لم تكن تلك الشابة المولدافية الانيقة تدري ان الاعلانات المغرية التي تشدها للسفر الى اسرئيل هي بمثابة حكم بالاعدام على البراءة في حياتها. فهي واحدة من ملايين الشبان والصبايا الذين ضاقت بهم حياة الفقر والعوز في الوطن. الراتب في مقابل اي عمل لا يتجاوز 80-100 دولار، وهو مبلغ لا يكفي لسد رمق العيش. فكم بالحري بالنسبة الى الطامحين منهم او منهن الى الحياة الرغيدة، والذين ملّوا حياة الروتين الباهتة، وكلما تقدموا في العمر اغتربوا اكثر عن الوطن. وراحوا يفتشون عن الخروج من الاسوار. هؤلاء يكونون عادة صيداً سهلاً لصيادي البشر، وهم كثر. وايديهم تمتد كالاخطبوط في كل مكان، حتى اصبحوا فرعاً نشيطاً في شبكات المافيا. وتعلموا بسرعة سر اصطياد الشباب عموماً والشابات بشكل خاص. والصنارة التي يصطادون بها بسيطة، فهي عبارة عن اعلان صغير في الصحف المحلية، هذا نصه: "مطلوب شابات جميلات لعمل مميز. الراتب 5 آلاف دولار في الشهر". "هاتوا لي شابة جميلة واحدة تقرأ هذا الاعلان ولا تركض للتسجيل"، قالت محدثتنا الصريحة، التي مرت برحلة العذاب تلك، وقررت الانتقام من هؤلاء الصيادين ففضحت امرهم. اتصلت بهم. طلبوا مقابلة، فحضرت قبل الموعد. قال لها الموظف ان العمل هو خدمة مسنين اغنياء. فتيات أخريات قيل لهن ان العمل هو رقص في فرقة كبيرة. جمالها وحماسها وسذاجتها ادت الى انجاز المعاملات بسرعة بالغة. فلم تسأل كثيراً. ولم تشك ابداً. والموظف الذي استقبلها راح يغدق عليها بالاطراء، ويعبر عن اعجابه بجمالها وبذكائها. وابلغها انه واثق تماماً انها اجتازت الامتحان الاول. وانه سيتصل بها في وقت قريب لترتيب شؤون السفر. ولم يطل انتظارها فما هي الا بضعة ايام، حتى وجدت نفسها في الطائرة، تحلق في السماء، وتشعر ان يديها جناحان لطائر الميمون الذي ينقلها الى حياة سعيدة. وراحت تحلم بالمستقبل الزاهر الذي ينتظرها. وكيف ستجمع النقود وتحفظها وترسل منها للاهل وتوفر الباقي لمشاريع كبيرة وتصبح ثرية وتحقق كل آمالها وآمال والديها، السعيدين اكثر منها بهذا العمل المغري. لكن لم يخطر ببالها ابداً انها وقعت في حبائل عصابات لا تعرف الرحمة ولا الانسانية. محطة قبرص كانت المحطة الاولى في جزيرة قبرص. وهنا زادت الاغراءات. استقبال حافل في المطار. سيارة تنتظرها مع عشر صبايا جميلات مثلها. فندق جيد. طعام شهي. معشر طيب ولذيذ. ايام وتنطلق في الطائرة الى المحطة الثانية وهي مصر. وهنا ايضاً راحة الفندق والاغراءات المعروضة عليهن لا تقل عن قبرص، ولكن هنا بدأت تسمع تعليمات صارمة: "نحن في دولة محافظة. عليكن الظهور بلباس محتشم. الدولة صارمة. لا تخرجن كثيراً. يعتقلون النساء الجميلات. يحاسبون المرء على اي شيء حسب المزاج". وتحول الفندق الى ما يشبه السجن. لكنه ظل فندقاً. والعيش فيه مقبول على رغم القيود. وطال الانتظار، فيما الوعود باقتراب موعد الوصول الى اسرائيل تتكاثر وتتحول الى حبل أكاذيب تمر عليها ايام طويلة، فيتسلل الملل الى النفوس. لكن المضيفين المصريين والمرافقين المولدافيين باتوا اصحاب خبرة في هذه الحالات، يحولون المرارة الى غضب على مصر والعرب: "فالبيروقراطية عندهم جزء لا يتجزأ من العقلية والتراث". همهم ألا يتسرب الشك الى الصبايا. فيمثلون دور الاحتجاج على التخلف العربي ويبعثون الآمال لديهن بأن الخلاص قريب. فهن سينقلن الى اسرائيل، "الدولة الحديثة المتحضرة". ثم يقترحون عليهن البحث عن طريقة سفر اخرى عبر الصحراء، "فهناك يوجد لنا اصدقاء على نقطة الحدود سيسمحون لكن