مع اقتراب موعد المؤتمر الدولي الذي تنظمه هيئة الأممالمتحدة من أجل بحث مسألة العنصرية في العالم، تمارس الولاياتالمتحدة ضغطاً متزايداً على الدول العربية لاجبارها على صرف النظر عن طرح قضية اعتبار الصهيونية كشكل من اشكال العنصرية. وبلغ هذا الضغط ذروته عندما أبلغت واشنطن منظمي المؤتمر الذي يبدأ نهاية آب اغسطس الجاري بأنها ستقاطع المؤتمر اذ ادرجت قضية الصهيونية في جدول أعماله. وفي ظل الظروف الدولية الراهنة والهيمنة التي تبسطها الولاياتالمتحدة على النظام الدولي وعلى أدواته كالأممالمتحدة، فإن واشنطن قد تنجح في فرض ابعاد قضية الصهيونية عن المؤتمر. وقد يعتبر نجاح واشنطن على هذا الصعيد كسباً كبيراً ولو انه سلبي لاسرائيل، لكنه خسارة للمجتمع الدولي ونكسة للشرعية الدولية في المواضع الثلاثة الآتية: 1- تطوير الحملة العالمية ضد العنصرية: ان الغرض من انعقاد مؤتمر دوربان الدولي، كما حدده منظموه، وبإقرار من نائب وزير الخارجية الاسرائيلية، ميخائيل ملكيور، هو البحث في واقع العنصرية في العالم، والتوصل الى مقترب عالمي لفهم هذه المشكلة، والتوافق بين الدول الأعضاء في هيئة الأممالمتحدة على أفضل السبل لمكافحة هذه المعضلة المتفاقمة. ان أية محاولة جادة للوقوف على معاني العنصرية ولتحديد أسبابها ومقوماتها وتجلياتها تقتضي درس النماذج الحديثة للأنظمة والحركات العنصرية. وفي عالمنا اليوم هناك شعور قوي في أوساط دولية متعددة بأن الصهيونية تمثل شكلاً من أشكال العنصرية، وان ما جرى في اسرائيل منذ قيامها عام 1948 وحتى تاريخنا هذا يؤكد العلاقة بين الاثنين. الاسرائيليون والأميركيون يعارضون هذا الموقف على أساس انه ليس هناك، حتى تاريخنا هذا، تعريف دولي متفق عليه لظاهرة العنصرية كي تدان الصهيونية بأنها أحد أشكال العنصرية، ويقولون أيضاً ان العنصرية هي التمييز القائم على اللون حصراً، وأن الصراع القائم في الشرق الأوسط هو سياسي وليس عنصرياً لتصح ادانة اسرائيل بالعنصرية. هذه التبريرات لا تنفي التهمة عن الصهيونية وعن اسرائيل. ويستطيع مؤتمر دوربان التوصل الى تعريف دولي للعنصرية، ما يساعد في رصد الممارسات العنصرية في المجتمع الدولي وفي تكثيف العمل ضدها. الموقف الاسرائيلي والأميركي من هذه المسألة يرمي الى جر المؤتمر الى تعريف مجزوء ومبتسر حتى تفلت الصهيونية واسرائيل من الادانة الأخلاقية، كما افلتت اسرائيل سابقاً من الالتزام بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. والربط بين اللون والعنصرية صحيح ولكن ليس بصورة حصرية اذ ان التطهير الديني، الذي مارسه الصهاينة منذ دخولهم فلسطين، بات يعتبر شكلاً من أشكال العنصرية. اما القول بأن الصراع في الشرق الأوسط هو سياسي فحسب، فهو قول مردود، إذ أن جذر الخلاف بين العرب والاسرائيليين هو المشروع الصهيوني الذي يقضي بطرد الأولين من أرضهم ويعاملهم معاملة "الشعوب الهمجية" التي أباح العنصريون الأوروبيون المتأثرون بالداروينية الاجتماعية القضاء عليها وسلبها