ودّع العراقيون العام الماضي على أمل انهاء الحصار الذي يطوّق بلدهم الجريح وعدم العودة الى أيام الحرب التي خلّفت في ذاكرتهم الجماعية أبشع صور الموت والقهر اليومي، خصوصاً ان حرب أفغانستان خيّمت على أذهانهم حيث كانوا يتابعون أحداثها عبر مؤسساتهم الاعلامية والمحطات الاذاعية الأجنبية التي يلتقطونها. ويتساءلون في ما بينهم هل ستوجه الولاياتالمتحدة ضربة تستهدف مدن العراق ومؤسساته في وقت ما زالت ترفض فيه بغداد عودة المفتشين الدوليين؟ لكن يبدو ان هذا الشعب الذي يستمد قوة وصبراً ترجع جذورهما الى أيام السومريين أدمن الحروب والمعارك وعصرته المواجهات الخطرة التي يعيشها منذ أعوام. سألت "الوسط" نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز عن رأيه في الكلام الصادر عن بعض المسؤولين الأميركيين وأعضاء في الكونغرس المطالبين بتوجيه ضربة قاسية للعراق بعد أفغانستان، وهل يتوقع ضربة في القريب العاجل؟ فأجاب بديبلوماسيته المعهودة: "نتوقع العدوان الأميركي في أي لحظة ونتعرض الى عدوان يومي مستمر في أوجه عدة. ومن جهتنا سنستمر في الدفاع والقتال في سبيل الحفاظ على وطننا وسيادته". رحلة حصار زارت "الوسط" العراق وتجولت في العاصمة بغداد ومحافظات بابل وكربلاء والنجف والبصرة وقضاء الفاو الشهير المتاخم للحدود مع إيران وعادت بالانطباعات الآتية: دخلت بغداد عن طريق سورية واستمرت الرحلة نحو عشر ساعات حيث تعبر كل يوم الى بغداد المئات من السيارات والشاحنات المحملة بالمنتجات السورية. وصلت الى مشارف بغداد في التاسعة ليلاً. وقلة من أعمدة الانارة كانت تضاء مصابيحها بسبب التقنين في الكهرباء ويلفح البرد وجوه القادمين على وقع موسيقى الصوت المنبعث من أشجار النخيل الحزينة. وعلى مدخل العاصمة حاجز لرجال الشرطة يتفحصون وجوه الركاب ويدققون في هويات البعض منهم. نزلت في فندق "منصور / ميليا" في وسط بغداد المطل على نهر دجلة وجسوره التي أعاد الجيش العراقي تشييدها في أشهر قليلة بعدما دمرتها المقاتلات الأميركية. وكان ينزل في الفندق العشرات من الشعراء العرب والأجانب للمشاركة في مهرجان المربد الشعري السابع عشر الذي نظمته وزارة الثقافة ورعاه الرئيس صدام حسين بعنوان "لماضينا نغني... لمستقبلنا نطلق الكلمة". ويبدو ان الشعر ونظم القصائد أصبح مسكناً لمجموعات كبيرة من المثقفين العراقيين لينسوا أوجاعهم ومعاناتهم اليومية وهم أصحاب باع طويل في هذا الحقل ويتفوقون فيه على أقرانهم العرب. علي، شاعر من الموصل يقطن في بغداد باع قارورة الغاز ليتمكن من دفع ثمن مكالمة هاتفية أجراها الى تونس ليسأل عن طبع ديوانه، فهو كل ما تبقى له وما يملكه في هذه الدنيا. أعوام الحصار والليالي السود التي تطبق على العراقيين بدت واضحة في مفردات الكتّاب وأبيات الشعر وكأن نهر الأحزان لا ينضب لدى العراقيين مثل دجلة والفرات. يتوجه العراقيون الى أعمالهم كل يوم وعلامات الحيرة والخوف من المستقبل تظهر على وجوههم وثمة مجموعات كبيرة منهم لا يحلقون ذقونهم، خصوصاً الذين لا يعملون في الدوائر الرسمية والمؤسسات العسكرية. وتنشط حركة سيارات الأجرة في بغداد وسائقوها "ينقبون" طوال اليوم عن الركاب خصوصاً من غير العراقيين والتعرفة ألف دينار أي نحو نصف دولار أميركي. وسمحت السلطات لأي شخص ان يستعمل سيارته الخاصة في نقل الركاب بسبب الضائقة الاقتصادية. صعدت في احدى المرات في سيارة شرطي يساعد والده في أيام اجازته وسرعان ما أبدى عتبه على السلطات الأردنية "التي تضيّق علينا في الحدود". لكنه استدرك وقال "على رغم ذلك لدينا الكثير من المحبين والأصدقاء