بالعبور بلا عقبات". عبور صحراء سيناء ومع طول الانتظار بضعة اسابيع، يتحمسن للفكرة ويندفعن لتنفيذها. وتبدأ رحلة السفر في صحراء سيناء. تحملت المولدافية ذلك الازدحام الخانق في السيارة التي تنقل جميع الشابات ولم تتذمر من الحر القائظ. فالمهم ان تصل الى اسرائيل. مسافات طويلة تقطعها السيارة التي تتوقف مرات كثيرة بسبب خلل، فتضطر الشابات للانتظار ساعات طويلة تحت اشعة الشمس الحارقة حتى ينطلقن مرة اخرى لتصل بهن السيارة الى قرب بيت شعر يملكه سمسار بدوي كان في الانتظار. وتمر ساعات، ثم تمر ليلة- ليلتان حتى تصل سيارة اخرى. وينتقلن من مكان الى آخر بدعوى ان المسؤول الذي سيتيح لهن العبور لم يصل بعد. ثم فجأة يأتي دور التمثيلية الجديدة: عليكن تجاوز الحدود في مكان محظور. فلا توجد طريقة اخرى للوصول الى اسرائيل. ووجودكن في مصر بات غير قانوني. الان فقط تدرك المولدافية ان هذا العبور يشكل خطراً حقيقياً على حياتها وحياة كل من معها، خصوصاً في هذه الظروف، حيث الانتفاضة الفلسطينية والمراقبة الشديدة على الحدود. وهنا يبرز دور البدوي صاحب بيت الشعر القريب من المكان الذي وصلوا اليه، في مراقبة الحدود واطلاق اشارته ان المنطقة خالية من اية دورية، عندها فقط تنطلق المجموعة متسللة عبر الحدود. "هنا عليكن السير على الاقدام لمسافة ليست طويلة، ولكن علينا القيام بها وبسرعة قبل وصول الدورية" يأمرهم السمسار المرافق. وتبدأ الشابات بعبور طريق صحراوية خطيرة حتى يصلن الى نقطة اخرى... وتكون تلك اسرائيل، حيث يكون بانتظارهن شركاء آخرون في العصابة. مولدافيا واوكرانيا وروسيا حتى هذه اللحظة لم تكن تعرف هذه الشابة او اية شابة اخرى من زميلاتها ما هو مصيرهن في اسرائيل. لم تكن لديهن اية فكرة بأنهن فرقة صغيرة في جيش كبير، قوامه اكثر من خمسة آلاف صبية وربما عشرة آلاف معظمهن من مولدافيا واوكرانيا وروسيا، وصلن الى اسرائيل بالطريقة نفسها واصبحن بضاعة تباع وتشرى في "الدولة الحديثة". ففي اسرائيل، تطورت في السنوات الاخيرة هذه التجارة بشكل سريع جداً، فهناك شبكة ضخمة من العاملين في هذا المجال منتشرة في جميع انحاء البلاد ومرتبطة بشبكة اخرى دولية، وتنتشر هذه التجارة في مختلف بلدان العالم، وهي جزء من اعمال المافيا الروسية المعروفة التي تصدر "البضاعة". بالمزاد العلني في اسرائيل فقط تعرف الشابة انها بيعت بالمال، وان ثمنها 3 آلاف دولار حتى الآن، وانها ستباع كالعبيد لسيد جديد وسيصبح سعرها مضاعفاً. واذا بيعت بالمزاد العلني سيكون سعرها اكبر. وان عملها الاساسي هو الدعارة. عندما تصل الفتيات الى اسرائيل يقدم لهن تقرير واضح عما سيحصل لهن ولكن ليس قبل تخويفهن بتمزيق جوازات السفر والتهديد بإبلاغ العائلة في مولدافيا او اوكرانيا بحقيقة ما تعمله الواحدة منهن اذا رفضت العمل او حاولت الهرب او توجهت الى مركز الشرطة لتقديم شكوى. عندها فقط ترضخ للامر الواقع، ثم تأتي المرحلة الثانية فيلتقطون لها الصور في لباس مكشوف يظهر المفاتن. وتنتظر يوم "العرض"، وهو اليوم الذي يقدمونها فيه للسيد الجديد. على الطريق قبل هذه المرحلة، تكون ايضاً عرضة للاستغلال الجنسي من كل نوع. وعندما يأتي المشترون الجدد، وهم عادة سماسرة او اصحاب بيوت دعارة، تبدأ عمليات المساومة. فالمشتري "يفحص البضاعة" يختار الشابة بعدما تقف جميع الشابات امامه في البيت المخصص لهذا البيع، وكما يفعل تاجر المواشي او كما يفعل الانسان في دكان الخضار، يتعامل هذا المشتري مع الشابة. "لم استوعب ما جرى لي في