في موازاة النقاشات العاصفة التي كانت تدور في مؤتمر الاممالمتحدة الثالث حول العنصرية في دوربان في جنوب افريقيا 31 آب/ اغسطس الماضي بثت احدى قنوات التلفزة الفرنسية مقابلة مع عائلة من المستوطنين الجدد في غزة. سأل الصحافي الفرنسي: هل تعتقدون انكم قادرون على الحفاظ على موقعكم الاستيطاني هذا بمواجهة العالم كله الذي يرفض الاستيطان؟ فردّ الرجل: العالم كله مخطئ ونحن على صواب. ثم سأل الصحافي زوجة المستوطن: ما الذي يحملكم على البقاء هنا وسط اكثر من مليون فلسطيني؟ فأجابت: نحن هنا بمشيئة التوراة، والمليون فلسطيني الذين تتحدث عنهم مستوطنون في الارض التي نملكها بعناية إلهية. لم يعد هذا المنطق محصوراً بفئة متطرفة في اسرائيل على جاري التصنيفات السابقة ولا قاصراً على المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس بل أصبح دليلاً رسمياً للسلطة. ومنذ تسلّم آرييل شارون مقاليد الحكم في الربيع الماضي في الدولة العبرية يؤكد يومياً لمواطنيه ان العالم كله في خانة الخطأ واسرائيل وحدها في خانة الصواب. ولو قدّر لمنظّرين توراتيين الحديث عن ابعاد هذا التصنيف لقالوا ان اليهود الذين حوصروا من طرف الرومان في قلعة "المسادا" الاسطورية فضّلوا الانتحار الجماعي، على الاستسلام لأنهم كانوا على صواب فيما الامبراطورية الرومانية على خطأ وانهم لا يختلفون كثيراً عن يهود اليوم. هذا المنطق "الانتحاري" اليهودي كان ماثلاً للعيان في مؤتمر دوربان. هناك اعتبرت اسرائيل ان ممثلي 150 دولة على خطأ، وممثلي اسرائيل على صواب. وكأن ممثلي 3 آلاف منظمة غير حكومية على خطأ وممثلي المنظمات اليهودية غير الحكومية على صواب. وفي الحالتين انسحب ممثلو اسرائيل من مجلسٍ عالمي اعتبروه "ضالاً"، وفي الحالتين ايضاً لم تجد الدولة العبرية نصيراً غير الولاياتالمتحدة والمنظمات التي لها نفوذ في اداراتها. وكانت منظمات بارزة مثل "منظمة العفو الدولية" و"الفيديرالية الدولية لروابط حقوق الانسان" و"هيومان رايت واتش" انسحبت بدورها من مؤتمر المنظمات غير الحكومية 2000 منظمة الذي انعقد على هامش مؤتمر دوربان، بسبب عبارات وردت في الاعلان الصادر عن هذه المنظمات والذي ينص على وصف اسرائيل ب"الدولة العنصرية" ويؤكد ارتكابها "… جرائم ضد الانسانية"... ومعروف ان المنظمات المنسحبة تتأثر بالولاياتالمتحدة واوروبا التي تدعم نشاطاتها على الصعيد الدولي، علماً بأن بياناتها تتضمن منذ بعض الوقت انتقادات صريحة لاسرائيل وتشير الى انتهاكاتها المتكررة لحقوق الانسان. ووصف الحاخام ابراهام كوبر الذي كان حاضراً في دوربان، الاعلان المذكور بأنه "الاسوأ ضد اليهود منذ عهد النازية في المانيا". فيما رأى موردخاي يالديد رئيس البعثة الاسرائيلية إلى المؤتمر ان "الصراع بين اسرائيل وجيراننا الفلسطينيين ليس عرقياً وبالتالي لا مكان له في هذا المؤتمر". وهذه الاوصاف تنطلق من "الذات" الاسرائيلية التي لا تتحمل الخطأ ولا العنصرية لأنها "ذات" مختارة ومقدسة، فإذا ما رميت بالعنصرية، فالرامي وان كان ينطق باسم العالم يكون مناهضاً للسامية ومعادياً لليهود ومؤيداً بغير حق للعرب! في دوربان لم تصمد الخطوط الحمر الاخلاقية التي اعتمدتها اسرائيل على الدوام لتغطية سياساتها الاستيطانية