القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    النفط يقفز 3%    البرلمان الألماني يبحث الأربعاء تفشي الحمى القلاعية في البلاد    قوة نمو الوظائف الأمريكية تزيد الشكوك إزاء خفض الفائدة مجددا    أمريكا وبريطانيا توسعان عقوبات كاسحة على صناعة النفط الروسية    البيت الأبيض: بايدن سيوجّه خطابا وداعيا إلى الأمة الأربعاء    الإعاقة.. في عيون الوطن    ابعد عن الشر وغني له    أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    فريق جامعة الملك عبدالعزيز يتوّج بلقب بطولة كرة السلة للجامعات    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    مهاجم الأهلي: قدمنا مباراة كبيرة واستحقينا الفوز على الشباب    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    ضبط يمني في مكة لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    «سلمان للإغاثة» يوزّع 2.910 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في حلب    لاعب الشباب يغيب عن مواجهة الأهلي لأسباب عائلية    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الإسباني    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    عبرت عن صدمتها.. حرائق كاليفورنيا تحطم قلب باريس هيلتون    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا    جوزيف عون يرسم خارطة سياسية جديدة للبنان    مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين في "المشغل الاقتصادي السعودي المعتمد"    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    لإنهاء حرب أوكرانيا.. ترمب يكشف عن لقاء قريب مع بوتين    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    ماذا بعد دورة الخليج؟    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    المقدس البشري    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سبعون عاماً على رحيل رائد الأدب المهجري ... وكتاب يكشف عن نواح مجهولة من حياته . أي علاقة جمعت بين جبران والمرأة "المجهولة" هيلانة في أميركا ؟
نشر في الحياة يوم 12 - 04 - 2001

سبعون عاماً على غياب الأديب اللبناني جبران خليل جبران 1883 - 1931 لم تزده إلا حضوراً. فأدبه ما زال رائجاً وكتبه ما برحت تترجم من لغة الى أخرى. وسيرته ما فتئ يكتنفها ذلك الغموض الجميل الذي جعل منها سيرة شبه اسطورية يندمج فيها الواقع بالخيال.
والذكرى السبعون لرحيله صادفها هذا العام صدور كتاب في الولايات المتحدة الاميركية لكاتب مهجري في التسعين من عمره يدعى ابراهيم ناصر سويدان. وأهمية الكتاب في كونه يلقي ضوءاً على علاقة "مجهولة" قامت بين جبران وسيدة لبنانية مهاجرة تدعى هيلانة. علاوة على احتوائه رسائل غير منشورة وقصائد.
هنا قراءة في الكتاب.
لا يزال اسم جبران خليل جبران يثير اهتماماً واسعاً في أوساط المهاجرين اللبنانيين والعرب في الولايات المتحدة الاميركية على رغم مرور سبعين عاماً على وفاته، لما في حياة هذا الكاتب الكبير من ثراء فكري ونفسي وروحي. ولا تزال تظهر حتى اليوم كتابات لجبران مخبأة في مكتبات أو أدراج وَرَثة كانت بينهم وبين جبران مراسلات خاصة. وأكثر ما يلفت الباحث في حياة جبران الأديب والانسان تلك العلاقات العاطفية مع نساء انكشفت منها أخيراً جوانب لم تكن معروفة من قبل، منها ما ورد في كتاب صدر أخيراً في الولايات المتحدة الأميركية عنوانه "جبران كما أراه" "نشر خاص"للكاتب العربي الأميركي ابراهيم ناصر سويدان أستاذ اللغة العربية وآدابها لسنوات طويلة في جامعات اميركية وخصوصاً في ولاية كاليفورنيا. وهو احتفل بعيد ميلاده الحادي والتسعين في كانون الثاني يناير الماضي في مدينة لوس انجليس، ولا يزال متقد الذهن، حاضر الذاكرة، عاشقاً اللغة العربية وآدابها كما كان دائماً. وكان أسس مع بعض الأدباء العرب المهاجرين "ندوة الثقافة العربية" في لوس انجليس عام 1964 واستمرت حتى عام 1972. ألقى محاضرات ثقافية في جنوب كاليفورنيا وكتب عن الأدب العربي والثقافة العربية في الصحف المهجرية وبعض الصحف الأميركية، وهو اليوم يجمع كل ما حوته الذاكرة والوثائق والقصاصات في مكتبته العامرة بالأدب والشعر وخصوصاً المهجري منها.
