حين وصلت الثورة الكوبية، عام 1959، من جبال سييرا مايسترا الى مدينة هافانا، حطّت في فندق هيلتون. وقد استقطعت لنفسها الجناح الرقم 2324 لتجعله مقر قيادة الثورة طوال أيام. وأنا، قضت الظروف أن أنزل في الفندق نفسه وأن أُعطى الغرفة الرقم 2325. لكن الثورة، في فورة حماستها الأولى، وفي عز التعبئة ضد السياحة ورموزها، لا سيما الأميركي منها، أسمت الفندق "هافانا المحررة". صحيحٌ أن تغييرات كهذه لم تمتد الى الشوارع التي تحمل أسماء قديسين كاثوليك. لكن كوبا برمتها، خصوصاً العاصمة، أُخضعت لتغيير هيولي يصعب من دونه تفسير حكم كاسترو واخفاقاته. فالنظام الشيوعي أخرج الجزيرة من نطاقها الأميركي الأوسط والأميركي الشمالي ليربطها بالاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، البعيدتين لكنْ أيضاً الغريبتين عن تقاليدها. وهذا، معطوفاً على طبيعته السياسية والاقتصادية، جعل النظام المذكور ينطوي على قدر من التضادّ مع الطبيعة والطبيعي. والحال ان كوبا كانت دائماً وحدة سياسية تابعة لطرف اجنبي، أميركي أو أوروبي، إذ لم يسعفها حجمها وموقعها وقدراتها في طرح مهمات عظمى على نفسها. فمنذ اكتشافها في القرن الخامس عشر وحتى 1898 ظلت مستعمرة اسبانية لم يقطعها الا احتلال انكليزي طفيف وعابر. ورغم سوء الحكم الاسباني لم يقاتله الكوبيون طلباً للاستقلال، الا بعد عقود على نيل شعوب لاتينية اخرى استقلالها. وحين قاتلوه فان سكان الشرق هم الذين فعلوا لا أهل العاصمة. فعندما اقيمت في 1902 جمهورية كوبا الحرة، غدت البلاد معتمدة كليا على اميركا. وهذا الواقع الذي استمر حتى 1959 تجلوه خصوصاً مدينة هافانا بوصفها الميناء الاساسي والحاضرة الاكبر على الكاريبي. وبالمعنى هذا، اكتسب أبناؤها صورتهم التقليدية كشعب محبّ للحياة والخفّة والموسيقى. ودائماً كان هذا التبايُن مصدراً لنكات وتعليقات شعبية تدور حول ايديولوجية النظام والدعوات الى الاقتصاد الانتاجي والى الصراع والنضال: "فحتى لو كنا شعباً من المصارعين والملاكمين - كما قال لي كوبي - كان حرياً بنا أن نتعب". وبقي كاسترو وخطاباته الطويلة، لا سيما حضّها على العمل والانتاج، موضوعاً ثابتاً للدعابة. فذاعت عالمياً النكتة القائلة انه هتف مرةً بالجماهير: "تراباخو سي سامبا نو"، أي: نعم للعمل لا لرقصة سامبا. الا ان سامعيه جعلوا يتمايلون بأجسامهم على ايقاع راقص مرددين: "تراباخو سي سامبا نو". واغراء أميركا حاضر دائماً في هذا المزاج الساخر. ومعه اعتراض على التأويل الرسمي الشائع للعلاقة مع الجار الشمالي، من دون ان ينطوي الاعتراض على اية موافقة على الحصار والمقاطعة. فبتر كوبا عن اميركا هو ما يرفضه الكوبيون الأعرف بتاريخهم، مثلما يرفضون العلاقة التي نُسجت مع الاتحاد السوفياتي الذي يسمّونه، بكثير من الهزء، "الشقيق". ذاك ان الحركة الاستقلالية والتنويرية في كوبا لم تنفصل أبداً عن العلاقة بالشمال، حتى ليلوح ان الثورة هي بنت التقليد الريفي والاسباني في مقابل التقليد الآخر الذي عرفته