في ايام الخطوب والكوارث، يهرع الناس، الى مكان آمن، نفق او سقف او جدار يحتمون به ريثما تنجلي المحنة. هذا بالضبط ما يفعله القارئ الغربي على الاقل-في مثل هذه الايام العصبية ملاذه الآمن ليس من حديد او حجر، بل كتاب يدفن رأسه بين اوراقه، بعيداً عن ضوضاء الاخبار، ومنظر الجثث، ومظاهر الجوع والبؤس التي تتبارى الشاشات على اظهارها وبالألوان الطبيعية. وإلا فما معنى ان تدير رفوف المكتبات ظهرها للكتب السياسية وعقيم الفلسفات والايديولوجيات، لتقبل على كتب السير الذاتية وقصص العشاق وأدب الرسائل؟ الرسائل الشخصية، تلك العادة الانسانية الحميمة التي اندثرت أو كادت تحت أقدام المحمول والانترنت ورسائل الشفرة المبتسرة على ال"إي ميل". ما من أحد بمنجى عن تلك المشاعر النافرة التي تنتاب المرء على حين غرة مرة في العمر-أو مرات-وترغمه على كتابة أول رسالة غرام او الرد على اخر خطاب. لا استثناء.عظام ومغمورون، نخبة، وعوام، ساسة، قادة، فنانون، شعراء، اغنياء وفقراء،شيب وفي مقتبل العمر،لا بد لهم من عبور جسر التنهدات،او الخوض في نهر المعاناة، وصل وهجر، وصبر وتوق، وملال وانتظار، نوال ام خيبة. ما الذي يذكره المرء وما الذي ينساه في اول رسالة او آخر خطاب؟ الخط المزوق والكتابة المتأنية، لون الورق وشفافيته؟ النسخ واعادة النسخ؟، التمزيق وتكراره، التأنق في الكلمة؟ توثب القلب عند البدء و الختام، ارتعاشة الانامل؟ القلق اللذيذ بانتظار الجواب. الرسائل الشخصية لا تقرأ من عنوانها كما يقرأ الكتاب ولا من اخر سطورها كما تقرأ الصحيفة. تلك الرسائل سرها في النقطة والفارزة وعلامة العجب وإشارة الاستفهام. والمحو والحك والشطب، والأيحاء واختلاجة الحروف عند التوقيع، بلاغة الرسائل الشخصية متأتية مما هو مكتوب بين السطور. واذا كانت المكتبة الغربية تعج بالرسائل الشخصية،التي انتشرت كالسحاب وتوزعت كالمطر وصارت ملكاً للبشرية جمعاء، فان المكتبة العربية تعاني من فقر مدقع في هذا النوع من الادب، تحت وطأة ظروف صعبة وتقاليد وأعراف قائمة، ولهذا فان الكثير مما كتب، طمر تحت شتى الذرائع، ونهشته انياب النسيان. وباستثناء قلة قليلة، نذكر منها رسائل جبران خليل جبران الى مي زيادة و ماري هيسكل، ورسائلهما اليه، ورسائل غسان كنفاني التي نشرت في السنوات الاخيرة. والتي قيل انها نشرت بعد تنقيتها من شوائبها الكثيرة، وشوائب الرسائل الشخصية-باعتراف الجميع-هي ملح الرسائل وتوابلها. ولا يمكن اعتبار رسائل الاحزان واوراق الورد للرافعي رسائل شخصية كونها عامة الملامح. تلمّح، لا تصرح باسم محدد ولا مكان معين ولا تعتمد الا تواريخ مستعارة. فهل من دار نشر تبحث عن حبات القمح في اكوام القش لتغني المكتبة العربية وتثري ذائقة القراء! من نابليون بونابرت الى مدام ماري دليوسكا 1807 عزيزتي... لا أرى إلاك، لا أعجب إلا بك، لا أبتغي أحداً سواك. 1797 السيدة... لم أعد احبك، بل بت أكرهك وأمقتك، انك حقاً خبيثة ومكارة وحمقاء، سندريلا حقيقية، انك لم تكتبي لي قط. انت لم تحبي زوجك ابداً. انت اعرف الناس كم من الحبور تمنحه رسائلك، ومع ذلك لم تكلفي نفسك عناء كتابة نصف دستة من سطور لم تكن لتأخذ من وقتك الا دقائق، ماذا تفعلين طوال اليوم ايتها السيدة؟ اي شغل قاتل شغلك عني ومنعك من الكتابة الى زوجك المخلص؟ ما الذي دفع بك بعيداً عن حبي؟ ذاك الحب العذب الذي وعدتني باستمراره ودوامه؟ من هو المحب الجديد العجيب الذي أخذ كل دقائق وقتك وتحكّم في أيامك ومنعك من مبادلة زوجك الاخلاص... جوزفين...احذرك،سيأتي يوم تدفعين الثمن، ذات ليلة، سيكسر ذلك الباب وستجدينني ماثلاً امامك... من جورج برناردشو الى الممثلة بياتريس كامبيل ودامت مراسلتهما 40 عاماً 1913 أريد رفيقتي الصعلوكة، سيدتي السمراء، ملاكي..اريد، اريد فاتنتي. من يوقد سبعة مصابيح للجمال امامي. اريد... ذات الجلال والمرح، أريد ملهمتي، حمقاوتي، جنوني، رجاحة عقلي...موسيقاي... خلودي، أريد آخر فضائلي، مخلصتي، معبودتي..أريد فناري في عباب البحر، شجرتي في عراء الصحارى... حديقتي اليانعة بالزهر، مباهجي التي لا حصر لها ولا عد... اريد ضوء عتمتي، عطية نهاري وحلم ليلي. عزيزتي و نجمتي. من الامير ادوارد الى واليس سمبسون 1935 كانت شيفرته اليها WE. لدلاتها اللغوية ولانها تمثل اول حرفين من اسميهما، وتقدر الرسائل التي تبادلها العاشقان بأكثر من الف رسالة. واليس... الفتى سيضم الفتاة بقوة هذا المساء، وسيفتقدها غداً لانها ستغيب عن ناظريه لبضع ساعات، البنت تدري ان لا شيئ على وجه الارض بامكانه التفريق بينهما، حتى ولا الاقدار، لان كلاهما واحد، أحدنا قدر الثاني وبضعة منه. أحبك أكثر من الحياة، فليباركك الرب والى الابد. من الداعية الفرنسية سيمون دي بوفوار الى الفيلسوف جان بول سارتر 1940 أنا مغمورة بالسعادة، لقد استنتجت الكثير من لقائي بك. لا شيئ بعد ذلك مهم في الحسبان، أنت لي، المحب الواضح، هذا اليوم الذي فيه أراك، كما قبل البارحة، أنت لي، الى اليوم الذي فيه أموت، ومهما حدث فلا شيء ذا أهمية قط، لم أعد حزينة، بل أنا غامرة الحبور وآمنة، حتى الذكريات الجادة و البالغة الحساسية التى أفصحت عنها ويداك تداعبان الوسادة-لم تسبب لي ألما ما، لا أحس بنفسي الا محاطة بك، حبك هو ما يقيم أودي ويطوقني. من جبران خليل جبران الى مي زيادة 1919 ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها، فهي كنز من الرحيق يتدفق من الاعالي ويسير مترنماً في وادي احلامي، بل هي كقيثارة أورفيوس، تقرب البعيد وتبعد القريب...ان يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الايام بمقام القمة من الجبل، فما عسى أن أقول في يوم يجيئني بثلاث رسائل. ذلك يوم أتنحى فيه عن سبل الزمن لا صرفه متجولاً في إرم ذات العماد. تقولين"لو كنت في نيويورك لكنت زرت مكتبك الفني هذه الايام" أفلم تزوري مكتبي قط؟ أليس وراء اثواب الذكرى الظاهرة جسد خفي للذكرى. انما مكتبتي هيكلي وصديقي ومتحفي وجنتي وجحيمي. هو غاب تنادي فيه الحياة الحياة، وهو صحراء خالية أقف وسطها فلا أرى سوى بحر من رمال وبحر من أثير. ان مكتبي يا صديقتي هو منزل بلا جدران وبدون سقف...