يقدّم سويدان كتابه مشيراً الى انه كان حصيلة "بحث عقود من عمري، انه رمز حب وتقدير مني لشخص انسان عشقته ولم تره عيناي، خرج متمرداً من أرضنا، ثائراً على مجتمع كبّلته قيود وقيود".
الجديد في الكتاب كشفه علاقة جبران بامرأة تدعى هيلانة غسطين عرفها سويدان شخصياً في أواخر أيامها. وأعطته الرسائل المتبادلة بينها وبين جبران وفناجين القهوة الخشب الخاصة بجبران التي كان أهداها إياها قبل سنوات قليلة من وفاته.
يروي سويدان في الكتاب مراحل مختلفة من حياة جبران الذي ولد عام 1883 في قرية بشري في شمال لبنان وتوفي في نيسان ابريل 1931 "مصاباً بسرطان الكبد وبوادر السل في احدى الرئتين". ويكشف جوانب مخفية من أدبه وعلاقاته العاطفية ومواقفه الوطنية والقومية في المهجر الأميركي.
وينقل لجبران خطبة ألقاها في مطلع القرن الماضي امام شباب من العرب المهاجرين في مدينة نيويورك يحثهم فيه على الثقة بالنفس ويحضهم على الدراسة والعمل في أميركا مع الاعتزاز بأصلهم العربي العريق. وهنا بعض المقاطع من هذه الخطبة المجهولة:
"اني أؤمن بكم وأؤمن بمصيركم. اني أؤمن انكم تساهمون في هذه الحضارة الجديدة بقسطكم. إني أؤمن انكم ورثتم من أجدادكم حلماً قديماً وأغنية ونبوة تستطيعون وضعها بافتخار في حضن أميركا تقدمة شكر... إني أؤمن انكم مفطورون على ان تكونوا مواطنين طيبين. وما معنى أن يكون المرء مواطناً طيباً؟ هو في الاعتراف بحق الغير قبل فرض حقكم عليه ولكن مع الادراك التام الأبدي لحقكم. هو في أن تكونوا أحراراً - قولاً وعملاً - مع العلم ان حريتكم رهن حرية الآخرين. هو في خلق النافع والجميل بأيديكم، والاعجاب بما خلق الآخرون بمحبة وإيمان... هو في أن تقفوا أمام قباب نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرانسيسكو قائلين في قلوبكم "نحن سليلو قوم بنوا دمشق وجبيل وصور وصيدا وانطاكية. ونسكن الآن هنا لنبني معكم، وبعزم نبني. هو في أن تكونوا فخورين انكم اميركيون، ولكن في أن تكونوا كذلك فخورين ان آباءكم وأمهاتكم جاؤوا من أرض ألقى الرب عليها يديه الكريمتين وفيها أقام رُسُله. أيها الشباب الأميركيون المنحدرون من أصل لبناني وسوري، إني أؤمن بكم".
في الفصل المخصص عن جبران وهيلانة غسطين يذكر الكاتب ان هذه المرأة كانت صديقة لجبران أثناء اقامتها في نيويورك، وإنها انتقلت الى لوس انجليس بعد وفاته عام 1931. عملت هيلانة في جريدة "الهدى" في نيويورك بعيد هجرتها من لبنان عام 1917، وكان خالها الصحافي المهجري نعوم مكرزل صاحب جريدة "الهدى". وهيلانة ابنة الشيخ جريس غسطين بعقليني من بلدة بزبدين المتن في لبنان، درست الأدب الفرنسي في جامعة السوربون في فرنسا قبل انتقالها الى أميركا والعمل في تحرير جريدة "الهدى" والاهتمام بإدارتها في أثناء تغيب خالها، وبعد ذلك عملت في التدريس في احدى المدارس الخاصة في حي بروكلين في نيويورك، وبقيت في سلك التعليم حتى بلغت السن القانونية للتقاعد وانتقلت الى لوس انجليس وأقامت في منطقة هوليوود السكنية حيث يقطن آلاف من المهاجرين اللبنانيين.