حقوقها كخطوات ضرورية لتحقيق التقدم البشري. هذا النمط من المعاملة لم يتوقف ولم يتغير منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا. بناء المستوطنات في الضفة الغربية، سلب الفلسطينيين في الضفة والقطاع أفضل أراضيهم وأكثرها خصوبة وأهمية من الناحية الاستراتيجية، الاستيلاء على مياه الفلسطينيين في الضفة والقطاع وهضبة الجولان والاصرار على الحفاظ على هذا الواقع حتى ولو بعد توقيع معاهدات السلام لا يمكن فهمه فهماً حقيقياً إلا بالعودة الى أفكار العنصريين الأوروبيين مثل تشامبرلن وهتلر وموسوليني. لقد نادى سياسيون أوروبيون، مثل هايدر في النمسا، وجان ماري لوبان في فرنسا، وفيني في ايطاليا، بأقل من ذلك بكثير. طالبوا باغلاق باب الهجرة الى أوروبا، وبالتشدد إزاء طلبات اللجوء السياسي في الدول المعنية، فادانهم المعنيون بقضايا حقوق الانسان، وهم على حق في هذه الادانة، بالعنصرية. ما قام به الصهاينة في اسرائيل يفوق بما لا يقاس ما يدعو اليه هؤلاء الساسة الأوروبيون المتعصبون والعنصريون. بل ان ما يقوم به الاسرائيليون في عصرنا الحديث يفوق، كما جاء في خطاب القاه القس ديزموند توتو، أحد أبرز المناضلين ضد العنصرية في العالم، أمام اتحاد طلبة جامعة اكسفورد قبل سنوات، ما قام به العنصريون في جنوب افريقيا. من هنا فإن أي بحث في العنصرية الحديثة بدون التطرق الى المثال الاسرائيلي وبدون التوقف عنده سوف ينتقص من قدرة مؤتمر دوربان على بلورة مقترب سليم لفهم العنصرية وتقديم تعريف مقبول لها، والتوافق على برنامج انساني لمكافحتها. 2- انه يساهم في تكريس نهج غير ديموقراطي في العلاقات الدولية. ان الاعتقاد بأن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية قد لا يكون في محله. الذين تقدموا باقتراح بصدد توصيف الاحتلال الاسرائيلي ومارساته بأنها نوع جديد من التمييز العنصري قد يكونوا مخطئين في اقتراحهم. ولكن سواء كان هذا الرأي مصيباً أم لا، فإنه يمثل موقفاً لا ينتشر في الدول العربية فحسب، بل خارجها أيضاً، الأمر الذي أكده تبني الجمعية العمومية لهيئة الأممالمتحدة عام 1975 قراراً بمساواة الصهيونية بالحركات العنصرية. فضلا عن تبني الهيئة الدولية لهذا الموقف فقد تبنى عدد من الشخصيات الدولية البارزة، وبرونو كرايسكي مستشار النمسا السابق الراحل الذي تزعم الاشتراكية الدولية، والمفكر الأميركي نعوم تشومسكي، والقس توتو وغيرهم الادانة الأخلاقية التي انطوى عليها ذلك القرار لممارسات اسرائيل العنصرية. ان مؤتمر دوربان هو المكان المناسب لطرح هذه النظرة المنتشرة في العالم، وهو المكان المناسب لمناقشتها، فإذا بدت محقة، فإنه من مصلحة المجتمع الدولي ان تدمج في تقارير المؤتمر ومقرراته. اما إذا اتفقت غالبية الوفود على أن هذه النظرة خاطئة، فإن مؤتمر دوربان قد أكد صفته كمناسبة لمناقشة قضايا العنصرية بصورة ديموقراطية ومنصفة. التهديد الأميركي بمقاطعة مؤتمر دوربان إذا ادرج على جدول أعماله مسألة الممارسات الاسرائيلية