الجزيرة، اي الانكلو ساكسوني المديني المتأرجح بين الدستورية والسياحية. ففي اواسط القرن التاسع عشر بلغ الأمر ببارونات السكّر المعادين للاسبان المطالبة بإلحاق بلادهم بالولاياتالمتحدة. اما حرب العشر سنوات الاستقلالية 1868-1978 ضد الاسبان، فكانت تجد تأييدها ودعمها في واشنطن. بعد ذاك انتقل العمل الوطني، ولمرة وحيدة، من "شعب الشرق" الى ابن هافانا، الخطيب والشاعر والصحافي جوزيه مارتي. فقاد الاخير الانتفاضة البادئة في 1895 بعدما عاش معظم حياته في فلوريدا منفياً. وبمقتل مارتي خلال مراحل الصراع الاولى، تورّطت الولاياتالمتحدة في الحرب مع اسبانيا، وصولاً الى حادث ميناء هافانا الشهير في 15 شباط فبراير 1898 حيث فُجّرت البارجة الحربية الاميركية "ماين" وانتقل الجنود الاميركان في نهاية العام لاحتلال العاصمة الكوبية. وانما خلال الاحتلال الاميركي 1898-1902 اقيمت المجارير وتمت العناية بالأوضاع الصحية لأهل المدينة ممن كانت الامراض والاوبئة قد فتكت بهم. وآثار هذه العلاقة لا يزال يرمز اليها مبنى الكابيتول الذي اقيم في العشرينات على غرار الكابيتول هيل، ليكون مقر رئاسة الجمهورية ثم البرلمان. بيد ان اهم وافخم شوارع هافانا لا يزال يحمل اسم "الجادة الخامسة" تيمّناً بمثاله النيويوركي، فيما سجائر كوبا الأهم تحمل اسم "هوليوود". والآن لا تخفي وجوه واجسام الكثيرين من شبيبة كوبا هذا التوق الى ما هو اميركي في الشكل والملبس، وفي الموسيقى التي انتجَ الكثيرَ منها كوبيون واميركان اوسطيون. وبدوره يلحّ القرب الجغرافي عن ميامي 90 ميلاً، والقدرة التي وفّرها الانفتاح السياحي على حياة المهاجرين وانفاقهم، على تحريك الهوى الاميركي المسكون بالدولار لدى عامة الكوبيين. لكن "عقلية الكاريبي"، كما يود البعض وصفها، ليست مجرد سعي الى الحياة الرخوة، او الى التمثّل البسيط بالنموذج الاميركي. فابناء الجزيرة الاكبر سناً لا ينسون ان بلادهم كان لها سهم، ولو متواضع، في الحياة الديموقراطية قبل باتيستا. ذاك انه خلال ثلث القرن الذي سبق كاسترو عرفت البلاد اربعة قادة اثنان منهم كانا دستوريين واثنان ديكتاتوريين: ففي مقابل جيراردو ماشادو 1924-1933 وفولجينسيو باتيستا 1934-1944 ثم 1952-1959، انتُخب وحكم ديموقراطياً كلٌ من فرامون سان مارتين 1944-1948 وكارلوس بريو سوكارّاس 1948-1952. وحتى باتيستا نفسه اضطُر، في 1940، الى اعلان ولائه لدستور ديموقراطي وتعددي ما لبث ان انقلب عليه. وهذا ما يفسّر ان كثيرين من السياسيين المعتدلين تعاطفوا لاحقاً مع حركة كاسترو المسلحة تبعاً لتعهده التزام الدستور نفسه وهو، بالطبع، ما لم يحصل. ونتيجةً لهذا جميعاً أرسي الأساس المضاد للطبيعة كيما ينهض عليه نظام قسري تعريفاً. هكذا تنهّد احد الكوبيين قائلاً: "هل تستطيع ان تتخيل اننا محرومون من متعة بسيطة جداً وعادية جداً في بقاع الارض هي: قراءة الجريدة صباحاً فيما نحتسي القهوة، أو متابعة التلفزيون مساءً ونحن نحيي سهرتنا!". ذاك ان القناتين التلفزيونيتين