تعرفت هيلانة الى جبران في اجتماع خاص عقد في مكاتب جريدة "الهدى" عقب الحرب العالمية الأولى لتبادل الآراء في أوضاع لبنان المأسوية وما يمكن عمله لمساعدة أبنائه هناك. وروت هيلانة لسويدان ما دار من كلام عن جبران قبل وصوله ووصفته بالمميز. "قالوا انه ما ان يشاهد الصور الآتية من لبنان وأخبار المجاعة هناك سوف يبكي ويبكينا معه"، وهذا ما حصل. وأوضحت ان جبران اذا بكى، تبكي معه الحجارة، وإذا ابتسم يضحك معه العالم. وان كل ذرة في جسم هذا العبقري هي بركان من العواطف الرقيقة والأخلاق النبيلة والحنان الرقيق وعزة النفس وكرامتها الشامخة. وقالت "جالسته وسامرته كثيراً وكان يصطحبني معه في زيارات مهمة. وطوال تلك المدة التي صادقته فيها لم أسمع منه كلمة نابية خشنة، بل كان دوماً مثال اللطف والأدب والعفاف".
في خلال تطور الصداقة بين هيلانة وجبران أهدته صورتين لها احداهما كبيرة والأخرى صغيرة، وهو فضّل الصغيرة المنشورة في الكتاب، ويبدو انها أرادت أن يتزوجها لكنها كانت محرجة بعلاقتها معه، لتقاليدها العربية من جهة، ولوجودهما معاً بين الأقارب والأصدقاء. وفي إحدى رسائلها اليه سألته متى سيجد امرأة أحلامه، فأجابها "لا بأس، سوف أجد تلك الصديقة أو خيالها في عالم الأرواح بين ثنايا الأبدية".
كان جبران مصمماً ألا يتزوج أبداً. لأنه كان يعتبر الزواج قيداً يحدّ من انطلاقته كمفكر وكفنان. وفي الكتاب مخطوطات أصلية لرسائل وأشعار بين جبران وهيلانة، منها كلمات من هيلانة مرفقة بزجاجة عطر تقول فيها "حياتي، أيها أحب إليك؟ عطر الليمون أو عطر هلّون؟ أرجوك الجواب".
ويأتي رد جبران كالآتي: "عزيزتي هيلانة. أنا دائماً بحاجة ماسة للعطور لذلك أشكر لك هديتك هذه، أما اذا رجعنا الى التفضيل فإني لا أختار عطر الليمون، جبران".
وصف سويدان في كتابه "جبران كما أراه" كتابات جبران لهيلانة "بالرشاقة والذكاء". وكان جبران أهداها كتبه الثلاثة في بداية تعارفهما. و كتب لها على صفحة "الأرواح المتمردة" الاهداء الآتي: "الروح التي تتمرد هي الروح التي تمتثل لله. الامتثال لله هو التمرد على ما صغر في الدنيا وساكنيها، غير ان الامتثال لله هو أن نقول الحق ونفعل الحق ونكون حقاً بنفوسنا".
ومن المخطوطات الأصلية المنشورة في الكتاب أربعة أبيات من الشعر نظمها جبران وقدمها لهيلانة عنوانها "دقّوا المسامير" تاريخها 20 أيار مايو 1923.
ويذكر سويدان ان هيلانة أودعته كل الرسائل والأشعار المتبادلة بينها وبين جبران وكذلك فناجين القهوة الخشب التي أهداها إياها جبران، وكانت هيلانة أصبحت على صداقة مع عائلته وخصوصاً زوجته أولغا التي رحلت قبل بضع سنوات.
أورد سويدان في الكتاب نصاً نشرته مجلة الهلال الشهرية المصرية عام 1923 عن موضوع نهضة الشرق العربي وموقف عدد من الأدباء العرب ازاء المدنية الغربية. وبين ردود الأدباء كان رد لجبران، وهنا بعض ما ورد فيه: "في عقيدتي ان ما نحسبه نهضة في الأقطار العربية ليس بأكثر من صدى ضئيل للمدنية الغربية الحديثة، ذلك لأن هذه النهضة المباركة لم تخلق شيئاً من عندها... الاسفنجة التي تمتص الماء وتنتفخ قليلاً لا تتحول الى ينبوع ماء حي، أما ذاك الذي يرى في الاسفنجة نبعة فهو أحوج الى الرمدي طبيب العيون وعقاقيره. وإذا كان النهوض بالاختراع والاكتشاف، فالأقطار العربية ما برحت هاجعة. وهل يرغبون حقيقة في نهضة الأقطار العربية وفي تضامنها وفي استقلالها وجل ما يفعلونه في هذا السبيل إبداء آرائهم وأكثرها بليدة وعقيمة، أما أعمالهم الخاصة ومآتيهم الذاتية وكل ما تتناوله حياتهم اليومية فتخالف مزاعمهم وتنكر عليهم دعواهم".
