الملصق العملاق الذي وضعته قوات التحالف في ساحة التحرير في منطقة الكرادة في بغداد يبدو غير واقعي الى حد يبعث على الخوف. فالملصق عبارة عن صورة تضم ثلاثة عناصر من رجال الشرطة العراقية، شديدي الأناقة، تقف بينهم شرطية مبتسمة ومتفائلة. ألوان الملصق بيضاء وكحلية ووجوه عناصر الشرطة مضاءة على نحو يبرز الأسنان الشديدة البياض. في وسط الملصق كتبت عبارة من المفترض ان عناصر الشرطة هؤلاء هم من قالها: "نحن سنشارك في بناء مستقبل العراق". لكن الملصق الكبير هذا يظهر غير منسجم مع ما تضمه ساحة التحرير والجدران المواجهة لها من عشرات اللافتات السوداء التي كتبها عناصر حزب الدعوة الاسلامي، والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق، وانصار الحوزة الناطقة، والتي تفاوتت بين تذكّر مصرع الإمام الحسين وبين الاعتراض على الدستور الموقت، اضافة الى اخرى تضم نعوات لأشخاص قضوا في تفجيرات الكاظم وكربلاء. ومصدر الخوف الذي يبعثه عدم الانسجام يكمن في ما يرمز اليه من تنافر بين الساعين في مستقبل هذا البلد. وكما مدن الجنوب، لا تخلو بغداد من سيطرة مشهدية للقوى الدينية، خصوصاً الشيعية منها. فاللافتات السوداء منتشرة على معظم جدران المدينة، وهذا الأمر مترافق مع حديث عن فرز سكاني لم يسبق أن شهدته المدينة. فالأقليات الشيعية في المناطق السنية باشرت نزوحاً نحو عمقها الطائفي والعكس صحيح ايضاً. ويبدو ان المناطق في بغداد بدأت تكتسب ملامح عامة وفقاً للقوى المسيطرة فيها. فمنطقتا الثورة والشعلة، وهما من المناطق التي تسكنها عشائر نازحة من الجنوب يسود فيها تيار مقتدى الصدر، اما منطقة الكرادة، وهي في وسط بغداد وتقيم فيها غالبية شيعية من الطبقة المتوسطة، فتنتشر فيها مكاتب ومراكز المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق وفيلق بدر، علماً ان هذه المنطقة تضم ايضاً منازل قيادة المجلس الأعلى وتحديداً منزل زعيمه السيد عبدالعزيز الحكيم الذي يقيم في منزل طارق عزيز على ضفة دجلة. وفي منطقة الكرادة ايضاً تقع فنادق كثيرة يقيم فيها الحجاج الايرانيون الموسرون. حزب الدعوة ليس جزءاً من هذه التقسيمات المناطقية، اذ يعتبر هذا الحزب في الأوساط الدينية الشيعية حزباً نخبوياً ناشطاً في اوساط اساتذة الجامعة والموظفين وأصحاب المهن الحرة العليا. النخب العليا الشيعية في منطقة المنصور وغيرها مرتبطة بالمرجعية التقليدية التي لا يضعف تأثيرها ايضاً في المناطق التي تتوزع النفوذ فيها الأحزاب الأخرى. ويبدو ان القوى الدينية زاحفة الى المؤسسات العامة في بغداد، اذ يتحدث الشباب العراقيون عن اقلية متدينة وحزبية امسكت بالحياة الجامعية وحولت الكليات الى ما يشبه حسينيات ومساجد. ويبدو ان نفوذ هذه الأحزاب يتعدى الطلاب الى ادارات الكليات التي نجح الأعضاء الشيعة في مجلس الحكم في ايصال عدد من مناصريهم الى ادارات عدد منها. يقول علي وهو طالب في جامعة المستنصرية ان رئيس هذه الجامعة محمد طاهر البكاء، خصص في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم قاعة في الجامعة وحوّلها الى مجلس حسيني واستقدم مقرئ عزاء اليها، وفي هذه المناسبة ايضاً استضافت الكلية عدداً من الدعاة الذين قام أحدهم بتقريع الطلاب لعدم ارتدائهم القمصان السوداء في عاشوراء. مجلات الحائط في الكليات تحولت مساحات لنشر فتاوى السيد علي السيستاني وتصريحات مقتدى الصدر. وأشار علي الى ان نفوذ الذين يطلقون على انفسهم "شباب الحوزة"، وهم من انصار السيد السيستاني، هو الأقوى في الكليات. اما شارع