الكوبيتين تخصصان الساعات الطويلة للزعيم ونشاطاته، فيما الجريدة الوطنية الوحيدة هي "غرانما" التي تفرد الصفحات لخطبه واخبار مسؤولي الحزب والدولة وتقاريرهما. و"غرانما" التي أسست في 1966، ومعناها الجَدَّة، اكتسبت اسمها من اسم السفينة التي أقلّت كاسترو ورفاقه ال86 من المكسيك الى كوبا عام 1956. لكن من التبسيط القول ان هؤلاء الأخيرين اقاموا نظاماً كامل المجافاة لتقاليد بلدهم ومعطياته، لا سيما الريفي منها. وهذا ما يجعل الكلام على بُعد واحد للحياة والمشاعر الكوبية ضرباً من التبسيط. ففي تأثّر ضمني ب"الثالوث" و"العائلة المقدسة" الكاثوليكيين، توحي صور النظام واشاراته بأن كاسترو يتوسّط عائلة أبوها جوزيه مارتي، والأخ الأصغر فيها الذي هو شهيدها تشي غيفارا، فيما الابن هو إليان غونزاليز. وأحياناً ينضاف كاميلو الى غيفارا كأخ ثان صغير وشهيد. والمذكور كان القائد الثاني للثورة، قضى في آخر مراحلها وظهر من يتهم كاسترو بمصرعه! أبعد من هذا أن فيديل، على عكس قادة اوروبا الشرقية والوسطى، له جاذبيته وكاريزماه وقدرته على تجميع الحشود واثارتها، وله "شرعية" الثورة. ثم ان بلده قياساً بمعظم اميركا الوسطى ليست اسوأ حالا بكثير. وربما كانت، في بعض الجوانب، كالتعليم والطبابة ووضع المرأة، أفضل. وفي الحساب الاخير فان العزلة، اذا ما استثنينا هافانا - المرفأ والمدينة الكوزموبوليتية سابقاً، ليس لها الوقع نفسه على... جزيرة. والزعيم الكوبي، بالتالي، وعلى صعوبة القياس في ظل نظامه المغلق، زعيم شعبي. فهو ليس ضابطاً تافهاً مثل مغامرين كثيرين في اميركا اللاتينية استولوا على السلطة. فكاسترو الطالب قاتل واشتبك بقوى الأمن والجيش، وهاجم حصن المونكادا وسُجن عامين ثم نفي الى المكسيك التي عاد منها ليصعد الى جبال السييرا مايسترا ويمضي عامين آخرين في شن حرب العصابات حتى اجبار باتيستا على الرحيل. وهو مذّاك ترك، مثل كثيرين من الزعماء التوتاليتاريين، قدراً غير محدود من الآراء في ما خص الثورة وحرب العصابات والدين والعائلة وغير ذلك. وفي الموازاة لم يكن عدوّه، وهو في السلطة، اقل من الجار الجبار الولاياتالمتحدة. الا انه، في هذه الغضون، انجز تحولات فعلية على جبهات التعليم والطبابة والمرأة، كما سبقت الاشارة، ولو بقيت موضع شك وطعن كثيرين. واكمل كاسترو صورته هذه بتطوير ماركسية كوبية حمل تاريخُها خلافات كثيرة مع السوفيات، فيما لم يحضر فيها ماركس وانغلز ولينين مرةً الا ليظهر مارتي وغيفارا الف مرة. حتى اذا ما انهار الاتحاد السوفياتي جعل كاسترو يتحدث عن نجاح النموذجين الصيني والفيتنامي من دون ان تجمعه بهما اية علاقة التحاق كالتي ربطته قبلاً بموسكو. وانضافت الصورة الخارجية للزعيم الى صورته الداخلية. فهو لم يجذب اليساريين وحدهم، السوفياتيي الهوى منهم والمناهضين للسوفيات، بل انجذب اليه أيضاً القوميون والوطنيون والعالمثالثيون وكارهو الولاياتالمتحدة على انواعهم ولتعدد اسبابهم. وفي هذا المعنى يحلو لبعض معارضيه أن يجدوا