البداية، تقول الشابة، كنت اتخيل انني نائمة وأحلم. شعرنا فعلاً اننا كالمواشي. في اسرائيل الدولة المتطورة نباع كالمواشي. فحاولنا الاعتراض او الاحتجاج، الا ان النتيجة كانت حاسمة: قالوا بصراحة ما الذي فعلوه بنا. وأبلغونا اننا لا نعتبر عمالاً غير مرخصين في اسرائيل فحسب بل نحن متسللون من دولة عربية معادية، ومع تمزيقهم جوازات السفر علمنا ان باب الهرب بات مسدوداً امامنا. فالآن نحن عبيد بكل معنى الكلمة. نحن ايضاً بلا هوية. وبلا كيان. وليس امامنا الا ان نستسلم لمصيرنا وننتظر حلاً آخر لا احد يعرف ما هو. في احسن الحالات يقولون لنا: نشتغل بضع سنوات، ونجمع المال، ثم نعود الى وطننا بطريقة يكفلونها لنا، من دون ان يدري بنا وبصنعتنا أحد. لكن هناك الكثيرات منا حاولن الاعتراض او الهروب الا ان عقابهن كان قاسياً، فقد كان اصحاب بيوت الدعارة او السماسرة يكبّلون الشابات ويحبسونهن في الحمام او المطبخ لايام عدة متواصلة اضافة الى الاستمرار بتهديدهن بابلاغ العائلة في الوطن بممارستهن الدعارة هنا. ولكي يكون التهديد ذا معنى، يصورون الواحدة بالفعل وهي بلباس الدعارة الفاضح وهي مع زبائن متعددين. وهكذا يغلقون امامنا كل الطرق". من يحالفها الحظ منهن تصل الى بيت أحد الاثرياء، الذي يكون يبحث عن "رفيقة عمر" بلا زواج. يستخدمها خدامة جنس وخدامة بيت. لكن غالبية هؤلاء الفتيات تصبح "ماكينة دعارة"، تعمل 10-12 ساعة في اليوم: الشهر الاول مجاناً لكي تغطي مصاريف "السفر"، ومن الشهر الثاني تبدأ بقبض معاش يتراوح ما بين 2-4 دولارات عن كل زبون. اضافة الى ذلك، يستغلون وضعها غير القانوني ويجعلونها تعيش في رعب دائم من الشرطة. فممنوع الخروج من البيت الا بمرافقة دائمة وبطريقة التهريب. وممنوع الاستراحة والتنزه. وتطول قائمة الممنوعات، خوفاً من هربهن. فحتى طعامهن يتحول الى لعنة. فطوال اليوم يتناولن وجبة واحدة في ساعات الظهر وهذه تقوم بشرائها واحدة منهن يتم اختيارها كل يوم حسب مزاج السمسار، وهذه هي الفرصة الوحيدة التي تخرج الواحدة منهن خارج البيت تجارة مزدهرة انكشف موضوع تجارة الرقيق الابيض في اسرائيل بعدما تمكنت الفتاة المولدافية من الهرب، فهي حاولت مع زميلتين لها التمرد على هذا العمل الدنيء، فحبسهن المشغل وكبل ايديهن داخل غرفة صغيرة الى ان تمكنت واحدة من الهرب والوصول الى الشرطة. وبعد الاستماع الى افادتها اضطرت السلطات الاسرائيلية لمعالجة الموضوع. وتبين لها ان هذا العمل تحول الى ظاهرة وان القصص متشابهة. وترافق هذا الكشف مع اعلان وزير الداخلية الاسرائيلي، ايلي يشاي، عن محاربة الظاهرة بعد وصول يهودي أورثوذكسي متعصب عبر عن خشيته من زيادة عدد غير اليهود في البلاد ومن تحولهم الى مجموعات تشكل خطراً على مستقبل الدولة العبرية ويهوديتها. وشرعت الشرطة في التحقيق واعتقلت العديد من اصحاب الشركات والعاملين فيها. واليوم هناك اكثر من مئتي معتقل. وبحسب القانون الاسرائيلي فإن التجارة بالنساء مخالفة خطيرة يصل عقابها الى السجن 15 سنة. لكن هذا لا يمنع الكثيرين ممن يعملون بطرق خفية من الاستمرار بهذه التجارة بل انها آخذة بالازدهار. ويتركز عمل السلطات الاسرائيلية اليوم على طريقة رعاية الفتيات ضحايا هذه التجارة الى حين طردهن. ولكن لا شك في ان صعوبات كبيرة تواجه السلطات الاسرائيلية في محاربة هذه الظاهرة او حتى التخفيف منها بعدما بلغت ذروتها ونافست دول العالم في ازدهارها. وحسب احد المسؤولين فإن اسرائيل باتت تحتل المرتبة الثالثة في العالم في تجارة النساء.