والعنصرية وتجاوزاتها المتكررة للقوانين والاعراف الدولية، هناك كان من الصعب ان تقنع العالم بأنها الضحية الاوحد في التاريخ وان هذا الموقع يتيح لها ان تفعل ما تشاء وان ترتكب كل الكبائر من دون مساءلة. وهناك كان من الصعب ان تحمي اسرائيل ممارساتها العنصرية في الاراضي المحتلة وداخل اراضي العام 1948، بتخويف المؤتمرين بشعار "العداء للسامية" وهناك ايضاً كان من الصعب على الدولة العبرية ان تقنع احداً بعدم استخدام مصطلح "جريمة ضد الانسانية" لوصف ما تقوم به من عمليات اقتلاع ومصادرة اراض وقتل واغتيال وفرض حصار على شعب مهدد بالجوع والانهيار... باختصار يمكن القول ان الخطوط الحمر الاخلاقية الاسرائيلية سقطت في دوربان الواحد تلو الآخر. ففي مسألة تشبيه الصهيونية بالعنصرية، عاد العالم، أقله في اعلان المنظمات غير الحكومية، الى الصيغة التي اعتمدتها الاممالمتحدة في العام 1975 وفيها اعتراف دولي صريح بأن الصهيونية حركة عنصرية، واذا كان هذا القرار قد أُلغي في العام 1991 بعد انهيار الحرب الباردة وبفعل تنازلات عربية وفلسطينية ناتجة عن حرب الخليج الثانية وآثارها المدمّرة، وفي ظل رهان عربي على مقايضة هذا التنازل بدور اميركي فعّال ومنصف في عملية السلام، فان العقد المنصرم، والانتفاضة الفلسطينية، وانسداد افق السلام وامعان اسرائيل في ممارساتها العنصرية، حملت العرب الى التصنيف السابق: الصهيونية حركة عنصرية طالما انها لم تثبت العكس خلال التسعينات. ويتيح هذا التصنيف امام العرب هامشاً اكبر للمناورة في ردع الوحشية الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، أقله في المجالات التي تتأثر بنشاط المنظمات غير الحكومية. وفي قضية "العداء للسامية" تبين ان المؤتمرين، وبصورة خاصة مئات المنظمات غير الحكومية، لم يعودوا يتأثرون بهذا الشعار الذي يطال اليهود بصفتهم الدينية. ففي دوربان لم يتعرض احد لليهود بوصفهم يهوداً وانما للسياسة الاسرائيلية الخاضعة للمساءلة كسياسة اية دولة اخرى. ناهيك عن ان المؤتمرين في دوربان يدركون ان "العداء للسامية" ظاهرة اوروبية حصراً، وان اسرائيل "السامية" ترتكب جرائم بحق العرب الساميين، من دون روادع اخلاقية مماثلة، ما يعني ان فاعلية الشعار المذكور باتت محصورة بأوروبا واميركا حيث منشأ الظاهرة وحيث يوجد عداء فعلي للسامية وان كان محصوراً وهامشياً في وقتنا الحاضر. تعميم مصطلح الجرائم وفي مفهوم "المحرقة" و"التطهير العرقي" و"الجرائم ضد الانسانية" الى غير ذلك من المصطلحات لم يقرّ المؤتمر في دوربان بجواز حصرها بجرائم النازية ضد اليهود، فهي باتت تطلق حتى في اوروبا على مذابح الارمن في تركيا العثمانية، في مطالع القرن، وصارت صفات مطابقة للجرائم التي ارتُكبت في البلقان وغيرها، وبالتالي صار من الواجب طرحها في سياق ما يصدر عن بعض الاوساط الاسرائيلية نفسها كقول حاخامين معروفين ان العرب يتكاثرون كالنمل وان على اسرائيل ابادتهم. علماً ان هؤلاء الحاخامين وغيرهم لم يقدموا للمحاكمة في اسرائيل ولم تصدر بحقهم احكام قضائية. ناهيك عن ارتكاب الجيش الاسرائيلي جرائم صريحة ضد المدنيين العرب بوصفهم عرباً فقط كما الحال في مجزرة قانا في جنوبلبنان وفي كل المجازر المشابهة التي ارتكبت في فلسطين منذ نشوئها، ذلك