له الأعذار التخفيفية. فالبروفيسور المنشق غبريال كاليفورّا، وهو سجين سابق، يروي قصة الخلاف مع الولاياتالمتحدة على النحو الآتي: "صحيح ان الثورة بدأت العداء من خلال تأميم الملكيات الاميركية عبر الاصلاح الزراعي الراديكالي. لكن هذا الاصلاح كان لا بد من حصوله لأن اوضاع الفلاحين كانت مزرية جداً، فيما كان الاميركيون يملكون الكثير الكثير. وصحيح اننا انتهينا الى نظام ديكتاتوري الا ان الثورة انشأت مدرسة ومستوصفاً لكل قرية حتى لو كانت في اقصى نقطة من البلد". وفي مطلق الحالات، فمعاداة الولاياتالمتحدة تخاطب هواجس وحساسيات عدة، حتى لدى البعض ممن لا يكتمون رغباتهم الاميركية. فالى المشاعر الطفلية وربما المراهقة المتأخرة التي تثيرها معاني التحدي والمشاغبة والصمود، تحرّك الثورة اعتزازاً بالكرامة والعدالة حيال الكبير والقوي. ومن دون كلل تعمل الحكومة على تجييش هذه الاحاسيس وتعبئتها. فمثلاً، في "متحف الثورة" الذي كان قبلاً قصر باتيستا، كُتب تحت صورة الأسرى الكوبيين والاميركان اثر غزوة خليج الخنازير: "هذه المرة الأولى في تاريخها تدفع الولاياتالمتحدة فدية حرب". فكيف حين يصار الى توكيد فكرة الخصومة مع قوى لا تثير كبير تقدير وثقة، كالسي. آي. إي او كوبيي ميامي؟ ويأخذ النزوع هذا بُعداً كيتشياً هو الآخر مع بناء تمثال لجوزيه مارتي وهو يحمل طفلا يُفترض انه اليان غونزاليس، بينما يشير بيده اتهاماً الى مكتب تمثيل المصالح الأميركية. وتشيع في طول الجزيرة وعرضها قصة مفبركة مفادها ان والد اليان، الذي اعطي فعلا ميدالية "أب الثورة"، عرضت عليه اميركا عشرة ملايين دولار فرفض البقاء هناك!. وهذه العناصر المتضادة في الاستجابة الجمعية للكوبيين تترك بصماتها على نظرتهم الى كاسترو الذي كثيراً ما تختلط معارضته بمبداعبته. فمع لحيته وسيجاره ثم توقّفه عن التدخين، ثمة عناصر قصة ولعب وممازحة لم توفّرها العلاقة ببريجنيف او تشاوتشيسكو او كيم ايل سونغ. والشيء نفسه يمكن قوله في صدد الخطب الطويلة على مدى 42 عاماً: "اذ هل رأيت - كما سألني احد الكوبيين المتذمّرين - علاقة دامت 42 عاماً بين رجل وامرأة وحافظت على عاطفيتها؟". فالمعارضون لا يبدون رغبات انتقامية ودموية يتخوّفون من مثلها اذ تبدر عن المنفيين. ولم يفت أحدَهم في ذروة حماسته النقدية أن يستشهد باقتراح ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية كحلّ معقول لمعاناة بلده: أن تعطيه الولاياتالمتحدة تأشيرة دخول، وبهذا يذهب هو بدلا من ذاك النزف المتواصل للشعب الكوبي. ومن جهته يقدم كاسترو، وباستمرار، مواداً للعب والمزاح مع المعارضين اذ يتحايل على الجديّ تحايُل العجوز الخبيث. فهو الذي عبّر مراراً عن كراهته فكرة الانتخابات "كتنافس بين اشخاص"، برر عدم تخليه عن السلطة، وهو ابن ال74 عاماً، بأن الثوري لا يتقاعد. ورأى مرة اخرى، في ردّ ضمني على المؤمنين، ان انتخابه كانتخاب البابا يحصل مرة واحدة. لكن اكثر ما يُضحك ويخفف الحدّة تأكيداته المبالغة، على الطريقة