بعد مرور نحو شهر على انطلاقة البث العربي لتلفزيون "بي بي سي"، لم تستطع هذه الفضائية أن ترتقي إلى مستوى الأمنيات والطموحات والتوقعات التي رافقت ظهورها، والتي أشارت إلى أن هذه الفضائية الوليدة، سليلة هيئة الإذاعة البريطانية العريقة، وانها ستقتحم الفضاء العربي في شكل مغاير ومختلف، وستثبت حضوراً واسعاً، وستخطف مشاهدي القنوات الفضائية الإخبارية الأخرى، منذ الأيام الأولى للبث. لكن يبدو أن هذه التوقعات لم تكن في محلها، ذلك أن هذه الفضائية الوليدة لم تقدّم، حتى اللحظة، شيئاً جديداً، فهي تكاد تكون نسخة مرئية عن القسم العربي ل"هيئة الإذاعة البريطانية". فمثلاً برنامج"نقطة حوار"الذي يعكس الصوت الحقيقي للمستمع في قضية مطروحة للنقاش عبر الاتصالات الهاتفية، والتي دأبت الإذاعة البريطانية على بثه، استوردته الفضائية من دون أن تجري عليه أي تغيير في نسخته المرئية. بل أن البرنامج يبث، في وقت واحد، عبر الإذاعة والتلفزيون معاً، علماً أن كل وسيلة إعلامية خصوصية تستدعي إعداد المادة الإعلامية وفقاً لتلك الخصوصية، ما يعني استحالة تحويل برنامج إذاعي إلى آخر تلفزيوني إن لم نأخذ في الاعتبار التغييرات الجوهرية التي تتطلبها الفروق بين المرئي والمسموع. والأمر ذاته ينطبق على برنامج"في الصميم"الذي يقدمه الإعلامي حسن معوض، فهذا البرنامج يذكرنا ببرنامج"نقطة نظام"الذي كان يقدمه معوّض على شاشة"العربية"، وجلّ ما فعله مقدم البرنامج هو انه غيّر اسم البرنامج فحسب، من دون ان يشعر المشاهد، والحال كذلك، بأي تغييرات بين البرنامجين، سوى أن محطة البث قد تغيرت من"العربية"إلى ال"بي بي سي"، مع ضرورة الإشارة إلى الأداء الإعلامي الناجح لمعوّض في البرنامجين. ولا تقتصر الحال على هذين البرنامجين، بل هناك برامج قليلة أخرى مثل"لجنة تقصي الحقائق"، وپ"عن قرب"، وپ"وثائقيات"... وكلها لم تصل بعد إلى بلورة خصوصية ما لهذه المحطة التي انتظر منها المشاهد الكثير. وحتى في نشرات الأخبار لا يشعر المشاهد بأي جديد، في شكل الخبر وصوغه. فكل نصف ساعة ثمة نشرة أخبار جديدة، لكن مع محدودية شبكة المراسلين يشعر المشاهد أن ثمة تكراراً"مملاً"في بث الخبر الواحد في أكثر من نشرة إخبارية، حتى أن الضيوف الذين يشاركون في تحليل أبعاد الخبر غالباً ما تكون مشاركتهم عبر الهاتف لا عبر البث الحي المباشر من طريق الأقمار الاصطناعية كما تفعل"الجزيرة"وپ"العربية"مثلاً. وعلى رغم غياب الإعلانات التجارية عن شاشة ال"بي بي سي"، وهو أمر نادر في عملية البث الفضائي، غير أن فترة البث الممتدة لاثنتي عشرة ساعة فقط، تقف عائقاً أمام اكتساب المشاهد الذي لم يعد يستسيغ توقف المحطة عن الإرسال، فقد اعتاد على البث المفتوح على مدار الساعة، بحيث إذا اختار رقم محطة ما فلا بد من أن يجدها، أما الجملة التي تقول:"سنعاود البث في الساعة كذا.."فلم تعد مقبولة. هذه الملاحظات مشروعة بالنظر إلى المبدأ القائل"على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، خصوصاً ان هيئة الإذاعة البريطانية التي أطلقت هذه المحطة الفضائية، لا تملك أي أجندات حزبية أو سياسية أو أيديولوجية قد تؤثر سلباً على أدائها الإعلامي. فهي معروفة بمهنيتها وموضوعيتها، وقد نجحت بالفعل في فتح بعض الملفات الغائبة عن الفضائيات العربية، لكنها لم تستثمر هذه الحرية الإعلامية بالشكل الذي يمكن أن تصنع محطة في وسعها أن تفوق كل المحطات الإخبارية العربية، إن لجهة طرح القضايا الشائكة، أو لجهة الالتزام بالمعايير المهنية الناجحة.