المتنبي الذي يعتبر سوق الكتاب في بغداد، وبعدما كان الكتاب الشيعي فيه مضطهداً وممنوعاً، تحول اليوم الى الكتاب الأول في هذا الشارع، وهو ايضاً كتاب مدعوم من مؤسسات ايرانية اقامت اكثر من مرة ومنذ سقوط النظام معارض لها في بغداد. لكن بعض الكتب الشيعية المعروضة في شارع المتنبي تعكس ايضاً خلافات لا بد لها من ان تتحول الى ازمات فعلية في حال آل الحكم الى هذه القوى. اذ يبدو ان تيار مقتدى الصدر سائر في اتجاه الخصومة مع المرجعية السيستانية عبر نشر مناصرين له. اكثر من كتاب يتعرض لهذه المرجعية على طريقة السرد البوليسي لوقائع اغتيالات المراجع الشيعة في العراق ويتساءل كاتبوها عن سر نجاة السيستاني منها. ولعل الكتاب الأبرز على هذا الصعيد "السفير الخامس" لكاتبه عباس الزيدي الذي كان احد وكلاء السيد محمد صادق الصدر والد مقتدى. واللافت ان غلاف الكتاب يضم اولاً صورتين لكل من السيدين محمد صادق ومحمد باقر الصدر، وفي الجزء السفلي منه سلسلة مترابطة من الصور لصدام حسين وتوني بلير مجتمعاً بالسيد عبدالمجيد الخوئي، وصور للسيستاني وللسيد محمد باقر الحكيم. ويقال ان مقتدى امر بسحب هذا الكتاب من التداول في العراق عند شعوره بأن ذلك يمثل تعرضاً لما يجمع عليه الشيعة في العراق. الاجتماعات بين رجال دين من السنّة ونظراء لهم من الشيعة دورية في بغداد، وهي لا تهدف الى تنسيق المواقف في القضايا العامة، فهذا امر اصعب من ان تحققه اجتماعات، وانما الى معالجة قضايا الانتهاكات المتبادلة التي تتعرض لها الأماكن الدينية والتي يبدو انها مستمرة على نحو متزايد في العاصمة العراقية. في مكتب هيئة العلماء المسلمين في الأعظمية يتولى شبان تسجيل ما تتعرض له مساجد السنّة وأئمتها يومياً. ويقول عضو مجلس شورى هيئة العلماء الشيخ حسن النعيمي: "الحوادث منظمة ومقصودة وتستهدف الخيرين من اهل البلد والشخصيات العلمية، وهي ليست حوادث اعتباطية. المستهدفون شخصيات معروفة كالشيخ ضامر الضاري الذي قتل قبل ايام. اذ جاء شخصان الى المسجد وسألا عنه ولما لم يجداه توجها الى منزله وقتلاه ما إن خرج من المنزل". واضاف: "نحن نتهم اولاً الأميركيين والاستخبارات الاسرائيلية بالتعاون مع جهات مجاورة وخونة وعملاء في الداخل. هناك اتصالات بين عقلاء السنّة والشيعة لتدارك هذه المواقف وللحيلولة دون حصول نزاعات طائفية". السيد جواد الخالصي احد الوجوه الشيعية التي تنشط في بغداد للحد من اعمال العنف هذه ولكشف ملابسات ما يجرى. والخالصي شخصية مستقلة الى حد ما، فيما يؤكد اعضاء هيئة العلماء المسلمين انهم لا يجرون اتصالات مع اي احزاب شيعية اخرى. وكما للسنة مظالمهم كذلك للشيعة ايضاً، اذ يتحدث السيد علي الواعظ وكيل السيستاني في منطقة الكاظم عن اغتيالات لوجوه شيعية كان آخرها اغتيال السيد كاظم موسى الغريفي البحراني، وهو بحسب الواعظ رجل دين شاب لا يتدخل في السياسة وشقيق السيد علاء الغريفي احد وجوه الحوزة الدينية في النجف. وكما يتهم السنة جهات خارجية بالوقوف وراء اغتيالات علمائهم، يتهم الشيعة ايضاً جهات من خارج العراق بذلك. ويقول الواعظ الذي اسس جهازاً امنياً في منطقة الكاظم: "القينا القبض على ثلاثة اشخاص هم سوداني وسوري وأردني. الأردني اسمه نضال ابراهيم سالم جاء الى منطقتنا حاملاً بطاقة مزورة للهلال الأحمر العراقي. هؤلاء كانوا ينوون القيام بأعمال ارهابية في منطقتنا". علماً ان تعبير "ارهابي" تعبير شائع جداً في الوسط الشيعي ويستعمله معظم رجال الدين للتدليل على الأعمال التي تستهدف مناطقهم. هذه الوقائع