يصعب اليوم في روسيا تجاهل الملامح القديمة للمرحلة السوفياتية. انها ملامح ذات اثر قوي سواء في العمران او في شكل الحياة ومساره، مع هذا يبقى حضور المرحلة السوفياتية يشبه حضور النصب التذكارية وسط هذا الكم الهائل من مظاهر التغيرات الحديثة والباذخة في احيان كثيرة. كل سنة يتم الاحتفال بذكرى الثورة الشيوعية، المناسبة الأبرز التي يشعر فيها الشيوعيون القدامى ان الزمن عاد بهم الى الوراء فيخرجون الى الشوارع هاتفين لرموزهم التي بات يختلف الروس عليها. في ميدان الكرملين تدور احتفالات بالذكرى وكأنها خارج الزمن الحالي للبلاد، وموسكو التي احتضنت مبادئ الثورة ونثرتها في دول العالم هي نفسها تبدو غريبة عن الكثير من المظاهر الشيوعية بعدما بدلت المدينة شكلها واسلوب حياتها. وحدهم المحتفلون بالشيوعية، ذكرى وعقيدة ما زالوا اسرى الازمنة القديمة والتحولات التي تمر بقربهم مسرعة لم تزدهم إلا عزلة فباتوا خارج النموذج الجديد لروسيا. مناسبات وساعات يستذكرون فيها ماضيهم وسط المتفرجين على جوانب الطرقات، الذين يبدو على معظمهم انه يتابع فولكلوراً مملاً ولى زمنه. وبعد الاحتفال ينكفئ الثوار القدامى والحالمون بعودة الشيوعية وتنبعث الحياة ناشطة وساعية الى الانعتاق من ثقل الثورات والشعارات الكبرى التي سادت لأكثر من سبعين عاماً. فروسيا التي دفعتها التغيرات السياسية الى الانفتاح فجأة على العالم اصبحت سوقاً استهلاكية كبرى تتنافس عليها كبرى الشركات العالمية. نتاليا سيدة اعمال شابة وجميلة في اواسط الثلاثينات. حققت نجاحاً في حقل الاعلانات وتطور عملها في السنوات التسع الاخيرة. والدها كان موظفاً في جهاز الاستخبارات الروسي "كي. جي. بي" ساعدها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في تأسيس شركة اعلانات كما دعمها زوجها الذي يملك مصنعاً بيع الى القطاع الخاص في السنوات الماضية. نتاليا باتت جزءاً من طبقة حديثة في روسيا، فهي تملك شركة بمواصفات عصرية في الشكل والأداء وتتعامل مع زبائن معظمهم ألمان. تملك سيارة مرسيدس حديثة في مظهرها اناقة سيدات الاعمال الغربية. تقول نتاليا: "الذين نجحوا في السنوات التسع الماضية يمكنهم ان يستمروا في النجاح فهي كانت سنوات صعبة وتخللتها ازمات مختلفة والاوضاع لم تكن مفهومة كما ان الخبرة في عمل السوق والعلاقات مع الزبائن كانت محدودة، وحتى اليوم ما زال انجاز الاعمال صعباً في روسيا". السؤال عن العقائد الشيوعية القديمة فاجأ نتاليا فبدت وكأنها بحاجة لأن تفكر لتتذكر شيئاً عن تلك المرحلة: "العقائد القديمة؟؟ لا! لا اعرف شيئاً عنها اليوم. الجميع بات يؤمن بما يحدث من تغيرات في روسيا وقليلون هم الذين ما زالوا يؤمنون بأن الشيوعية شيء عظيم. انا لم اصادف احداً آسف لسقوط النظام الشيوعي. والدي كان عضواً في الحزب لكنه ليس كذلك الآن وهو ليس بحزين ابداً لأنه انهى دوره هذا. كان مجبراً بسبب ضرورات العمل فقد كان عليه ان يكون شيوعياً فحسب. أعلن ان هناك بعض الروايات عن الدور الاول للمال الاول في روسيا الحديثة