قبل أيام نشرت مجموعة من الصحف الاميركية المرموقة نتائج تحقيق مضن قامت به حول عملية فرز الاصوات في ولاية فلوريدا خلال انتخابات العام الفين. لكن ما أهمية ما يظهره مثل هذا التحقيق؟ فجورج دبليو بوش أنهى كل شك حول من يحكم الولاياتالمتحدة اليوم. وحتى آل غور، الذي نال وفق التحقيق أصواتا في فلوريدا اكثر من بوش، أصدر بيانا يبايع فيه الرئيس في اليوم نفسه لنشر نتائج التحقيق. لقد استعاد جورج بوش "صوته" وبات بامكانه التفكير برد مناسب على أحداث 11 ايلول سبتمبر واتخاذ قراره شبه الغريزي بالذهاب الى الحرب على "الارهاب". كان بوش حتى وقوع الهجمات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون يلعب دور رئيس عرضي موقت. وعلى عكس العديد من اسلافه، لم يكن لديه طموح جارف للجلوس في المكتب البيضاوي، وجاء ترشيحه الى الرئاسة بتشجيع من اشخاص آخرين غيره. وقد ساهم فوزه الملتبس على آل غور في التقليل من أهمية عهده الرئاسي. كان بوش شعبيا بما يكفي قبل الحادي عشر من ايلول سبتمبر، لكن قيادته شهدت تحولا بعده. فقد وفرت أحداث الاشهر الماضية لادارته الوجهة والهدف، وشهدت الحكومة باكملها، من وزارة العدل الى وزارة الدفاع، تعبئة شاملة لمواجهة أعداء اميركا المفترضين. لكن مواصلة مثل هذه السياسة الشاملة تتطلب اكثر من السلاح والاستخبارات، كما تحتاج الى دعم شعبي داخل الولاياتالمتحدة. وقد أظهرت رئاسة بوش تفوقا في هذا الجانب الدقيق للوضع الراهن. ومع ان واشنطن لم تقبض بعد على اسامة بن لادن، الا ان الحرب على الارهاب اخذت بقلوب الناخبين الاميركيين الذين رفعوا شعبية بوش عاليا في الفضاء، الى قرب القاذفات الاميركية. وكان يمكن لرئيس أكثر فصاحة ان يمارس سيطرة أكبر على الكونغرس وان يفرض عليه رغباته. لكن على رغم فقر وغموض مفردات تعاويذه ضد "الارهاب والشيطان" فان بيت بوش الابيض يحكم بلا منازع. وقد يعتقد ان الشعبية الهائلة لتوجه الادارة الحالي سريعة الزوال، خصوصا اذا ما اختبرت بخسائر اميركية اضافية او نكسات عسكرية او بفشل مستمر في القبض على ابن لادن. لكن الجميع، بمن فيهم منافسو بوش المحتملون في العام 2004 الذين شهدوا درجة التعبئة الشعبية الاستثنائية غداة 11 ايلول سبتمبر، يدركون ان من الخطورة اساءة تقدير قوته. وبوش نفسه لم يكن يتصور ان تأخذ الامور هذا المنحى الذي نقله مباشرة الى مرحلة تحديد السياسية الخارجية الاميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. لقد أملت الاحداث نفسها رد فعل الرئيس على الهجمات. فالجمهور الاميركي لم يكن ليرضى بأقل من ذلك حتى لو كان لبوش ومستشاريه رأي آخر. ومع مرور الوقت تتكشف للادارة المنافع الداخلية والدولية للحرب المستمرة على الارهاب. فبعد أفغانستان والقاعدة، قد يبدأ البحث في تفاصيل حملة على سورية او العراق او الصومال. لكن من وجهة نظر سياسية يجب الاعتراف بان مثل هذه الحملة ستمكن بوش من ان يحدد وحده جدولا زمنيا للمجتمع الدولي ويقود الجهود لتحقيقه. انها فرصة ذهبية لاي سياسي ومن غير المرجح ان يفوّتها بوش. ويلفت الانتباه حماس الرأي العام الاميركي لحرب مستمرة ضد أعداء لا يزال يتوجب تحديدهم، وانعدام أي معارضة سياسية باستثناء تلك الصادرة عن حزبه نفسه، والتي تطالب بحملة اكثر عدوانية وبلائحة أعداء اكبر. وغيرت الحرب في افغانستان دور اميركا في الشؤون الدولية ايضا. فقبل 11 ايلول سبتمبر جعلت ادارة بوش من مشروع الدرع المضادة للصواريخ حجر الاساس لسياستها الخارجية. لكن عدد الدول المؤيدة لهذه الفكرة يقل عن اصابع اليد الواحدة تركيا والهند واسرائيل. اما معارضوها، بقيادة الصين، فهم اكثر بكثير وأشد حماسا. اما اليوم، فقد اصبح البرنامج الدفاعي أقل تهديدا ويحتل مكانه الطبيعي كعامل ثانوي في السياسة الخارجية الدولية. وأدرك الرئيس الروسي بوتين ان الحرب على الارهاب توفر لبلاده فرصة إقامة تحالف ثابت مع واشنطن بعد الحرب الباردة وإمكان ايجاد تسوية في شان معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ أي. بي. أم.. أما في الشرق الاوسط وجنوب آسيا، فان للحرب على الارهاب القدرة على إعادة صياغة المصالح الاميركية في المنطقة. وهي أدت حتى الان الى موقف اكثر مرونة من انتشار الاسلحة النووية، على الاقل عندما يتعلق الامر بدول صديقة مثل باكستان والهند. اما طموحات ايران النووية التي وضعتها يوما في رأس قائمة البيت الابيض للدول "المارقة"، فقد لا تظل مشكلة امام التقارب بين طهرانوواشنطن في عالم يحكمه التحالف ضد الارهاب. وقد يكون للتركيز على الارهاب وعلى الدول التي ترعاه انعكاسات خطيرة على طهران، لكن المرحلة الاولى من هذه الحرب شهدت نوعا من التعاون وبروز مجموعة جديدة من المصالح المتبادلة وقد تساهم في قيام صداقة جديدة بين الولاياتالمتحدةوايران. واصبحت ادارة بوش ايضا أقل تسامحا اليوم بالنسبة الى النزاع بين اسرائيل وجيرانها مما كانت عليه قبل احداث ايلول سبتمبر. لكن التركيز على الارهاب والدول الراعية له كاساس جديد للسياسة في المنطقة ليس وصفة لحل اميركي مفروض، بل هو مجرد مسعى اميركي لابعاد المعركة بين الاسرائيليين والفلسطينيين عن الواجهة. واذا استمرت الحرب على الارهاب بعد افغانستان فان العراقوالصومال هما أول المرشحين. ويشكل العراق هدفا اكثر ترجيحا. فهو يمثل دمجا بين حملتين، واحدة قديمة ضد "الدول المارقة" وثانية جديدة ضد الارهاب. فليس هناك اي تعاطف اميركي مع صدام حسين الذي حاول اغتيال بوش الاب، وليس هناك ايضا اي قلق من انعكاسات اقليمية للحرب على العراق، وخصوصا اذا قاد الحملة عليه خبراء لم يروا في ابن لادن اي تهديد حقيقي