أنا مولع بالآثار الفنية القديمة، مجموعة صغيرة من طرائف الاجيال وبعض نفائسها، كتماثيل والواح مصرية ويونانية ورومانية وزجاج فينيقي وخزف فارسي وكتب العهد، ورسوم ايطالية وفرنسية وآلات موسيقية تتكلم وهي صامتة. ... ومنه اليها في 10 آيار 1919 عزيزتي الآنسة مي. إني باعث اليك باول نسخة بلغت يدي من كتاب"المواكب" الذي صدر اليوم وهو كما تجدينه، حلم لم يزل نصفه ضباباً والنصف الآخر يكاد أن يكون جسماً محسوساً، فان استحسنت فيه شيئاً تحول الى حقيقة، وإن لم تستحسني شيئاً، عاد الى الضباب بجملته. ألف تحية وسلام الى روحك الطيبة والله يحفظك ويحرسك. من ماري هيسكل الى جبران خليل جبران عزيزي خليل لولاك لمللت طول الحياة، لان العيش الطويل يا جبران يمل... شخصك الحبيب أراه مئة شخص وانت بعيد....الله معك ولن يتركك، وهو يدنيك من محبته كلما أرهق العمل قوتك وأسقمك. أنت وعملك صنوان، تمشيان معاً، وتوزعان المسرة.... لعمري، خمسة وسبعون رسماً معاً في قاعة؟ هذا يوم خالد لن يأتي مثله، لا تصغ الى بعض الجهال وهم يثنوك عن عزمك، فاليوم قريب، أتشوق اليه بقلب مرتعش وفرائص مرتعدة، أجل، أشعر بالرهبة.... أنا موقنة أنك اضفت الجديد الى رسومك....أليست رسومك الحاناً، أليس كلامك الحاناً، ألست أنا التي تقتسم بينها وبين فؤادها تلك النغمة؟ من د.ه. لورانس الى لوسي بورو 1910 أرجوكِ، لا تحبينني بهذا القدر. أخاف ان تقذفي بي الى كل تلك القمم الشاهقات و أنا مبهور الانفاس، فأترنح وأسقط من شاهق. من الموسيقار اماديوس موزارت الى زوجته كونستانزي 1789 الى زوجتي العزيزة، لدي بعض الطلبات أرجوك تنفيذها. 1-أتوسل اليك الا تستسلمي لمشاعر الغم والكآبة وسوداوية المزاج. 2- اهتمي بنفسك، ولا تتعرضي لنسمات الربيع. 3- لا تذهبي للتنزه على الاقدام، لوحدك، والافضل الا تذهبي على الاطلاق. 4- تأكدي من عمق حبي الدفين. من الكاتب فرنسي غوستاف فلوبيرالى لوسي كوليت 1846 أنتِ، سأغمرك بمحبتي حين ألقاك، بحناني ونشوتي وفرط سروري، سأتركك مترنحة حتى الاغماء، وستعرفين أنك لم تعرفي سعادة كهذي من قبل. ستتذكرين هذي الساعات عندما يتقدم بك العمر وستستعيدين صورها، أريد لعظامك ان تصطك وترتج من السعادة حين تفكرين في تلك اللحظات الماتعات. من الممثلة الفرنسية سارة برنار الى الكاتب جين ريجيبن 1883 احملني نحو السماء الزرقاء برفق، مرغني في السحاب المعتم، أرجحني على شفا الاعاصير وسنى البرق، إطوني تحت جناحك المحتدم حناناً. ولكن قبل كل شيئ، أحببني ايها الحبيب. من الشاعر الفرنسي الفريد دي موسيه الى مواطنته جورج صاند 1833 عزيزتي-ثمة أمر أحمق و سخيف لا بد ان أقوله لك. انه لجنون أن اكتبه لك بدلاً من قوله، عندما عدنا-هذه الليلة من تلك النزهة، حدست انني لو بحت لك بما اكتبه الساعة ستغرقين بالضحك، ربما ستدليني على الباب وتدعيني للمغادرة، ستظنين اني اكذب عليك! أنا مغرم بك، أحببتك منذ اليوم الذي رأيتك فيه اول مرة... من الروائي الروسي تولستوي الى خطيبته فاليري أرسينيف 1856 عزيزتي...لا أكتمك..أحببت فيك-للوهلة الاولى-جمالك. لكني بدأت التقط ما في اعماق روحك من مكامن الجمال، قد يعرف الجمال حباً لساعة، ثم تنقطع اواصره بنفس السرعة التي بدأ فيها. انما ألق الروح هو الخالد الابدي، وهو الذي ينبغي ان ندركه، صدقيني، ما من شيئ على هذه الارض يتحقق إلا بعد كدح ودأب وعناء، حتى في الحب، الذي هو أكثر المشاعر، طبيعياً وانسانياً.