وان هناك من تلقى المال من الحزب الشيوعي. لا ادري! ما اعرفه انه بعد السنوات العشر هذه كل شيء تغير". بالنسبة الى ميخائيل بتروفسكي المؤرخ ومدير متحف "ارميتاج" فإن المجتمع الروسي في السنوات الاخيرة لم يعد يتذكر ولا يفكر جيداً في الماضي وأصبح مجتمعاً مقطوعاً عن ماضيه بدرجة كبيرة: "غالبية الجيل الشاب لا تعرف ما هي الشيوعية ولا تفهمها. عشر سنوات فترة طويلة والشباب العاملون في الشركات والاعمال لا إدراك عندهم لما خلفته الشيوعية، فهم لا يعرفون سوى المال". حكايات بطرسبورغ في قلب مدينة سانت بطرسبورغ أو ليننغراد سابقاً يقع حي "ليغوفكا"، حي قديم وشهير يعود الى القرن التاسع عشر. أبنية جميلة يعود عمرها الى اكثر من قرنين ميزت دائماً مدينة بطرسبورغ. هذه الاحياء تطوق ازقة فقيرة كثيرة وكأنها تخفيها لكن ما ان يتم الدخول الى هذه الاحياء حتى يتبدى عالم آخر لا يشبه ما توحي به الابنية الراقية. في هذا الحي عاش الروائي الروسي ثيودور ديستويوفسكي فترة طويلة من حياته وتحول منزله العتيق فيه الى متحف. كان حياً نموذجياً عاشت فيه شخصيات اساسية من رواياته، ويعتبر ان حي "ليغوفكا" يختصر روح المدينة وينضح بالحياة الحقيقية. خلال الحقبة السوفياتية اقام في هذا الحي عمال المصانع التي بنيت في المناطق المحيطة. لكن هذه الاحياء اصبحت مرتعاً للعصابات منذ ما قبل الثورة الشيوعية. في التسعينات وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ازداد بؤس الاحياء الداخلية وفقر سكانها، ومعه تضاعف خطر العصابات. السكان في هذه الازقة سريعو الحركة في الذهاب والاياب. الحذر يغلب دائماً حركاتهم والتفاتاتهم. وبالكاد يلاحظ اي اكتظاظ في الشوارع الداخلية على رغم كثافة الابنية. الغريب عن الحي هو موضع ارتياب وغير مرحب به، لكن ناديا الخمسينية كانت ربما الاكثر ارتياحاً وقبولاً لغرباء يشعرون بالتردد والحرج ازاء حذر السكان. ناديا كانت تتأبط ذراع امها في طريق العودة الى المنزل بعد ان انهت عملها كحارسة لأحد المباني. كانت تسير بشكل طبيعي وسط زواريب صغيرة لتصل الى المنزل من دون ان تلتفت الى الشعارات المعادية للشيوعية على الجدران المؤدية الى منزلها. تقول ناديا "خلال الحقبة الشيوعية كانت الحياة في هذه الاحياء اكثر هدوءاً، اما الآن فيمكن اغتيالك بسبب قرط ذهبي بسيط في أذنك. ربما حينها كان هناك مال اكثر او طعام اكثر مع الناس من أمثالنا ولم يكن هناك مشردون اما الآن فالمشردون كثر. حالياً لدينا فعلاً الكثير من العصابات ربما اعضاؤها من رجال الاعمال الجدد، انا اخاف على حياتي هنا". تتحدث ناديا بمرح عن خوفها على حياتها كان هذا الامر بات وعلى كثرة ترداده امراً عادياً. "بالطبع انا اشعر بالغضب لأننا فقدنا الهدوء والاجواء الخاصة التي كانت هنا خلال العهد السوفياتي، يومها كنا نخرج في اي وقت من اوقات النهار اما الآن فنحن نركض مسرعين كي نعود قبل العاشرة مساء. طول الطريق نشعر ان احداً يراقبنا". تعيش ناديا المطلقة مع أمها وابنتها في غرفة في منزل تتشارك فيه