لم تثر محطة فضائية عربية جدلاً واسعاً كالذي اثارته محطة "الجزيرة" الفضائية، فمنذ انطلاقتها قبل ست سنوات، أحدثت خضة في بنية الاعلام العربي المرئي، واقترحت شكلاً مغايراً ومثيراً في التعامل مع الأخبار والأحداث والسجالات السياسية والاجتماعية والثقافية. وتحظى "الجزيرة" بانتشار واسع، ما يجعلها من المحطات الاكثر تأثيراً على الرأي العام. وخلال مشاركة مدير "الجزيرة" محمد جاسم العلي في مؤتمر عن "مستقبل الاعلام العربي المستقل" في عمان، ارتفعت دعوات سياسية وحزبية ونقابية برلمانية اردنية الى مقاطعة هذه المحطة بسبب استضافتها اسرائيليين ضمن برامجها ونشراتها الاخبارية. "الوسط" التقت المدير العام لمحطة "الجزيرة" وحاورته حول عدد من القضايا الحساسة، بصراحة ومن دون مجاملات. * أليس هناك شيء من المبالغة في الرأي القائل بأن "الجزيرة" مثلت ثورة اعلامية عربية في الربع الاخير من القرن العشرين؟ - المبالغة ربما في التضخيم والتعميم، لكننا شكلنا مفترق طرق في المسار الاعلامي العربي المرئي والمسموع. يكفي ان نأخذ فترة ما قبل "الجزيرة"، وفترة ما بعد "الجزيرة". انا اعتقد ان هذه التجربة، سواء اتفقنا ام اختلفنا حولها، كانت مؤثرة. وهو ما يؤكده الراصدون والباحثون لمسار التجربة التي اثرت في واقع الاعلام العربي، واستطاعت ان ترفع سقف الحريات، وان تطلق التنافس في الاعلام العربي بدرجة كبيرة. وحثت الجهات الرسمية العربية للتحرك بدرجة كبيرة لدفع مؤسساتها للاستقلالية، حيث سمعنا عن محطات خاصة ستظهر قريباً، وعن "مناطق اعلامية" ظهرت وستظهر. وكان ل "الجزيرة" ايضاً اثر واضح على طبيعة الاخبار العربي، اذ اصبحت البرامج الاخبارية التي لم تكن تحتل موقعاً، او تشكل عامل جذب للمشاهدين، تقدم بشكل مختلف عما كانت عليه من قبل. وصار هناك اهتمام بمضمون هذه البرامج والاخبار وشكلها. * زرت عمّان للمشاركة في مؤتمر عن "استقلالية الاعلام"، في حين ان التساؤلات ما تزال مطروحة حول مقدرة محطة ك "الجزيرة" على الاستقلال والاكتفاء المالي، وهو ما جعل بعضهم ينظر بعين الريبة الى التمويل. وطرح هؤلاء جهات عدة تسهم في تمويلها من اسرائيل الى النظام العراقي مروراً بأسامة بن لادن... ما ردك على هؤلاء؟ ومن الذي يمول "الجزيرة"؟ - ليس من الممكن ان تجتمع كل هذه التناقضات التي جرى الكلام عليها لتمويل "الجزيرة". من حق هؤلاء ان يقولوا ما شاؤوا، وعلينا ان نستمع اليهم ونحاورهم مهما وصلت درجة آرائهم من التطرف، ونحن دائماً مع النقد. ومع القول الشائع: "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". لدينا دراسات واسعة حول التمويل، ونحن في طريقنا مع نهاية العلم الحالي الى تحقيق الدخل المعادل، بحيث يكون الدخل الذي يأتينا متساوياً مع ما يصرف على هذه القناة. اما اولئك الذين ينظرون الى التمويل بعين الريبة والاتهام، فهم اصحاب رؤية محدودة، ينسون ان الوسائل الاعلامية تعتمد بدرجة كبيرة على الاعلانات التجارية التي تعد بالنسبة الى بعض المحطات المصدر المالي الوحيد. لكننا استطعنا ان ننمي مصادر اخرى للدخل غير الاعلانات التجارية، فلدينا مصدر تمويل مهم جداً هو صناعة الخبر، حيث استطاعت "الجزيرة" ان تشارك في صناعة الخبر مع الوكالات الغربية الاخرى، وأصبحت مصدراً لهذا الخبر. كما ان الصور المرافقة للخبر تشكل عوائد مالية مرتفعة جداً، خصوصاً ان هناك حقوقاً تطبق بشكل حازم في المحطات الغربية. وأذكر، على سبيل المثال، ان احدى المحطات الفضائية الاميركية اشترت دقيقتين من حوار أجري مع أسامة بن لادن مقابل 250 ألف دولار. فنحن في هذا المضمار نغذي المحطات الغربية، ونزودها بأخبار وصور متميزة كصور الانتفاضة، وتدمير تماثيل بوذا في أفغانستان، وكثير من الصور الملتقطة من ايران. ولدينا مصدر آخر للتمويل يتمثل في تأجير معداتنا الفنية في مناطق لا توجد فيها وكالات أجنبية، كأفغانستان وبغداد وغيرهما. ومن مصادر الدخل ايضاً اننا نبيع برامجنا مثل "نقطة ساخنة" و "سري للغاية" و "حرب لبنان"، فضلاً عن الاشتراكات في بعض الدول مثل اميركا وبعض دول اوروبا حيث القناة مشفرة. * هل تعتبر اقبال الجمهور على محطتكم، طلباً للخبر السريع والصحيح، ظاهرة ايجابية؟ ام انه يكشف تقصيراً فادحاً في الاعلام العربي؟ - التقصير مؤكد، لكن الظاهرة في حد ذاتها مؤشر ايجابي. فقد كانت محطتا ال "بي بي سي" وال "سي أن أن" تشكلان في فترة من الفترات المصدر الاساسي للمعلومات. وقد كان معظم مواطني "دول الطوق"، يستقون معلوماتهم من محطات العدو الاسرائيلي. مع "الجزيرة" عاد المواطن العربي يحصل على معلوماته السريعة والدقيقة من قناة عربية موثوق بها. علينا اليوم ان نفهم نهائياً هذه الحقيقة: مع الثورة الاعلامية، لم تعد المعلومات حكراً على هذه الجهة الرسمية او هذا النظام السياسي. كما ان "الانترنت" وفرت خدمة كبيرة لمستخدميها في هذا المضمار. بيد ان مؤتمرات عربية عدة عقدت للحيلولة دون الغزو الاعلامي، ولم تحقق اي نتيجة تذكر، بينما غدت محطتنا، وسواها من الفضائيات العربية، خير حل لمواجهة ذلك الغزو ومحاصرته والحد من آثاره. * هل فضح الاعلام الرسمي العربي كان بين أهدافكم؟ - نحن نحاول تقديم الخبر، بمعزل عن حساسيات الآخرين. هدفنا اشهار الحقيقة، ورفع المواطن العربي الى مستوى المسؤولية، وعدم الاستهانة بعقله ومخيلته... وكذلك مواكبة التطورات المتسارعة في العالم. * أثيرت حول ال "الجزيرة" اعتراضات واسعة بسبب استضافتها اسرائيليين، ضمن برامجها او نشراتها الاخبارية، خصوصاً في لحظات سياسية حرجة لا يحتمل المواطن العربي خلالها مشاهدة اسرائيلي على شاشة فضائية عربية. ما الذي يدعوكم الى هذا السلوك؟ - "الجزيرة" ليست القناة العربية الاولى التي استضافت الاسرائيليين. فلقد سبقتها محطات عربية تبث من بلدان عربية، وربما تكون خامس او سادس او سابع محطة عربية تستضيف اسرائيليين! ما دام المواطن العربي يطلع على آراء الاسرائيليين من محطات اخرى غير عربية، فالأولى بنا ان نستمع الى هؤلاء من محطاتنا. وهذا امر يعتمد على الاجتهاد لكسب الثقة، من خلال خلق سياسة اعلامية محايدة ومتوازنة ومقنعة، سواء للذين يتعاطفون معك او الذين يعارضونك. * هناك دعوات متكررة، انطلقت في الاردن وسواها، الى مقاطعة "الجزيرة" بسبب استضافتها اسرائليين واصطدامها مع ضمير الأمة ووجدانها... ألا تعتقد ان ذلك ربما يفقد محطتكم جزءاً أساسياً من رصيدها الشعبي لدى الرأي العام؟ - اعتقد ان مقاطعة "الجزيرة" أمر غير مجد. كما ان استضافة الاسرائيليين تجري من اجل الاستماع لوجهة النظر المضادة، وعلى قاعدة مهنية بحتة. وليس في ذلك ما يتعارض مع ضمير الأمة ووجدانها. * تعرضت "الجزيرة" ايضاً لمشاكل وضغوط عدة، لفتحها ملف "حرب لبنان"، او بثها حلقات عن احداث "أيلول الأسود" 1970 بين الجيش الاردني والفدائيين الفلسطينيين. ما الذي يدفعكم الى نكء الجراح بهذه الطريقة؟ ألا تخاوف ايقاظ فتن نائمة؟ - قمنا بفتح ملفات، والتصدي لقضايا، كان بعضهم يعتبرها خطاً احمر لا يجوز الاقتراب منه، بحجة ان التوقيت غير مناسب. وأرد على هؤلاء بالقول إن التوقيت لن يكون مناسباً في يوم من الايام، ولا يجوز ان يبقى سيفاً مسلطاً علينا، فإلى متى نسجل البرامج ونضعها في العلب؟ ليس المطلوب فقط تضميد الجراح، وانما تنظيف الجراح وتضميدها بعد ذلك لتشفى. وليس في ذلك محاولة لايقاظ اي فتنة او مخاطرة في ايقاظها. يجب استحضار محطات تاريخنا المعاصر ومناقشتها، لأخذ العبرة منها بغية بناء مستقبلنا السياسي والحضاري. * ألا تعتقد ان ثمة تسرعاً في بث مثل هذه البرامج، في لحظة تحتاج فيها الامة العربية لالتئام الجراح، ونسيان تمزقات الماضي وآلامه؟ - اعتقد ان هذه الملفات لو تم فتحها قبل خمس او ست سنوات، لرأيت من ينتقد بثها بذريعة ان التوقيت غير مناسب. وبعد سنوات لن يتغير الوضع كثيراً على هذا المستوى. فهل يتكرم علينا اولئك المعترضون ويرشدوننا الى التوقيت المناسب لبث البرامج الجريئة، وفتح الملفات الحساسة؟ * تبدو "الجزيرة" احياناً، من نظر بعض منتقديها، كأنها تستهدف الاثارة السهلة، وتسعى الى الجدل من اجل الجدل... من هنا السعي الدائم الى خلق استفزازات بين المتحاورين... فما السياسة او الرسالة التي تحكم مثل هذه البرامج؟ - أولاً "الجزيرة" قناة اخبارية بالدرجة الاولى. فالخط الاساسي والصدقية الاساسية يكمنان في الاخبار. اما البرامج الحوارية، فتعتمد على تناقض الآراء بين اشخاص متبايني المرجعيات والمواقف، ما يجعل المجال مفتوحاً امام الاثارة والاستفزاز. وقد حدا ذلك بأحد المتحاورين في هذه البرامج الى الانسحاب من الاستوديو احتجاجاً. علما ًان الحلقة كانت مبثوثة مباشرة على الهواء. كما رأينا الكثير من الاشتباك الكلامي، والتلاسن... ولكن في الآونة الاخيرة تراجعت هذه الظاهرة لصالح تنامي لغة الحوار والنقاش. * تطرحون الحرية كشعار أساسي، لكن بين الانتقادات الموجهة اليكم ان المحطة تلامس هذا الشعار ملامسة خفيفة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بأقطار عربية معينة ...! - لدينا حرية واسعة، وفي المقابل لدينا رقابة. لكنها رقابة مهنية بحتة. كما ان هناك قضايا لا يمكن المساس بها، لارتباطها بعقيدتنا وديننا وقوميتنا ووطننا. يقال ان صوت "الجزيرة" لم يعد كما كان في السابق، طبعاً كان هذا الصوت في العام 1996، لدى انطلاق المحطة. كان الصوت غير مألوف، وصار الآن ركناً اساسياً في المشهد الاعلامي العربي. اما في ما يتعلق بالحديث عن بعض الدول العربية. اما في ما يتعلق بالحديث عن بعض الدول العربية، فلا يوجد ما يمنعنا من اثارة القضايا التي تجري فيها. ولكن في المقابل نواجه في احيان كثيرة بأننا نطرح مسائل شائكة تحدث في بعض البلدان، ونحرص على اخذ رأي الحكومة ورأي المعارضة معاً، فتعتذر الحكومة، ويخرج صوت المعارضة... مع رأي قريب من الحكومة تبدو حجته ضعيفة. ونحن في "الجزيرة" نتناول سائر الموضوعات العربية، ونقدمها بشكل مهني جداً. * ما حدود الحرية التي تتحرك في فضائها "الجزيرة"؟ - الحرية لا سقف لها ولا حدود! ونسبة الحرية لدينا مئة في المئة. ولكن الحرية في مفهومنا لا تعني القذف والتجريح والخروج عن القواعد والتقاليد. * وهل تعرضتم لضغوط من حكومات عربية لثنيكم عن بث موضوع او نشر خبر يمسها او يتعلق بها؟ - كان يتم ذلك في البدايات عبر التهديد بسحب السفراء، واغلاق مكاتب "الجزيرة". اما الآن فقد توقف هذا الأمر. * وماذا عن الثقافة في "الجزيرة"؟ لماذا هذا الشح في التركيز على الثقافة والفنون اسوة بالأخبار السياسية والاقتصادية والرياضية؟ لماذا تسلك "الجزيرة" سلوك الآخرين في النظر الى الثقافة بصفتها شأناً هامشياً يمكن ببساطة التخلي عنه؟ - سنقدم قريباً برنامجاً ثقافياً في ثوب جديد. واعتقد ان النقص ليس في الثقافة وحسب، وانما في شؤون المرأة، والاهتمام بالناشئة. وهذا ما سوف نستدركه في الفترة المقبلة. * وما الضير في ان تتضمن "الجزيرة" عروضاً لأفلام سينمائية او مسرحيات او سوى ذلك من البرامج الثقافية المتخصصة؟ - لا نستطيع ذلك لأن المحطة تركز على الخبر، ولا مجال لتكون هناك افلام كرتونية او منوعات غنائية، الا في حدود خدمة الخبر او البرنامج الحدثي. * ما هي التطويرات والتجديدات في برامج "الجزيرة". - لدينا الآن خدمة "الجزيرة نت" عبر شبكة الانترنت، وقد بدأناها منذ مطلع العام الجاري، وقريباً سنطلق محطة اقتصادية، واخرى تسجيلية. وسيجري طرح برامج جديدة، وتحديث البرامج الحالية، وكل ذلك سيتم في غضون هذا العام.