث لأن هناك تعاوناً وثيقاً بين العصابات الاجرامية ورجال الأعمال المشبوهين والمسؤولين الفاسدين في روسيا. لكن هناك أيضا روابط وثيقة مع الجريمة الدولية"، يقول فيكتور بوكمليكين عضو اللجنة التشريعية في مجلس الدوما الروسي. فلاديمير تشوكاردين نائب رئيس مكتب الشؤون الاجتماعية في إدارة منطقة ليننغراد، التي تضم مدينة سانت بطرسبورغ يعتبر أن ظروف العمل الحالية في روسيا هي ظروف غير مشجعة عموماً وقاسية، خصوصاً على النساء الشابات، "إن لائحة الوظائف المتوافرة للنساء محدودة ويكاد أن يكون من المستحيل على نساء لديهن أطفال أن يجدن عملاً". وفيما يتمكن الرجال الروس غالباً من البحث عن عمل في الخارج فإن الوضع هو أكثر صعوبة بالنسبة إلى النساء الشابات اللواتي يبحثن عن وظائف لا تتطلب مهارات فائقة مثل العمل كنادلات أو حاضنات أطفال. نتاليا كوديرفا مديرة مؤسسة مكافحة التمييز في سانت بطرسبورغ ترى أن القيود المفروضة على التأشيرات جعلت من الصعب على الروسيات الشابات أن يجدن عملاً شرعياً في الخارج. "النساء الباحثات عن عمل في الخارج هن في وضع في غاية الصعوبة. المشكلة الاساسية في رأينا هي غياب اتفاقات ثنائية بين روسيا والدول الأخرى لتنظيم قضايا الهجرة و العمل". في معظم الحالات، كما تقول كوديرفا، فإن النساء يلجأن إلى ما يسمى بمكاتب ووكالات التوظيف والتي تؤمن تأشيرة سفر ووعوداً بفرص عمل ما أن تصبح النساء في الخارج. لكن بدلاً من ذلك فإن معظم النساء وما أن يصلن إلى الغرب حتى تتم مصادرة وثائقهن الشخصية من قبل الوكلاء ويتم بيعهن إلى وكلاء آخرين من دون الإبقاء على أي صلة لهن بالعالم الخارجي. "في معظم الحالات، تتمّ إدارة حلقات التهريب المتخصصة بتهريب النساء الروسيات من قبل مواطنين روس و يتلقى المهربون حوالي 200 إلى 300 دولار أميركي عن كل فتاة يسلمونها إلى بيوت الدعارة"، تقول كوديرفا. عمليات التهريب هذه تتم بشكل واسع من دون عقاب في روسيا والتي، على عكس العديد من الدول الغربية، لا تملك تشريعاً خاصاً بالتهريب في قانونها الجزائي. وتقول المحامية ماريا ساغيتوفا انه على رغم أن بيع من هم دون الثامنة عشرة أمر غير قانوني في روسيا، لكن ليس هناك قوانين خاصة تحمي النساء ممن هنّ فوق الثامنة عشرة من بيعهن إلى أسواق الدعارة. "بشكل عام فإن القانون الجنائي الروسي كما هو الآن لا يتعامل نهائياً مع محاربة الاتجار بالبشر". وتضيف ساغيتوفا أن طبيعة التهريب الدولي تجعل من الصعب بناء قضية في المحاكم الدولية. وعلى رغم أن الاتحاد الاوروبي اتخذ خطوات لوضع معايير موحدة بتشريعات التهريب بين اعضائه، فهناك القليل من المنظمات التي تعالج الجريمة على مستوى دولي، إذ يعمل الانتربول ووكالة تعزيز الأمن الدولية على الحالات المسجلة فقط وهي نادرة جداً. كما أن الصليب الأحمر الدولي لم يشارك في البحث عن نساء فقدن في تجارة التهريب. ولقضية تهريب الروسيات الى الخارج وجه آخر، فكما ان هناك العديد من النساء اللواتي يتم بيعهن إلى شبكات دعارة في الخارج، هناك نساء من مولدافيا واوزبكستان وطاجكستان وكازاخستان