في الاردن". أكثر السيارات في بغدادوالمحافظات من طراز السبعينات والحديثة منها قليلة جداً. وتعود ملكيتها لرجال الأعمال وكبار المسؤولين في الدولة وحزب البعث. ومن برج صدام الذي يطل على أرجاء المدينة تظهر الرشاشات الثقيلة المضادة للطائرات والمثبتة على سطوح الوزارات ومقار الحزب وأجهزته الأمنية والاستخباراتية تحسباً لأي هجوم مفاجئ تشنه المقاتلات الأميركية والبريطانية. ويلاحظ ان سير الحياة اليومية في بغداد بطيء جداً وكأن أهلها تعوّدوا هذا النمط: الذهاب الى العمل وتأمين لقمة العيش لأطفالهم ولولا الحصص الغذائية الشهرية التي توزعها الدولة لمات الكثير من أفراد العائلات المعوزة والفقيرة لأن رواتب الموظفين في القطاعين العام والخاص لا تتعدى حفنة من الدولارات. ويستطيع الزائر ان يتجول في أحياء بغداد وشوارعها أينما شاء من دون ان يعترضه حاجز واحد لكن رجال الشرطة والأمن ينتشرون بكثافة أمام مقار الحزب ومراكز المخابرات ومنازل الوزراء والمسؤولين ومكاتب القيادة القومية. وتشهد بعض المناطق حركة لابأس بها في الليل مثل الجادرية والكرادة والرصافي وغيرها. أما شارع أبو النواس فما زال يحن الى المقاهي وأصوات الكؤوس ومطاعم سمك المسكوف. وينزل في الفنادق الكبرى رجال الأعمال العرب والأجانب والصحافيون، وتستضيف الحكومة عشرات الوفود كل شهر. وتقام الحفلات والأعراس ليلة الخميس - الجمعة وتسير السيارات في مواكب على وقع الزغاريد والأهازيج. ويعقد البعض حلقات الدبكة في الساحات العامة وتحت الجسور في وقت تنقل فيه سيارات الاسعاف جثث أطفال ماتوا بسبب السرطان لعدم توافر الدواء والعلاج المطلوب لهم. البصرة طوارىء دائمة من بغداد قصدت محافظة البصرة في جنوب البلاد بواسطة القطار واستمرت الرحلة نحو 12 ساعة وما زالت هذه المدينة التي أطلق عليها صدام حسين "مدينة المدن" تعيش حال طوارئ عسكرية متواصلة لا تعرفها المحافظات الأخرى لأنها لم تخلع ثوب الحزن بعد، ولا طائرات الاستطلاع الأميركية تغادر أجواءها. وقد سقطت على أرضها آلاف الأطنان من القنابل والنار وقضت القذائف على 90 في المئة من بساتين النخيل. وما زالت مخلفات الحرب العراقية - الايرانية اضافة الى الجسور والأسلاك الشائكة على كورنيش المدينة ظاهرة وتمثال الشاعر بدر شاكر السياب يبكي على خرابها الى جانب عدد من تماثيل الضباط العراقيين الذين قضوا في الحرب مع إيران وأكبر تمثال هو لوزير الدفاع الراحل عدنان خير الله. والى جانب هذه التماثيل ومجموعة من الأشجار حشد من الأطفال والتلامذة العائدين من مدارسهم، ومجموعة من المتسولين وماسحي الأحذية يحتمون من أشعة الشمس. وتغطي صور صدام وأقواله جدران مباني البصرة ومؤسسات الدولة ومقار الحزب ومنها "كل العراق ينادي صدام عز بلادي" و"اللهم احفظ العراق وصدام". ويقول البصريون ان وضعهم الاقتصادي تحسن وأصبح أفضل مقارنة بالأعوام السابقة. وتعتمد المدينة على المنتجات الزراعية في محلة أبو الخصيب وقضاء الزبير لكن سكانها يعانون مشكلة تلوث المياه والأعداد الكبيرة من المصابين بأمراض السرطان خصوصاً لدى الأطفال ويرجع السبب الى القنابل الأميركية التي ضربت هذه المدينة. وتسيّر الشرطة دوريات متواصلة في شوارع البصرة ويلاحظ ان المسؤولين وقادة الحزب يتنقلون وسط اجراءات أمنية مشددة وترافق عناصر الأمن الوفود التي تزور البصرة على عكس ما يحصل في بغداد. وقال محافظ البصرة أحمد ابراهيم حماش ل"الوسط": "لم تنقطع التهديدات الأميركية للعراق، وقدرنا ان نعيش ونقاتل وندافع عن بلدنا. وللأسف يضع الأميركيون المقاسات للرجال والدول حسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية والاقتصادية". ويضيف "من جهتنا نحن مستمرون في أخذ الاحتياطات العسكرية والأمنية اللازمة". وبسؤاله عما اذا كان العراقيون ضاعفوا الاجراءات الامنية في الايام الاخيرة خصوصاً ان بغداد لا تزال ترفض عودة المفتشين الى العراق؟ فأجاب: "اجراءاتنا الأمنية والدفاعية مستمرة ولن تتوقف". الفاو مزرعة القنابل وقبل الوصول الى مدخل الفاو تطالعك لوحة كبيرة كتب عليها ان معركة تحريرها كلّفت العراقيين 52948 ضابطاً وجندياً وسقطت على أرضها أكثر من ستة ملايين قذيفة. ودمرت المدينة في الحرب عن بكرة أبيها وأقام الإيرانيون تحصينات ومنازل تحت الأرض لكنهم لم يستطيعوا البقاء فيها بسبب ضربات الجيش العراقي آنذاك. وما زالت آثار ستة جسور ظاهرة للعيان كانت تربط الضفتين العراقيةوالإيرانية وترك العراقيون مئذنة جامع الراشد الذي شيّد عام 1839 مدمراً للدلالة على بشاعة الحرب وسبق لصدام حسين ان أدى الصلاة في باحته بعيد تحرير الفاو. ويعج ميناء المدينة بآلاف الصيادين ومراكبهم وتنشط فيها صناعة السفن والزوارق الصغيرة. وعادت زراعة الحناء وتوضيبها الى سابق عهدها حيث ينتج المزارعون آلاف الأطنان من هذه المادة التي تطلبها النساء. بابل والسؤال عن لبنان أما محافظة بابل فمررت فيها وسط طقس ماطر والفرحة على وجوه المزارعين المنتشرين في بساتين النخيل وتوجد في أقضية هذه المحافظة وبلدياتها المئات من الورش الصناعية الخاصة فضلاً عن عدد من المصانع العسكرية التي لا يسمح الاقتراب منها. وتوجد على سطوح مقار الحزب مدافع رشاشة ومضادة للطائرات. وفي سوق بلدة المحمودية خضار وفواكه من شتى الأنواع لكن قلة من المواطنين يقدمون على شرائها لارتفاع أسعارها. في هذه الأثناء كان صوت أحد الفنانين العراقيين يصدح من مذياع السيارة والسائق يسألني عن آخر الأوضاع في لبنانوجنوبه، مبدياً اعجابه بصمود اللبنانيين في وجه التحديات الاسرائيلية. كربلاء والنجف ومن بابل توجهت الى كربلاء حيث توجد العتبات المقدسة عند الشيعة وأبرزها مرقد الإمام الحسين الذي يقصده الآلاف كل يوم خصوصاً في أيام الجمعة ويأتون من داخل العراقوإيرانولبنان والخليج. وفي هذه المدينة لا تشاهد فتاة او سيدة غير محجبة او لا ترتدي العباءة السوداء. ويتنافس الأطفال قبالة مرقدي الامامين الحسين والعباس على بيع الزوار خصوصاً الإيرانيين حيث يبيعون السبحات. وتوجد في هذا المكان المئات من العائلات المتسولة ويستوقفك طفل جائع يقول "أنا مسكين وجائع" ليستعطف المارة بغية الحصول على حفنة من الدنانير تمكنه من شراء بعض أرغفة الخبز ليحملها الى عائلته. هدى في العاشرة من العمر ترتدي التشادور وتتسمر على مدخل باحة مرقد الامام العباس وهي لا تجيد القراءة والكتابة لأن والدها لم يتمكن من ادخالها المدرسة فتقول "لم أحظَ بالتعلم مثل شقيقيّ بسبب صعوبة الحياة في العراق". لكنها فتاة ذكية تعلمت بعض الجمل الفارسية من الإيرانيين الذين يعطفون عليها وترافقهم خلال تجوالهم في السوق. وتضيف "أحب اللبنانيين أيضاً خصوصاً أبناء جبل عامل فهم يقدمون لي المال والألبسة". أما الحال في مدينة النجف فهي شبيهة بجارتها كربلاء وعلى مداخلها مساحات واسعة من المقابر حيث توضع القبور فوق بعضها البعض. ويحرص النجفيون على دفن موتاهم في قبور عائلاتهم بعد الانتهاء من الطوفان بهم داخل حرم العتبات. وما زال العراقيون يتقاسمون معاناة الحصار ومضاعفاته خصوصاً أبناء الطبقات الفقيرة والمعدمة، لكن زائر بغداد يلمس ان السلطة نجحت هذه المرة في توحيد شعبها على كره الأميركيين والبريطانيين