اليومية والمقلقة ليست جوهر ما تنشط الجماعات العراقية للتصدي له، وإن ظهر ذلك في المشهد الخارجي لقلقها. الأحداث مأسوية من دون شك، لكن العراقيين مستعدون على ما يبدو لمزيد من النزف في مقابل انتزاع الجماعات مواقع جديدة لها في الدولة المقبلة. ميدانياً، ستلاحظ ان اجراءات اتخذت بناء على هذه الأحداث، وان اجهزة امن محلية انشئت في هذا الصدد، وسواتر اسمنتية ارتفعت في محيط المنشآت الدينية، لكنك ستشعر ايضاً انهم يرصدون امراً آخر. فالسنّة العرب مثلاً يرفضون النقاش في موضوع الدستور، ويعتبرونه صناعة اميركية جملة وتفصيلاً، لكن صمتهم، وعدم انخراطهم في حركة رفض البنود المتعلقة بالفيدرالية الكردية وبالفقرة ج الشهيرة في العراق هذه الأيام، اراح الأكراد الى حدٍ ما. القوى الشيعية بدورها ادخلت المآسي التي نتجت من التفجيرات التي استهدفت المناطق الشيعية في سياق يهدف الى تعزيز حضورها في هذه المناطق، وهي الآن توظف هذا الحضور في عملية التجاذب حول الدستور. فالحملة الشيعية على الأممالمتحدة لا تقتصر على تصريحات من هم في رأس الهرم المرجعي، وانما يخوضها ايضاً المشايخ المحليون، اولئك الذين يتولون تحصين المساجد وتحويل اتجاهات السير ويشرفون على رفع السواتر الاسمنتية. وطبعاً، فإن مصدر الحنق الشيعي على الأممالمتحدة هو اعلانها صعوبة اجراء الانتخابات في العراق بعد طلب السيستاني منها رأياً يحسم الخلاف حول موعد الانتخابات، وهذه القضية قد تبدو بعيدة من هموم المشايخ الميدانيين، لكنك ستشعر انها في صلب توجهاتهم. ومن الواضح ان مسألة لجوء المرجعية الى الأممالمتحدة وما نتج منه من خيبة شيعية استدخلت في سياق التجاذبات حول ارجحية توجيهات النجف او عدمها. فهذا رئيس تحرير جريدة "الحوزة" التابعة لتيار مقتدى الصدر، علي الياسري يغمز من قناة ما اقدم عليه السيستاني لجهة اللجوء الى الأممالمتحدة لتحديد مستقبل العراق ويقول: "اننا من الأساس خالفنا هذا التوجه وقال السيد مقتدى ان لنا تجربة مرة معها، فأين كانت الأممالمتحدة خلال ارتكاب صدام حسين جرائمه. لقد تحولت الأممالمتحدة الى جهة يقتصر عملها على اعطاء مشروعية للغطرسة الأميركية". وتيار الصدر في العراق اقل حرجاً من غيره لجهة مطالبته بدولة تقودها الحوزة الدينية. ويقول الياسري: "لماذا يخاف هذا الذي يخاف من الاسلام، فالاسلام في العراق اسلام تطور وانفتاح، ومسألة الحكم الاسلامي تخص الشعب دون غيره. النموذج الايراني الذي يتحدثون عنه هو احد نماذج الحكم وليس كلها، ونحن لا نرى الآن انه يناسب الشعب العراقي، ولكن، فليتركوا الأمر للشعب وهو يقرر". وربما كان اكثر الأصوات وضوحاً في الدعوة الى دولة على هذا النمط، تلك التي تسمعها في كربلاء والتي يطلقها آل المدرسي. انهما السيدان الشقيقان محمد تقي وهادي المدرسي وهما مسؤولا منظمة العمل الاسلامي التي تتمتع بنفوذ واسع في كربلاء. اسماء البلدات والمدن في الطريق من بغداد الى كربلاء ارتبط معظمها بأحداث قريبة، وبدل ان تردك هذه الأسماء الى المناطق نفسها، تردك الى ما سمعته او قرأته من احداث. اليوسفية واللطيفية اولاً، وهما ناحيتان سنيتان لطالما شهدتا اعمالاً عسكرية ضد الأميركيين، ثم بعدهما تأتي الاسكندرية التي لم يمض وقت طويل على تفجير مركز كبير للقوات الايطالية فيها، وبعدها منطقة المسيب التي جاء على ذكرها محمد سعيد الصحاف في مؤتمراته الصحافية اثناء الحرب. انها الصحراء نفسها التي تحدث الصحاف عن "تقطيع جسد الأفعى الأميركية" فيها، وفي هذه الفترة الربيعية يبدو القصب المتجمع حول