كله على قاعدة الجريمة الكبرى المتمثلة باقتلاع الشعب الفلسطيني من ارضه ورفض عودته اليها. ولعل ما نطق به العرب في دوربان، هو قواعد التصنيف نفسها التي تطلب اسرائيل من العالم الالتزام بها ازاء مآسي الشعب اليهودي. وفي دوربان كان واضحاً ان الولاياتالمتحدة، عاجزة عن حماية حليفتها من هزيمة اخلاقية ضخمة. فواشنطن لا تملك حق "الفيتو الاخلاقي" على غرار حق "الفيتو" السياسي الذي تستخدمه بإفراط في مجلس الامن لحماية اسرائيل من الادانة والمساءلة السياسية. لذا ارتأت الادارة الاميركية ان تمارس الضغط على المؤتمرين الرسميين وعلى المنظمات غير الحكومية بوسائل متعددة. فهي أوفدت بعثة متدنية التمثيل. وهددت بالانسحاب من المؤتمر، ثم انسحبت بعدما تبين لها انعدام القابلية لضغوطها، ثم طلبت من دول الاتحاد الاوروبي التضامن معها وبالتالي الانسحاب من أجل إفشال المؤتمر اذا كان من الصعب حمله على استثناء الدولة العبرية من الادانة. والسلوك الأميركي في دوربان لا يختلف عن السياسة التي اعتمدتها واشنطن في المؤتمرين الاول 1978 والثاني 1983 والتي دعت اليها الاممالمتحدة لمكافحة العنصرية. فقد عملت واشنطن على افشال المؤتمرين المذكورين وانسحبت ومعها دول الاتحاد الاوروبي، في الحالتين السابقتين كما في الحالة الراهنة، من ان يؤدي نجاح دول الجنوب في ادانة اسرائيل، الى نجاحها في الحصول على تعويضات مادية واخلاقية بمفعول رجعي، من جراء سياسات الاستعمار والاسترقاق التي مارسها الغربيون خلال قرون طويلة في قارات افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية. واللافت في هذا المجال ان دول الاتحاد الاوروبي التي تعتمد سياسة نقدية تجاه اسرائيل في ازمة الشرق الاوسط، تأخذ على الولاياتالمتحدة تسامحها المفرط ازاء السياسة الاسرائيلية. هذه الدول اتخذت في دوربان مواقف متطابقة مع الموقف الأميركي لإدراكها ان الرهانات المعقودة على المؤتمر تتعدى فعلاً قضية الشرق الأوسط وأن الأمر يتصل بصراع حقيقي بين دول الجنوب ودول الشمال حول الظلم التاريخي الذي لحق بالجنوب من جراء سياسات الاستعمار والاسترقاق، لكن الطرفين الأميركي والأوروبي لم يفلحا في ضبط إيقاع وردود فعل المنظمات غير الحكومية التي طرحت كل القضايا العادلة دفعة واحدة ومن دون مجاملة أي طرف ومارست ضغوطاً على المؤتمرين الرسميين لاعتماد الاعلان الصادر عنها بفروعه المختلفة. عزلة اسرائيل أغلب الظن ان عجز الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عن فرض الخطوط الحمر الأخلاقية الاسرائيلية في دوربان، سيخلف اثاراً بالغة الأهمية على الصراع العربي - الاسرائيلي في جانبه الأخلاقي وربما السياسي ويمكن حصد هذه الآثار في الخطوط الآتية: 1- ان تشبيه الصهيونية بالعنصرية، حتى وان اقتصر على اعلان المنظمات غير الحكومية، أصبح قيد التداول ولم يعد محرماً. وهو يشكل طعناً صريحاً بشرعية الدولة الاسرائيلية، لأنه يجعل منها الدولة العنصرية الوحيدة في العالم، وهذا الموقع كانت تحتله من قبل دولة جنوب افريقيا التي سقطت مع انهيار الحرب الباردة. ولعل صدور التشبيه من جنوب افريقيا بالذات يحمل دلالة خاصة، فسقوط دولة الابارتيد تم بعد عزلها دولياً. والتشبيه المذكور يفقد اسرائيل شرعيتها الأخلاقية ويساهم في اتساع عزلتها على المسرح الدولي خصوصاً في ظل حكومة ارييل شارون الحالية، وهذا الأمر يدرك الاسرائيليون مخاطره بدقة لذا تراهم اليوم ينطقون جميعاً بلسان المعلق الاسرائيلي المعروف هامي شاليف الذي كتب "... باستثناء حفنة من المنصفين، العالم ما زال ضدنا، وشعب اسرائيل يجد نفسه كالعادة، وحيداً في خندقه". 