يحتفل الرئيس الكوبي فيديل كاسترو هذا الشهر بعيد ميلاده الخامس والسبعين. يحتفل؟ صعب. أخيراً انهار القائد وسقط فيما كان على المنصة. يبدو مريضاً وكالح الوجه، مختلفاً عنه في خطبه النارية التي تدوم ساعات. مختلفاً عن صورته كمدخّن سيجار مُحبّ للحياة. الاشاعات تقول انه يعاني مشاكل صحية من النوع القاتل: ربما في القلب. ربما في الدماغ. ربما باركنسون. يصعب التأكد في بلد ككوبا. السلطات دائماً نفت وتنفي الى ان حصل الاغماء الذي نقلته شاشة التلفزيون. ما كان يمكن تجنب نقله اذ حصل فيما الكاميرات مركّزة عليه، كالعادة. ومثل كاسترو فالنظام الذي اقامه يبدو مهتزاً. الا ان بعضهم يربط بين الامرين: انهيار كاسترو الصحي يعني انهيارا سياسيا مؤكدا للوضع الذي أنشأه. لكن ما دمنا نتحدث عن ميلاد الزعيم فلا بأس من الاشارة الى ان حياة كاسترو كلها عجّت بالاحداث الدرامية، وكان بعضها شائعات. وبعضها خوارق. فالرجل، ذو الاصرار الحديدي المعطوف على أداء مسرحي، لا تنطبق عليه المعايير التي تصح في الرجال العاديين: في 1955 وكمنفيّ في المكسيك اعلن فيديل، ابن ال29 عاماً يومها، انه سيقود غزواً لكوبا يطيح الديكتاتور الفاسد فولجنسيو باتيستا. وفعلا كان الحدث الكبير الاول في حياته حين حط بصحبة 82 من مقاتليه في "لاس كولوراداس" على الشاطئ الكوبي في 2 كانون الاول ديسمبر 1956. أوصلتهم باخرة باتت شهيرة حملت اسم "غرانما" الجدّة، لكنهم وصلوا متعبين لأن الباخرة عتيقة متداعية والبحر عاصف والزاد قليل. تفاؤلهم التاريخي بالانتصار الحتمي لم يحل دون تعرضهم للمحنة الاولى: ما ان وصلوا حتى وقعوا في فخ في نقطة "اليغريا دي بيو": في انتظارهم كانت قوات باتيستا معززة بالطيران. وبالفعل نجحت في تصفية واعتقال نصفهم بينما تبدد النصف الذي بقي على قيد الحياة. قبضة منهم ضمت كاسترو وشقيقه راؤول وصديقه الطبيب الارجنتيني الشاب ارنستو غيفارا اعادت تجميع نفسها عند احد منحدرات جبال "السييرا مايسترا" الشهيرة. القوات التي طرحت على نفسها اطاحة الديكتاتور لم يكن عدد افرادها يتجاوز ال12 مقاتلا معهم 7 بنادق ومن حولهم تنتشر قوات باتيستا ماضيةً في البحث والتفتيش عنهم. رغم الكارثة استنتج كاسترو "أن الثورة انتصرت"! لم يكن احد غيره يتوقع هذا الانتصار. باتيستا نفسه اعلن من محطة الراديو ان كاسترو بين القتلى. لكن لم يمض غير عامين حتى كان باتيستا يهرب الى المنفى فيما "القتيل" السابق كاسترو يهبط على رأس رجاله الملتحين على العاصمة هافانا التي استقبلته بالمظاهرات المؤيدة. متمرد بطبعه طوال سنوات حكمه اللاحقة تحدى كاسترو معظم القوانين العادية والمألوفة. لكن ألا يصح ذلك ايضاً على الفترة التي سبقت وصوله الى السلطة؟ فالطفل الذي ولد في 13 آب أغسطس 1926 في مزرعة قصب قرب بيران، على الساحل الشمالي للجزيرة، وُلد لأب ثري نسبياً اشتُهر بصلابته وبأصوله الغاليسية الاسبانية. ولأن الاب مالك زراعي متوسط. لم يعان فيديل الصغير واخوته الثمانية الشظف الذي عرفه ابناء المنطقة الآخرون. مع هذا عانى، كما تذهب احدى الروايات، رفض الأب الاعتراف ببنوّته لأنه لم يكن ثمرة زواج شرعي. واذا صحت الرواية فكاسترو حُرم الاسم الأبوي وتمتع بكرم الأب. بعض المحللين يردّون بعض سماته اللاحقة الى هذا التفاوت المبكر. على اية حال عُرف فيديل الصبي بميوله المشاكسة وتصدّيه للاساتذة الذين حاولوا استخدام القوة معه. وتجمعت معلومات كثيرة عن حياته يومذاك مما قاله اقارب له بينهم اخت وابنة، وعشيقات كثيرات