العنصرية، ينطوي على استهتار مزدوج بقيم الديموقراطية الدولية، وبالمجتمع الدولي في آن واحد. هذا الاستهتار استفز المؤتمر الوطني الحاكم في افريقيا الجنوبية التي تستضيف المؤتمر مما دفع الناطق باسمه، سموتس نغونياما، الى القول "بأن المؤتمر يتطلع الى عالم لا يتمكن فيه لاعب واحد من فرض وجهات نظره على الآخرين، والى التأكيد بأنه من حق كل الدول اقتراح ما تراه مناسباً في جدول أعمال المؤتمر". بالمقابل فإن الموقف الأميركي يشكل ابتزازاً صريحاً لا مجال فيه للالتباس وهذا الموقف يثير علامات استفهام كبيرة حول ادعاء واشنطن بأنها نصيرة الديموقراطية الكبرى في المجتمع الدولي، بل انه يطرح الأسئلة الكثيرة حول جدية المؤتمرات والمنظمات الدولية كاطار لبحث القضايا الدولية الكبرى بصورة عقلانية وديموقراطية،. 3- تأزيم التوترات في الشرق الأوسط. ان الاختلال الكبير في موازين القوى بين العرب والاسرائيليين لصالح الأخيرين يؤجج الصراعات الاقليمية في المنطقة. فهذا الاختلال يشجع الاسرائيليين على الاستمرار في احتلال الأراضي العربية المحتلة وعلى قضم هذه الأراضي وعلى طرد الفلسطينيين والسوريين من أراضيهم. كذلك يشجع هذا الاختلال الاسرائيليين على الإعداد لمشاريع السيطرة والهيمنة على المنطقة بدلاً من تقديم الأدلة على استعدادهم للعيش بسلام مع الآخرين. الولاياتالمتحدة مسؤولة بصورة رئيسية عن اختلال موازين القوى بين العرب والاسرائيليين. فواشنطن تتبع سياسة معلنة تنمّي قدرات اسرائيل لتصبح "أقوى من مجموع الدول العربية عسكرياً واقتصادياً". وبرزت نتائج هذه السياسة أخيراً عندما امتنعت نصف الدول العربية تقريباً، حرصاً على مصالحها مع الولاياتالمتحدة، عن حضور اجتماعات مكاتب المقاطعة الاقتصادية العربية في دمشق. ان هذه السياسة تجعل الدول العربية في أمسّ الحاجة الى تكثيف نشاطها السياسي كوسيلة للضغط على اسرائيل من أجل انهاء احتلالها الاستيطاني للأراضي العربية. ويقدم التحرك العربي في مؤتمر دوربان صورة من صور التحرك السياسي المحدودة والمتاحة من أجل الضغط على الاسرائيليين للخروج من الأراضي المحتلة. الموقف الأميركي تجاه هذا التحرك سوف ينزع من أيدي العرب وسيلة مهمة من وسائل الضغط السياسي على اسرائيل. انه موقف يقوي وجهة نظر التيارات العربية التي ترى ان الحرب هي الطريق الوحيد لاخراج الاسرائيليين من الأراضي العربية المحتلة، كما يقوي أيضاً المواقف الصقورية المتعسفة التي تقفها حكومة شارون تجاه حقوق الفلسطينيين والسوريين في استرجاع أراضيهم المحتلة. الموقف الأميركي من مؤتمر دوربان هو تعبير عن سياسة اميركية مستمرة فيها كل عناصر العداء للعرب والاستهانة بالمجتمع الدولي. هذه السياسة تخدم مصالح المتعصبين والمتطرفين الاسرائيليين، وتضر بمصالح العرب وتنال من حقوقهم، ولكنها من جهة أخرى ستؤدي الى نمو ظاهرة أشار اليها صموئيل هانتغتون الا وهي تحول الولاياتالمتحدة من القوة العظمى الوحيدة الى القوة العظمى المعزولة. * كاتب وباحث لبناني.