مستنقعات دجلة حالك الخضرة. والى جانب المستنقعات المائية مساحات ملحية بيضاء تغني ألوان الصحراء. المنازل الاسمنتية الجديدة والمرتجلة في منطقة المسيب سيجت بجدران من القصب ومن قضبان النخيل. لطالما سيصادفك على الطرق السريعة بين المدن العراقية مشهد يتكرر. رجال بأثوابهم العربية يحملون غالونات البنزين متوجهين بها الى سياراتهم العتيقة المركونة على جانب الشارع. تلوح مدن العتبات المقدسة في العراق للقادمين اليها مرسلة ذلك البريق الأصفر الناتج من انعكاس الشمس على القبب المذهبة للمراقد. من الواضح ان ازدهار كربلاء يفوق ازدهار النجف. الأسواق فيها اكثر تنظيماً واكتظاظاً. فمن المعروف في العراق ان الكربلائيين يفوقون النجفيين في خبراتهم التجارية والسياحية، وذلك لسببين: الأول الفارق بين البيئة البدوية لسكان النجف، والبيئة الفلاحية والزراعية لسكان كربلاء، ثم ان نسبة كبيرة من اهل كربلاء هم من اصول فارسية، وبالتالي يفضل الحجاج الايرانيون الذين يزورون المراقد الدينية قضاء معظم اوقاتهم في كربلاء. هذا الأمر عاد بعد سقوط النظام ليتكرر، فلافتات الكثير من المحال التجارية في كربلاء مكتوبة بالفارسية، والعملة الايرانية متداولة بين التجار. وخلافاً لسكان مدن العتبات الأخرى ابدى الكربلائيون عدم رضاهم على فتوى السيستاني بتحريم دخول الزوار من خارج العراق الى المراقد بغير الطرق الشرعية. ويقول جعفر محمد عضو المكتب السياسي لمنظمة العمل الاسلامي: "من الخطأ ان نقفل الحدود لنمنع الزوار من القدوم الى مدن العتبات. ففرض الأمن يتم بوسائل اخرى. وفي الأمس نظمنا مؤتمراً حضره السيد هادي المدرسي والكولونيل البولندي واتفقنا على تقسيم كربلاء الى مناطق في اربعينية الحسين، حتى تسهل مراقبة المشاركين في الاحتفالية الذين نتوقع هذا العام ان يبلغ عددهم نحو اربعة ملايين". من الواضح لزائر كربلاء ازدهار المدينة على رغم ما اصابها بعد تفجيرات العاشر من محرم. الزوار الايرانيون يملأون الأسواق، والمساومة على السلع بين الباعة العراقيين والمتسوقين الايرانيين امر يمكنك سماعه وتحديده بفعل اختلاط اللغات واللهجات. ايجار المنزل في المنطقة القريبة من المرقد بلغ قيمة خيالية في العراق، اذ يقول تاجر انه يتجاوز 1500 دولار، وهو رقم لم يكن ليسمع به اهل كربلاء قبل ذلك. اما اسعار العقارات في هذه المنطقة فيقول الكربلائيون انه الأغلى في العالم، اذ يبلغ ثمن متر الأرض في محيط المرقد نحو عشرة آلاف دولار بحسب ما قال جعفر محمد الذي اضاف: "بعد سقوط النظام ازدادت الحركة السياحية، وتحسن الوضع الاقتصادي للبعض. ارتفعت اسعار العقارات فازداد الغني غنى والفقير فقراً. على صعيد البنى التحتية للمدينة لم يطرأ اي تحسن. الاحتلال يحافظ على وضعه الأمني وترك الناس للدفاع عن انفسهم. لم يسمحوا لنا بحمل السلاح ولم يوفروا أبسط الأجهزة لكشف الارهاب". مرقد الإمام الحسين في كربلاء محاط بعدد كبير من النوادي الحسينية، والمنشآت الدينية الرديفة والمكملة. ومحاط ايضاً بعدد من الفنادق التي باشر اصحابها ورشات الترميم واعادة البناء، وهي حال جميع المناطق المحيطة بالروضات الشيعية. رجال الشرطة في كربلاء يجولون بلباسهم المدني وأسلحتهم وسط الزوار، والباعة الفقراء ينظرون في وجه كل غريب محاولين التمييز بين ما اذا كان زائراً مؤمناً ام من اولئك الرجال المفخخين، ولكن لا يبدو ان للأمرين نتائج تذكر. فلا رجال الشرطة هؤلاء يمكنهم منع من يريد الوصول الى المدينة من الوصول، ولا تلك الوجوه الخائفة يمكنها ان تردع احداً.