انتهى معظمهن في المنفى الاميركي الشمالي. فالتأثير الاهم ابان شبابه جاءه من شخصية جوزيه مارتي: الشاعر والقائد الاستقلالي الكوبي الذي وقف في وجه الاحتلال الاسباني للجزيرة ثم قضى في معركة 1895. وكان لحياة مارتي ومقتله ان ألهما كاسترو الشاب وجيله ممن رأوا ان الاستقلال الذي أُحرز في 1902 جاء موصوماً بابتداء هيمنة اميركية شمالية عارية على الجزيرة. وفي الأربعينات، وكطالب في جامعة هافانا، قويت مشاعر العداء ل"اليانكي الشمالي". وكان الكوبيون الذين يشاطرونه هذه العاطفة يبحثون عن زعيم يكون لهم ما كانه مارتي لأجدادهم. وانضم فيديل الى "الحزب الوطني الارثوذكسي" المسمى كذلك تبعاً لتشدده في اعتناق مبادىء مارتي. الا انه ايضاً، وبصورة متواصلة، حمل مسدساً اثناء سنواته الخمس في كلية الحقوق! وتقول رواية لاحقة منسوبة الى باتيستا نفاها كاسترو، انه قتل اثنين في تلك الاثناء. كما روي، وهو ايضاً غير مؤكد، انه قتل ستة رجال دين في 1948 ابان الشغب الذي انفجر حينذاك في بوغوتا، عاصمة كولومبيا. المؤكد انه في اواخر الاربعينات ارتسمت ملامح سياسي شاب متطرف، قوي الاحساس بقدر منوط به شخصياً، وضعيف في ثقافته السياسية. في آذار مارس 1952 جاءت فرصته. فباتيستا على رأس الجيش اطاح الحياة السياسية والاحزاب، تاركاً لكاسترو ان يعلن ابتداء الانتفاضة: "هذا ليس وضعاً سياسياً - كما قال لاحقاً - هذا وضع ثوري". وفعلاً، وفي 23 تموز يوليو، شُن الهجوم الشهير على حصن "مونكادو" بقيادة فيديل ومعه 130 شاباً يقلّون جميعاً عن 30 عاماً لم يخضع اي منهم، بمن فيهم راؤول، لتدريب عسكري. اكثرهم كانوا خريجين جامعيين من الطبقة الوسطى انتهى هجومهم الشجاع بهزيمة مُرّة، الا أنها اعطت الثورة اللاحقة خرافتها التأسيسية. الفكرة البسيطة للهجوم قامت على مباغتة الألف جندي في الحصن وانتزاع سلاحهم منهم ثم توزيعه على الناس. عند ذاك تعمّ الثورة ويسقط النظام. لكن 68 من المهاجمين قُتلوا أو أُعدموا. ومعظم الآخرين اعتُقلوا. حظ كاسترو كان كبيراً لأن الضابط الذي قبض عليه كان انسانياً لم ينفّذ به حكم الاعدام الفوري. وفي المحكمة دافع عن نفسه بشجاعة قائلاً ان "التاريخ سيُنصفني". حظه القويّ عزز احساسه بالمصير والدور المصيري. والاحترام الذي كسبه بسبب موقفه في المحكمة جعله بطلاً تجتمع فيه الهزيمة والرومانسية، ولو انها رومانسية متمحورة حول شخصه. لكنه في السجن راجع خطته وطوّر استراتيجيته اللاحقة لحرب العصابات: قلةٌ من الرجال المسلحين في الجبال يشغلون الجيش بضربات صغيرة تستنزفه فيما يكسبون الفلاحين ويطوّعونهم في صفوفهم. هكذا يعززون جيشهم في الارياف البعيدة الى ان يصبحوا قادرين على الاطباق على عاصمة يتآكلها الخوف والتداعي. وأمكن تحويل النظرية الجديدة الى ممارسة مع اطلاق سراحه المفاجىء ونفيه الى المكسيك صيف 1955. هناك التقى بغيفارا وبدأت قصة معقدة بصداقاتها وخلافاتها. فالطبيب الارجنتيني وجد فيه القائد. والمنفي الكوبي وجد فيه النموذج المثالي المتفاني والحالم والذي يحمل، في الوقت نفسه، بضعة افكار يسارية يفتقر اليها كاسترو. لكن الاخير لم يصبح شيوعياً يومذاك فيما ظل الحزب الشيوعي الكوبي ينتقد لسنوات "نزعته المغامرة". وبعودتهم السرية الى جبال السييرا مايسترا لم يتحول مقاتلو كاسترو الى قوة ضخمة. ولولا ضعف معنويات الجيش وحالة التردي والفساد التي عاناها النظام تحت وطأة التذمر الشعبي، لكان من السهل انهاء الثورة الكاستروية. وفي المقابل ابقى القائد على معنويات