يتمّ بيعهن إلى حلقات دعارة ضمن روسيا نفسها. اليونا فتاة مولدافية لا يزيد عمرها عن 15 عاماً، وقد تم خداعها وجلبها الى سانت بطرسبورغ مع وعود بأنها ستكسب 100 دولار شهرياً من خلال بيع مجوهرات في احد المحلات، لكن بدلاً من ذلك، أمضت اليونا خمسة أشهر ضحية شبكة أجبرتها على التسول في مترو الأنفاق في المدينة. وذكرت اليونا أنها تعرضت للاغتصاب المتكرر والضرب من قبل خاطفيها الذين أخبروها أن علاقاتهم الوثيقة بالشرطة المحلية ستجعل أي محاولة لهربها بلا جدوى. و تقول موكوفا "من الصعب جلب الضحايا لتقديم أدلة وشهادات. نحن نرى ذلك كل الوقت. النساء اللواتي نعمل معهن يغلبهن العار والعيش في رعب النيل من عائلاتهن اذا تحدثن عما تعرضن له". "نحن نسعى الى توجيه رسالة بسيطة لهؤلاء النساء الروسيات وهي، في المرة المقبلة التي تعرض عليهن فيها فرصة عمل تبدو لهن كأنها استجابة لتمنياتهن، عليهن أن يتأكدن تماماً أن هذه الفرصة لن تكون دعوة لزيارة الجحيم" تجارة البشر تعرّف ظاهرة الاتجار بالبشر وتهريبهم بأنها نقل الأشخاص من مكان إلى آخر من خلال خداعهم واستعمال العنف لغرض استغلالهم جنسياً. هذه الظاهرة برزت كممارسة شائعة في العديد من المجتمعات خلال التاريخ، وخلال العقود الأخيرة اتخذ الاتجار بالنساء والأطفال أشكالاً عدة. بالنسبة إلى الجريمة الدولية المنظمة يعدّ الاتجار بالبشر من النشاطات الاقتصادية المهمة اضافة إلى الاتجار بالمخدرات والسلاح إلى حدّ أن الاتجار بالبشر تجاوز أحياناً خطورة أنواع أخرى من التهريب وفاقها في حالات أخرى من حيث العوائد المادية. كما أن الاتجار بالأطفال لأغراض جنسية بلغ حدوداً غير مسبوقة في دول عدة في جنوب آسيا، وجنوب شرقها وشرق أوروبا. وتفيد التقارير أن مراهقات لا تتجاوز أعمارهن الثالثة عشرة تمّ الاتجار بهنّ وبيعهن إلى مواخير في استراليا واليابان. ويستند تحديد المبالغ المالية في هذه الصفقات على معايير مثل العمر والعذرية أو عدمها والجمال وصغر سنّ الفتاة. ولعل حال منطقة سورينام تعكس سيطرة الدول الشمالية على دول الجنوب حتى في هذا القطاع، فهناك حركة تهريب نساء كثيفة ما بين هولندا وسورينام، التي كانت مستعمرة هولندية حتى العام 1975 وهي لا تزال تملك حتى اليوم روابط قوية مع هذا البلد. خلال السنوات الخمس الأخيرة من عقد التسعينات، رصدت منظمات دولية غير حكومية معلومات تتعلق بحوالي160 شخصاً أجنبياً اعتقلتهم الشرطة في دول آسيوية بسبب عنفهم الجنسي مع عاهرات قاصرات واستغلالهم لهنّ. وقد أظهرت المعلومات ان جنسيات هؤلاء الاشخاص موزعة على الشكل الآتي: 40 أميركياً، 28 ألمانياً، 22 استرالياً، 19 بريطانياً، 10 فرنسيين، 4 سويديين، 4 دنماركيين، 3 نمسويين، 3 بلجيكيين، 3 هولنديين، اسباني، سعودي وجنوب أفريقي. وتتخوف المنظمات الأهلية التي تراقب بقلق النشاطات المتزايدة للشبكات الإجرامية المتاجرة بالبشر من تصاعد سيطرة شبكات دولية يديرها نافذون في دول غربية، إذ غالباً ما تشكل الدول الغربية أسواقاً أساسية لهذه التجارة التي لم ترق سبل مكافحتها إلى حجم خطورتها.