اللاتينية، بأن كوبا "اكثر بلدان العالم ديموقراطية"، وليس مجرد واحدة منها. ويتخذ اللعب أحياناً شكلاً مختلفاً: فقد روى لي أحد الكوبيين كيف قمعت السلطة مظاهرة صغرى كانت تتهيأ للانطلاق عام 1994، بأن حشدت في المكان نفسه أنصارها ومحازبيها وموظفيها بأعداد ضخمة. هكذا أحسّ المتظاهرون الذين عُرف أمرهم قبل ان يستكملوا استعداداتهم، أن ما سيأتونه سيبدو هزيلاً جداً فتراجعوا وبددوا أنفسهم. والحال أن الأسماء التي يُسبغها الكوبيون على زعيمهم تدلّ الى مزيج شيطاني يجمع الرهبة والطرد الى الدعابة. فهو، فضلاً عن كونه "الكومندانتي"، "القائد الماكسيموم" el lider maximo و"ال"هو" el بما يتفاوت بين التعظيم والسخرية، و"الشيطان الأحمر" el diablo rojo، و"البربري" el barbaro، و"الفصل الأخير" el ultimo capitulo، و"الخيط الفاصل" أو في الاستخدام الشعبي "قبّاض الأرواح" terminador. الا انه، في الغالب العلني، "فيديل" فحسب. هذا كله لا يلغي ان الزعيم الكوبي قضى في السلطة قرابة ضعف مدة بابوية البابا، "حتى قارب عهد الشيطان" بحسب احد التعابير الكوبية. فنحن، بعد كل حساب، حيال أطول زعماء العالم الجمهوريين حكماً، وأحد آخر بقايا أنظمة الحزب الواحد القليلة. واذا عرفت المكسيك المجاورة، مثلا، نظاماً دام عقوداً ثمانية الا ان وجوه الرؤساء تبدلت كثيراً. ثم ان كاسترو رئيس الدولة والحكومة والأمين العام للحزب، فيما أخوه راؤول وزير الدفاع والقائد الاعلى للقوات المسلحة. ولا يُخفي بعض الكوبيين اهتمامهم بتجربة فرانكو في اسبانيا من زاوية تأمينه البديل الدستوري، كأنهم يتمنّون انتهاء الكارثة بوفاة الديكتاتور. مع ذلك فالمواصفات السابقة ترسم، بتضاربها، لوحة عن توتاليتارية خاصة ربما جاز وصفها بالكاريبية. فكاسترو، بادىء ذي بدء، لا يحتل الحيّز العام بصوره، وإن كان شديد الوطأة على التلفزيون. صحيح ان شعاراته وعباراته في كل مكان، الا ان الصور تقتصر على المؤسسات العامة بما فيها الفنادق والمراكز السياحية. أما القمع فمسألة اشد تعقيداً منها في البلدان السوفياتية سابقاً. فقد شاهدت معارضين اعتُقلا: واحدهما لأشهر قليلة وصفها بأنها امتلأت بالتحقيقات التي اتخذت شكل النقاش، فيما خلت من كل أثر للتعذيب. والثاني لفترات متقطعة بما أدى الى تحطيمه نفسياً. وقد عوقب المذكور على الطريقة الصينية بأن أُرسل طويلاً الى الريف للعمل في الزراعة وجمع الثمار عن الشجر. كما مُنع من مزاولة اختصاصه ولا يزال. ورغم القسوة الفادحة هذه لم يُضرب الرجل أو يُعتدَ عليه جسدياً. وتبعاً لوصف أحدهم: "كل شيء ممنوع في كوبا وكل شيء مسموح". فظاهرياً لا يبدو للأمن حضور كثيف. ويُستبعد تماماً أن تحضر الأجهزة في البيوت عن طريق الابناء "الجواسيس"، على ما كانت الحال في المانياالشرقية وعلى ما هي عليه في العراق، وإن كانت مدارسهم تلقّنهم دروساً في العقيدة. كذلك تتسع الامكنة التي يمكن فيها الانتقاد والتحدث ضمن حلقة ضيقة او سهرة بيتية ساهروها معروفون. وبعض هذا يمكن لمسه في