عائلات عدة منذ عهد الشيوعية. تروي ناديا كيف كانت بدايات حياتها في رياض اطفال الحزب الشيوعي التي اجبرها اهلها على الانضمام اليه كما اجبرت على الانضمام الى شبيبة الحزب لكنها لم تكن تشارك الشيوعيين افكارهم "انا لم اكن شيوعية حقاً وزوجي لم يكن شيوعياً بل كان شخصاً عادياً ولم يشأ يوماً الانضمام للحزب. كان هدفنا ان نعيش، وعشنا فعلاً فقراء، وكي نستمر كنا نسرق بطاريات السيارات ونبيعها. في تلك المرحلة لم نعان كما غيرنا من القمع والاعتقالات لأننا كنا وضيعين فلم نكن نعني شيئاً لجهاز "كي. جي. بي". كنا نعمل ونعطي المال للنظام الشيوعي ولا شيء آخر، فقد كنا نحيا الحياة كما هي". روسيا والعالم الجديد ناديا وكثيرون غيرها يعيشون على هامش الحياة المستجدة في روسيا، حياة المال والاعمال والحرية المستحدثة وعالم العصابات والمافيا، تعابير باتت تتداخل مع المستويات الاخرى للحياة. بتروفسكي يرى ان "حياة المافيا والعصابات جزء من حياة تتطور دائماً في روسيا كما في العالم وهي امور تتفاقم اذا لم تحد الدولة منها، اما هذه الطبقة الحديثة في روسيا فقد بات معروفاً ان اعضاءها ممن استفادوا من الانهيار الشيوعي، ففي السابق كان جزء كبير من المجتمع يعيش بأسلوب رأسمالي داخل الشيوعية واليوم باتت المافيا هي الطبقة الجديدة الصاعدة في روسيا". في روسيا التسعينات بات العمل غير الشرعي والجريمة لا يشكلان خطراً على النظام لأنهما ببساطة جزء منه. ازدادت الاسواق غير الشرعية ومعها تنامى ضعف الدولة او عدم رغبتها في خلق ظروف لنشاط اقتصادي سليم وغدت المافيا الروسية في سنوات قليلة الاقوى والأشرس بين مافيات العالم. وقدرت وزارة الداخلية ان الجريمة المنظمة باتت تتحكم بحوالي 85 في المئة من المصارف التجارية و60 في المئة من مشاريع القطاع العام و40 في المئة من الشركات الروسية الخاصة. السنوات العشر الاخيرة التي عملت فيها نتاليا في مجال الاعمال لم تكن سهلة، فهي عاشت مرحلة تدخل العصابات في اي مشروع تجاري. "كان موضوع العصابات او لنقل المافيا، اكبر مشكلة تواجه من يريد ان ينجز اعمالاً تجارية في بداية مرحلة البيروتسرويكا وربما قبل العام 1987. في تلك المرحلة كانت العصابات تأخذ اموالاً ممن يحاول البيع في الشارع وبعدها حين بدأت الاعمال الجدية الكبرى وبات الوضع اكثر انفتاحاً وبدأت الشركات في التطور واجه معظم اصحاب هذا القطاع مشكلة التعامل مع العصابات والمافيا اذ فرضت هذه العصابات علينا حصة لها من أرباح اعمالنا. حالياً الأمر مختلف، في السنة الماضية اسست الشركات الكبرى مؤسسات امنية خاصة بها لتوفير الأمن او لتمثيل مصالحها عند العصابات". عند الحديث عن المافيا يشير الباحثون الى حوالي 300 عائلة او مجموعة ربحت من حصيلة تجارتها بالسلاح والمخدرات والرقيق الابيض اكثر من 200 مليار دولار مودعة في مصارف غربية. الا ان تفشي ظاهرة المافيا او الجريمة المنظمة استدعى اشكالاً مختلفة من المواجهة الرسمية والاهلية. اندريه قسطنطينوف يعمل في مكتب دراسات واخبار متخصص فقط في