2- مع فقدان شرعيتها الأخلاقية المحدودة على الصعيد الدولي، تصبح اسرائيل مسنودة فقط بقوتها العسكرية البحتة وبالتغطية الأميركية. لكن شرعية القوة وحدها، والدعم الأميركي وحده، لم يضمنا من قبل بقاء دولة الابارتيد في جنوب افريقيا على رغم تفوقها الاقتصادي واحتلالها موقعاً استراتيجياً من الدرجة الأولى في افريقيا والعالم، على رغم التأييد الأميركي غير المشروط والدائم لسياساتها. 3- عندما تفقد اسرائيل تغطيتها الأخلاقية، تتحول الى عبء أكيد على السياسة الأميركية نفسها بدلاً من ان تكون نصيراً وحليفاً فعالاً لهذه السياسة، وينطبق ذلك على علاقة اسرائيل بدول الاتحاد الأوروبي. فهذه الدول مجتمعة، وبعد فوزها بالحرب الباردة، تسعى لإرساء قواعد سلوك دولي تقوم على نظام حقوقي عادل للانسان والشعوب وعلى مكافحة العنصرية وكره الأجانب وتدعو للحوار والتسامح والاعتراف بالآخر في العلاقات الدولية. وسيكون من الصعب على هذه الدول أن تدعو بقية العالم لالتزام هذه القواعد واستثناء اسرائيل منها. 4- عندما تفقد اسرائيل تغطيتها الأخلاقية، فانها تلحق ضرراً كبيراً بالجاليات اليهودية في العالم. خصوصاً تلك المدافعة بعناد عن المشروع الصهيوني الاستيطاني والمتماهية بقوة مع الدولة العبرية. فهذه الجاليات تستمد قوتها من موقع الضحية الأخلاقي، والمستند أصلاً الى الظلم الذي لحق باليهود في أوروبا من جراء النازية والعداء للسامية خلال قرون عدة. فكيف يمكن للجاليات المذكورة أن تتماهى مع مشروع صهيوني متهم بالعنصرية وبارتكاب جرائم ضد الانسانية؟ 5- سيكون من الصعب على الشتات اليهودي اقناع الرأي العام العالمي بأن الاسرائيلي يجب أن يتمتع بأفضلية الأرض والمياه والسكن والحماية والأمن، وذلك على حساب الفلسطيني الذي عليه أن يرضى بأفضلية الاسرائيلي لأنه اسرائيلي فقط وعليه أن يقبل بمصير بائس، لأن الاسرائيلي كان ضحية النازية والعداء للسامية في أوروبا. 6- سيكون من الصعب على الاسرائيليين اتهام العرب بالمسؤولية عن ايقاظ التيارات اللاسامية في أوروبا وعن نموها، ذلك أن تعنت الدولة العبرية. واصرارها على سياسة التفضيل العنصري، وانحراف بعض مثقفيها الكبار وانجرارهم في تأييد العمليات الانتقامية الشارونية تصب الماء في طاحونة اللاساميين في أوروبا وسائر الذين يكرهون اليهود لكونهم يهوداً فقط، والعرب ليسوا منهم لأنهم كانوا على الدوام يطالبون بحقوقهم من اليهود وليس بقتلهم. 7- ربما لن يؤدي مؤتمر دوربان بشقيه الرسمي وغير الحكومي الى حدوث أي تعديل مادي في ميزان القوى المتصل بالصراع العربي - الاسرائيلي، لكنه في كل الحالات ينطوي على رسالة صريحة لاسرائيل وليهود العالم مفادها ان الاعتراف بحقوق العرب والانسحاب من أراضيهم هو المعبر الوحيد الذي يتيح لاسرائيل الاحتفاظ بشرعية أخلاقية في العالم والخلاص من عزلة دولية أكيدة... وبالتالي الخروج من "الخندق"