رجاله عالية، وكان يقودهم بنفسه في المواجهات مع الجيش فيما يُحكم قبضته الحديدية عليهم. وعلى رغم الاوضاع الصعبة في الجبال كان احساس كاسترو بالاعلام مرهفاً ومبكراً. هكذا هرّب الصحافي الشهير في "نيويورك تايمز" هيربرت ماثيوز الى حيث هم في الأرياف وخدعه بأن قدّم له صورة مضللة عن قدرات فدائييه ومدى سيطرتهم. وفعلا كتب ماثيوز التحقيق الذي ولدت معه اسطورة فيديل. وبالتدريج تم تطبيق استراتيجية كسب الفلاحين والإطباق على المدن التي نجحت في النهاية. وفعلاً حزم باتيستا حقائبه وغادر في ليلة رأس السنة بين عامي 1958 و1959. بين أميركا وروسيا لكن الدخول الظافر للملتحين الى هافانا سريعاً ما اصطدم بالتوقعات الكبرى التي تطالب بالتحقيق. فالأحزاب المعارضة الكثيرة التي لعبت دورها في مقاومة باتيستا وهو ما انكره عليها النظام الجديد، وجدت نفسها سريعاً محبطة بالتغيير فشرعت تتآمر على النظام الثوري. الملاك الزراعيون ورجال الاعمال والطبقة الوسطى وفي عدادهم احدى شقيقات كاسترو وأمه راعتهم الاصلاحات الزراعية الراديكالية ومصادرة الاراضي بما فيها اراضي اسرة القائد الجديد نفسه. الاقتصاد، المعتمد اساسا على السكّر، بدا في ازمة عميقة. وكانت هناك الاحقاد ضد رموز عهد باتيستا الذين تولى غيفارا امرهم بمراسيم اعدام لم تتوقف الا بعد حملة دولية. ثم هناك الاميركان. فابان ثورته اخافهم كاسترو حين خطف بعض رجال اعمالهم في محاولة لتسليط الاضواء على ثورته. فحين انتصرت الثورة نزلت بكثيرين من الاميركان المالكين في الجزيرة ضربات التأميم الموجعة. هكذا بدا سهلا على واشنطن، في عز الحرب الباردة، النظر اليه كخطر شيوعي على بابها. وبدأت خطط رعتها ال"سي. آي. إي" بلغت ذروتها مع غزو خليج الخنازير في 1961. فحين فشل الغزو بدأ العمل بسياسة الحصار الذي ضاعف فقر الجزيرة وزكّى الخيارات القمعية للنظام الجديد. اهم من هذا كان الانعطاف نحو موسكو بتشجيع غيفارا وراؤول والحزب الشيوعي المحلي الذي انتقل الى تأييد الثورة. وفي 1962 اقيمت قاعدة صواريخ سوفياتية في الجزيرة كادت تفضي الى مواجهة نووية لولا اضطرار موسكو وهافانا الى تفكيكها. واستمر السوفيات يعيلون الاقتصاد الكوبي مقدمين له النفط وموفّرين الاسواق لانتاجه من السكّر. لكن بينما تكيّف فيديل مع معطيات الدولة أحس غيفارا باخفاق نموذجه الثوري واستاء من "سَفْيَتته" المتعاظمة فهجر الى جبهة جديدة في بوليفيا. وفيما تعززت صورة كاسترو في العالم الثالث، كقائد للتحرر الوطني يتحدى اميركا، تعززت صورة كوبا كدولة حزب واحد: دولة في كل مكان. تسيطر على الإعلام والنقابات والجامعات والقوات المسلحة والتجارة. احزاب المعارضة ممنوعة. والصحافة الاجنبية العاملة فيها تخضع لرقابة صارمة. الا انها حققت انجازات مهمة ايضاً ابرزها في مجالات التعليم والتطبيب وتوزيع الاراضي. بيد ان انهيار الاتحاد السوفياتي وتوقف الدعم في 1989-1990 وضع كاسترو امام خيارات مُرّة. هكذا فُتحت هافانا الاشتراكية لتداول الدولار وللسياحة، كما فُتحت للكوبيين المنفيين والمعارضين المقيمين في ميامي. واذا قال بعضهم ان هذا "الحل" وفّر لكاسترو خلاصاً يشبه خلاصه من الموت بعد العودة من المكسيك وبعد هجوم المونكادا، فان غيرهم رأى انها نهاية نظامه: اذ كيف يستمر نظام هو في مكان واقتصاده في مكان آخر؟ والسؤال اليوم، مع بلوغ فيديل ال75 وترديه الصحي، هو: هل يرثه شقيقه راؤول، نائبه الاول وباني الجيش؟ ام ان الشقيقين ومعهما الثورة في طريقهم الى العتم؟