قضايا المافيا والجريمة المنظمة بالتعاون مع الشرطة. اسس هذا المكتب في اواسط التسعينات كإحدى محاولات التقصي عن المافيا. يؤكد أندريه "ان اولى المافيات الروسية تأسست منتصف الثمانينات خلال عهد البروسترويكا وهي كانت مرادفة لليبرالية، ورجال الاعمال الأوائل كانوا الضحايا لأنهم رضخوا للمافيا واعطوها الاموال بينما لم تكن القوانين في حينها رادعة، واستفادت المافيات من القوانين ووضعت رجال الاعمال امام خيارين إما الذهاب الى الشرطة من دون نتيجة واما دفع المال وعقد الصفقات وهنا لا نتكلم عن مافيا حقيقية بل عن مجرمين، الجريمة ليست واضحة المعالم لأن الجميع يستفيد والحدود بين ادوار المافيا والعصابات ورجال الاعمال ليست واضحة حالياً. مؤسسو هذه المجموعات اوجدوا اعمالاً قانونية وخلقوا اعمالاً لهؤلاء وهذا ليس له اثر مباشر على حياة الناس العاديين لكنهم ايضاً يمارسون ضغطاً على العامة فيمكنهم اخذ مال من الناس في المناطق الفقيرة. هناك مجموعات صغيرة في الاحياء الكبرى وهناك عصابات سرقة وهناك مجموعات اثنية وهذه كلها تؤثر على الحياة اليومية للمواطنين". بالنسبة الى نتاليا فإن المال الكثير او الربح في الاعمال يعني مشكلة مع المافيا ومن الصعب التمييز بين المافيوي وغير المافيوي، فهما يكملان بعضهما البعض. وهذه الطبقة الجديدة في روسيا من رجال اعمال وأباطرة مال ونخبة حاكمة هي مثار تساؤلات كبرى لدى العامة، اذ تقع دائماً في دائرة التشكيك والاتهام. وتبدو ناديا واثقة حين تؤكد ان العصابات الناشطة اليوم ما هي إلا قيادات سابقة في الحزب الشيوعي، "بالطبع، هم اعتادوا ان يعيشوا بشكل جيد ولديهم المال والسلطة. لقد سرقوا خلال الفترة الشيوعية وما زالوا يسرقون حتى اليوم، وأنا لا اعني اولئك الذين يسرقون على الطرقات بل اعني العصابات الفعلية من الشيوعيين السابقين وهم اليوم الطبقة العليا في روسيا". تاتيانا وزميلتها ناديا مراهقتان تسكنان مع ذويهما في ليغوفكا وهما تسرعان الخطى اثناء ذهابهما الى المدرسة وتبرران ذلك بالخوف من العصابات. تقول تاتيانا "احياناً حين نعود مساء الى البيت نشعر بالخوف فقد يكون هناك من يلاحقنا من السارقين او الثملين. الناس هنا يخافون من العصابات التي يمكن ان تدخل بيوتنا وتسرق، فنحن هنا نعيش مع اهلنا اوقاتاً صعبة، فقد يأتي احد ويدعي انه يصلح الماء ثم يتضح انه من العصابات. نحن لسنا آمنين هنا أبداً فهذه اوقات عصيبة نمر بها". عشر سنوات على التاريخ الحديث لروسيا، دفعت الكثيرين الى التفاؤل ورمت بآخرين الى أدنى درجات الإحباط... المخاوف كثيرة لكن لا عودة الى الماضي، فعلى رغم قساوة الحاضر فإن صور الماضي لا تزال مرعبة. اي اشارة او تلميح الى العهد السوفياتي يثير رعب ناديا "أنا واثقة من ان كل الناس لا يريدون العودة الى تلك الايام، ايام ستالين وبريجينيف. الافضل ان نعيش في عصرنا هذا، لتكن اياماً صعبة وقاسية ولتكن حياتنا ثقيلة ومتعبة. لا بأس! انها بالتأكيد افضل من السابق. انا اصدق ما يعدوننا به وأريد ان أرى هذه الوعود تتحقق"!