الحياة اليومية منذ هبوط الطائرة في مطار جوزيه مارتي. فالأمر يكاد يكون عادياً الا لمن افتقر الى حجز مسبق أو الى عنوان في كوبا. فما من اجراءات استثنائية ملحوظة، فيما المطار الزجاجي الذي يعكس الخارج، ويعجّ بالالوان واعلام الدول، يطرد مشاعر الخوف البوليسي. وفي الفندق ليس على الزائر ان يسلّم جواز سفره. وعلى عكس الاتحاد السوفياتي وبلدان حلف وارسو سابقاً، يمكن المرء ان يتجول حيث يشاء، وهو غير مطالَب بأن يُخبر أين يكون، وأين قضى ويقضي وقته. الا ان الرخاوة الظاهرية للأمن نسبية جداً. والناشطون السياسيون هم الأعرف بأن ما كل ما يلمع ذهب. فالاضبارات، في غضون ذلك، تتجمّع يوفّرها رجال الاستخبارات ولجان الدفاع عن الثورة المبثوثة في كل حيّ. وهذه الاضبارات كلما تزايدت تزايدت المساءلات والمسؤوليات وصولاً الى السجن المفتوح الذي لا تُعرف له نهاية. ويُضطرّ النظام الآن، بعد الانفتاح السياحي، الى غض النظر عن نشاطات تقوم بها مجموعات حقوق الانسان، واحياناً عن تمويلها من جماعات مماثلة في الغرب بما في ذلك الولاياتالمتحدة. الا ان "منظمة العفو الدولية" تقول ان في الجزيرة 600 سجين سياسي، وهذا اعلى رقم في العالم قياساً بعدد السكان البالغ 5،11 مليون نسمة. ويبقى التهديد بالطرد من العمل سيفاً مسلّطاً على رؤوس المعارضين، وهي تسمية مطّاطة واعتباطية. كما سبق للحكومة، في 1992، ان انشأت "فيالق العمل السريع" لمساعدة الأمن والميليشيات التابعة لها في عدّ أنفاس "الناس الخطرين". وقد شهدت التسعينات، فيما الازمة الاقتصادية في أوجها، هجمات على بيوت المعارضين من قبل رعاع نظّمتهم الحكومة ودفعت بهم الى تلك الاعتداءات. واكثر من يتخوّف من هؤلاء المثليون الجنسيون الذين سبق للحكومة ان طردتهم من وظائفهم واخضعتهم طويلا لمعسكرات اجبارية. ثم ان البلد الصغير الذي يملك ثالث جيش في اميركا اللاتينية عدداً، والاول قياساً الى عدد السكان، يواجه بشكيمة عسكرية دخول الكومبيوتر والانترنت والتليفون النقّال. فهذه كلها ممنوعة لا تحظى بها الا المؤسسات الرسمية. وحتى في هذه الاخيرة يقتصر الاستخدام، الا لشخص او شخصين في المؤسسة الواحدة، على البريد الاليكتروني وحده. لكن هذه المواد غدت متداولة كثيراً في السوق السوداء تبعاً للتجارات غير القانونية التي يمارسها بعض الموظفين الحزبيين. فالحزب لم يعد تلك الكتلة النقية المتراصّة التي كانها في الستينات. وفضلاً عن الفساد الضارب اطنابه، بدأ الكثيرون ينسحبون ويتراجعون، او يتحدثون عن ضرورة التعددية داخل جسم يقول الرقم الرسمي انه يضم نصف مليون شيوعي. غير انه، مع هذا، لا يعترف مطلقا بالاجنحة والتيارات. ف"كرامة الحزب صارت في الوحل"، كما قالت مناضلة سابقة. وعلى العموم، تبدو "الكرامة" التي جعلتها الثورة الكوبية احد مبرراتها متعبة اليوم وواهنة. فالسياحة ومعها التسوّل ينخران روح "التمساح النائم"، وهو الوصف الذي اعطاه المستكشفون القدامى لشكل الجزيرة الكوبية. فهل يفيق هذا التمساح ذات مرة، وكيف يفيق؟