في كتاب "جبران كما أراه" عشرة فصول: جبران والشباب، جبران والهجرة، جبران وهيلانة، جبران والقومية، جبران والعالمية، جبران والمرأة، جبران الناثر، جبران الشاعر، وفاة جبران، وقالوا عن جبران.
في فصل جبران والمرأة يشير سويدان الى أن صداقات جبران مع النساء تعددت. وهذا ما توضحه مذكرات ماري هاسكيل وكتاب بربارا يونغ "هذا الرجل من لبنان" وكذلك الرسائل المنشورة بين جبران والنساء. الا ان حبه الأول، بل الأكبر كان لأمه. أحب جبران أمه حباً عظيماً، وكثيراً ما كان يتذكرها بألم وحنان. وانطبعت في ذاكرته صورتها والدموع تسيل من عينيها كلما اضطهدها أبوه الذي كان يتسم بكثير من القسوة، بل وكان أحياناً يعتدي عليها بالضرب المبرح. كانت عائلة جبران فقيرة تعيش في غرفة واحدة في قرية بشري شمال لبنان. أمه كاملة رحمة ابنة الخوري اسطفان رحمة. وكانت تزوجت من نسيبها حنا رحمة وعاشت معه في البرازيل وانجبت منه صبياً سمته بطرس. وعندما توفي زوجها عادت مع ولدها الى قريتها وتم تزويجها من خليل جبران الذي كان يعمل في جباية رسوم الضرائب عن رؤوس الماشية ولا يهمه من أمر الدنيا أكثر من احتساء القهوة والخمرة وتدخين السجائر. كان في الأربعين من عمره عندما ولد جبران وكانت كاملة في الخامسة والعشرين وبطرس في السادسة. وبعد جبران أنجبت كاملة ابنتين سلطانة وتصغر جبران سنة، وماريانا وتصغره بسنتين. قضى جبران طفولة مضطربة في جو عائلي يسوده الخصام بين الوالدين، والخوف من غضبات الأب السكير. وحينما بلغ الثانية عشرة قررت الأم ترك زوجها وقريتها بعدما ضاقت نفسها من الفقر ومعاملة الزوج السيئة. غامرت وسافرت مع أولادها الأربعة الى أميركا بعدما باعت أواني بيتها. ويقال ان الأب كان حينذاك في السجن.
وصلت الأم وأولادها في مطلع عام 1895 الى بوسطن حيث الوسط الصناعي والثقافي. واستقروا في شارع آدن برو قرب الحي الصيني. وهناك احترفت الأم وابنتاها الصغيرتان خياطة الملابس، وعمل بطرس في محل لبيع الخردة وساعد في الانفاق على العائلة وتعليم اخيه جبران. وكان يرسل الى أبيه في لبنان بين حين وآخر بعض المال.
ماتت اخت جبران سلطانة عام 1902، وفي السنة التالية مات شقيقه بطرس ثم فجع بموت أمه التي كان "يعبدها" على حد قوله. جميعهم ماتوا بالسل. وقد تركت هذه الفواجع في جبران أثراً بالغاً طوال حياته فانكفأ على نفسه يقرأ ويكتب ويدرس ويرسم، بينما بقيت اخته ماريانا التي وصفها في ما بعد ب"القديسة" تزاول مهنة الخياطة وتوفّر المعيشة.
ينقل الكتاب رسالة من جبران الى مي زيادة بعدما أهداها كتابه الأجنحة المتكسرة عام 1920. يقول فيها لها: "ورثت عن أمي تسعين في المئة من أخلاقي وميولي لا أقصد بذلك اني أماثلها من حيث الوداعة وكبر القلب... واني أذكر قولها لي مرة وقد كنت في العشرين: - لو دخلت الدير لكان ذلك أفضل لي وللناس. فقلت لها: لو دخلت الدير لما جئت أنا! فأجابت: انت مقدَّر يا إبني. فقلت: نعم، ولكن قد اخترتك أماً لي قبل أن أجيء لزمن بعيد. فقالت: لو لم تجئ لبقيت ملاكاً في السماء. فقلت: لم أزل ملاكاً! فتبسمت وقالت: أين جوانحك جناحيك؟ فوضعتُ يدها على كتفيّ قائلاً: هنا! فقالت: متكسرة!
بعد هذا الحديث بتسعة أشهر ذهبت أمي الى ما وراء الأفق الأزرق، أما كلمتها "متكسرة" فظلت تتمايل في نفسي، ومن هذه الكلمة قد غزلت ونسجت حكاية الأجنحة المتكسرة".
وكان جبران تعرض اثناء طفولته في لبنان الى كسر في كتفه تبعاً لسقوطه في حفرة عميقة، مما أدى الى تشويه رافقه طوال الحياة.
وجاء في كتاب سويدان أيضاً ان جبران كان مفرطاً في التدخين والاحتساء. وكان العمل يستغرقه كثيراً وكان يحرمه من تناول الطعام المناسب وكثيراً ما كان يقضي أياماً وليالي في عمله وهو لا يتناول سوى القهوة. وكانت صحته معتلة في الأصل وقد تنبأ هو نفسه بموته صغيراً وكان يصف ما بعد الموت بأنه عالم اللانهاية والخلود.
اشتد المرض على جبران في شتاء 1929 مما اضطره الى قضاء فصل الشتاء كله في بوسطن كي ترعاه اخته ماريانا على رغم شغفه بالبقاء في مرسمه في نيويورك. وبعد فترة توهم ان صحته تحسنت فعاد الى نيويورك. ولكن صباح الخميس 9 نيسان ابريل 1931 ساءت حال جبران، وفي اليوم التالي نقل الى مستشفى سانت فنسنت في نيويورك. وفي الساعة الثانية بعد الظهر دخل جبران غيبوبة كاملة وكان محاطاً بأصدقائه وصحبه ومنهم رفاقه في "الرابطة القلمية" التي أسسها في نيويورك وعلى رأسهم الأديب والفيلسوف ميخائيل نعيمة. وحضرت شقيقته ماريانا وسكرتيرته باربرا يونغ التي وقع عليها الاختيار كي تكون وكيلة لأعماله لدرايتها بها. ووصلت ماري هاسكل بعد الوفاة والتي كان لها الفضل في بداياته الفنية والأدبية وتوجيه مسيرته ورعايته. في الحادية عشرة من ليل الجمعة 10 نيسان ابريل 1931 لفظ جبران خليل جبران أنفاسه الأخيرة مصاباً بسرطان الكبد وبوادر السل في احدى الرئتين.
ويروي الكتاب تفاصيل نعي جبران في صحف اميركية والصحف المهجرية ورحلة جثمانه من أميركا الى لبنان وجنازته واحتفالات تكريمه، والكثير مما قيل فيه وكتب عنه، ومن بينها كلمة الأديبة مي زيادة في رثاء جبران التي أحبته حباً شديداً نتيجة المراسلات بينهما. ويذكر سويدان انه بعد موت مي عُثر بين أوراقها على صورة لجبران كتب عليها لعبارة الآتية "هذا هو مصيبتي منذ سنين".
كتاب "جبران كما أراه" مشوق وغني بالمعلومات عن الرجل والأديب الذي كانه جبران. ولا يستطيع القارئ بعد الانتهاء من الكتاب الا الذهاب بعيداً في أفكاره الى ذلك الزمن الذي عاشه جبران وبيئة المهاجرين اللبنانيين والسوريين التي لا تزال قائمة ومستمرة في العطاء الأدبي والنشر الثقافي. وهذا الكتاب الصادر في كاليفورنيا لأبلغ دليل على استمرار الانتاج الأدبي العربي في المهجر وعلى رأس المنتجين الكاتب ابراهيم ناصر سويدان الذي أصدر كتاباً ثانياً أيضاً عنوانه "معجزات الشعر العربي التاريخية"، ويستعد سويدان لطبع سلسلة كتب في السنة الجارية بعدما نفض عنها الغبار وأخرج الكنوز الأدبية التي تحويها مكتبته وأهمها المجموعات الكاملة للصحف والمجلات المهجرية في مطلع القرن العشرين ومنها مجلة "الفنون" ومجلة "السائح" التي كان يكتب فيها أعضاء "الرابطة القلمية" ومنهم جبران وميخائيل نعيمة وايليا أبو ماضي وأمين الريحاني وسواهم. وكنت التقيت الكاتب سويدان في لوس انجليس الشهر الماضي وهو اطلعني على بعض "كنوز" مكتبته ومخطوطات الكتب التي ينوي نشرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.