هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001 التي اعلن اسامة بن لادن مسؤوليته عنها، اسدت لجورج بوش خدمة هبطت من السحاب عليه هبة ثمينة. وذلك على الضد مما توخاه بن لادن منها. فقد كان بوش يعاني قبل تلك الهجمات من أزمة شرعية بالنسبة الى انتخابه بعدما جاءت رئاسته عبر عملية قيصرية تحيط بها الشكوك. فالذي فعلته تلك الهجمات التي مثلت عدواناً على اميركا، واسفرت عن ثلاثة آلاف قتيل، ودمار برجين حتى تسويتهما بالأرض، عزّ ان تفعله صناديق الانتخاب. فقد حشدت تأييداً لبوش، وهو يقعقع بالسلاح ويتوعد بالانتقام، ويتهيأ لشن حرب على افغانستان، لم يحظ بمثله رئيس اميركي من قبل. فاستعاد شرعية رئاسته ومعه فريق ادارته المتطرف المتصهين الليكودي. فهل هنالك خدمة مثل هذه الخدمة يمكن ان تقدم لسياسي اميركي متعطش لكسب رأي عام يوصله الى السلطة أو يثبت شرعية يريد ان يمرر عبرها اجندة خارجة على المألوف الأميركي نفسه. وكانت ادارة بوش في الفترة السابقة لهجمات 11 ايلول تبيت استراتيجية استعادة نظام أحادية القطبية، وقد اتهم عهد بيل كلينتون بتمييعه الى حد"جعل من اميركا أضحوكة في العالم"كما ورد في احد خطب بوش في أثناء حملته الانتخابية عام 2000. وذلك من اجل اتباع سياسة القوة، بصورة سافرة، في العلاقات الدولية، أي استراتيجية الحروب واستخدام العضلات العسكرية والقعقعة بالسلاح طريقاً لفرض نظام أحادي القطبية. وظهرت بوادر أولى لتلك الاستراتيجية من خلال انسحاب اميركا من اتفاقية 1973 مع الاتحاد السوفياتي بخصوص الحد من التسلح النووي، ثم إلحاق هذا الانسحاب بالعودة الى استراتيجية"حرب النجوم"الريغانية، أو وفق مسماها الجديد"منظومة الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ". على ان ادارة بوش، مع هذه الاستراتيجية، كانت محرجة في القفز من أجواء ما بعد انتهاء الحرب الباردة الى نمط جديد من سباق التسلح والعسكرة والحروب الحامية، ومن دون مقدمات، أو اسباب مقنعة، ومن هنا جاءت هجمات 11 ايلول لتقدم الذريعة المثلى للانتقال الى هذه الاستراتيجية. فهل هنالك خدمة مثل هذه الخدمة تقدم للفريق"المسيحي"المتصهين والصهيوني الليكودي صاحب القرار في ادارة بوش ليحقق أهدافاً طالما حلم بها وتحرق لدفع القوات العسكرية الاميركية وامكاناتها المختلفة لانجازها. وكان منها دعم الجيش الاسرائيلي بلا تحفظ لسحق الانتفاضة والمقاومة والصمود الشعبي الفلسطيني، واعادة كل قطاع غزة والضفة الغربية الى الاحتلال المباشر، كما شن الحرب على العراق واحتلاله. أما الهدف الأبعد فرسم الخريطة السياسية والجغرافية والايديولوجية للمنطقة التي أصبح اسمها"الشرق الأوسط الكبير"، خصوصاً البلاد العربية، وفي المقدمة فلسطين ولبنان وسورية والسعودية ومصر لا سيما بعد انجاز أمثولة العراق حين يُحتل ويصبح أداة مصهينة ضد المنطقة. ومن هنا يفهم لماذا قفز شارون، مؤيّداً من ادارة بوش، فوراً للربط بين الفصائل الفلسطينية، واساساً"حماس"و"الجهاد"و"كتائب شهداء الأقصى"و"كتائب أبو علي مصطفى"من جهة والتنظيمات التي تمارس الارهاب الدولي الذي ضرب في 11 ايلول، في نيويورك وواشنطن من جهة اخرى. ثم لماذا انتقل الجيش الاسرائيلي في نيسان ابريل 2002 الى استراتيجية الاجتياحات واعادة الاحتلال مبتدئاً بمخيم جنين فنابلس. وبكلمة قدمت هجمات ايلول من حيث لم تقصد خدمة جلى لجورج بوش وفريقه المتصهين والليكودي كما لشريكهما ارييل شارون. لكن الاستراتيجية والسياسات التي اتبعتها ادارة بوش في الرد على تلك الهجمات وفرت بدورها خدمات لا تقدر بثمن لتنظيم"القاعدة"ونهجه. ومن هنا يمكن القول ان بوش لم يقصر بدوره، على الضد مما توخاه كذلك، من اسداء الخدمات ورد"الجميل"بمثله لبن لادن. كيف؟ ما ان انتهى من الحرب على افغانستان واحتلالها، وبتأييد دولي واسع للغاية، تعاطفاً مع اميركا بسبب فاجعة 11 ايلول حتى راح يدفع باستراتيجية وسياسات ابعد ما تكون عن الحرب ضد الارهاب. فبدلاً من المحافظة على الجبهة العالمية التي التفّت حوله بسبب 11 ايلول، وفي حرب افغانستان، ومن ثم مواصلة الضغوط العسكرية والسياسية على تنظيم"القاعدة"والتنظيمات التي تنهج نهجه في تبني اسلوب الارهاب الدولي الذي سمته الضرب في غالبية بلدان العالم بما في ذلك البلاد العربية والاسلامية، وبلا معيار محدد، اما سمته الثانية فضرب المواقع المدنية والمدنيين كما حدث مع برجي التجارة العالمية او بالي او مدريد ممتداً اخيراً الى العراق والسعودية وتفجير الطائرتين المدنيتين الروسيتين في الجو، او قتل المئات من الاطفال الصغار في مدرسة بيسلان في اوسيتيا... بدلاً من ذلك اتبعت ادارة بوش سياسات مغايرة بعد احتلال افغانستان. كيف؟ ادرجت"حزب الله"و"حماس"و"الجهاد الاسلامي"وفصائل المقاومة الفلسطينية، كما ادخلت تغيير القيادة الفلسطينية، في تلك الاستراتيجية والسياسات. وبهذا اخلطت بتعمّد ما هو مقاومة احتلال مشروعة بما هو ارهاب دولي يختلف جوهرياً عن مقاومة الاحتلال. ثم وضعت عدداً من الدول العربية والاسلامية في قائمة"دول الشر"او"الدول المارقة"، وراحت تعد علناً للعدوان على العراق واحتلاله. ثم خلطت بين محاربة الارهاب واقامة نظام عالمي على اساس التفوق الاميركي في ميزان القوى العسكري ومنع اي محاولة للحاق به المقصود روسيا والصين وفرنسا وتبني مبدأ الحرب الوقائية والضربة الاستباقية كما عُبّر عن ذلك في استراتيجية الامن القومي الاميركي المعلنة في 20 ايلول 2002. الامر الذي استعدى غالبية الدول الكبرى الاخرى، واثار غضب عشرات الملايين من الرأي العام العالمي وادخل حلف الاطلسي وهيئة الاممالمتحدة في أزمة. وصعّد في وحشية العولمة المؤمركة بتحويلها الى عولمة معسكرة. وبهذا زُجّ بالنظام العالمي في حال فوضى عارمة وحدث انقسام حاد في مواقف الدول ازاء هذه الاستراتيجية والسياسات مما جعل شعار الحرب ضد الارهاب حروباً اميركية على اكثر من جبهة لا علاقة لها ببن لادن او"القاعدة"بل ترك امرهما اساساً لباكستان وال"سي آي اي"بينما راح تركيز الاستراتيجية الاميركية ينصبّ على العراقوفلسطين ولبنان وسورية وايران. ومضت ادارة بوش تبني تحالفاتها السياسية بعيداً من حلف الاطلسي واوروبا الموحدة، ومن الحلفاء التقليديين في العالم. مما تسبب ايضاً بانقسام داخل الولاياتالمتحدة كما تجلى في الانتخابات الرئاسية الدائرة بين بوش وكيري. ولهذا لا عجب بعد ثلاث سنوات من هجمات ايلول ان يبقى السجال ظاهرياً بين بوش وبن لادن فيما المعارك الفعلية والهجمات السياسية من جانب ادارة بوش مركّزة على نقاط اخرى في البلاد العربية والاسلامية والعالم، وفيما اتجاه"القاعدة"والتنظيمات التي تنهج نهجها او تدّعي ذلك تفتح عشرات الجبهات التي لا علاقة لها ببوش. وقد عمم قتل المدنيين بما يتعدى كل عقل فكيف السياسة والشرع. ومن ثم اسداء الخدمات لبوش، وحتى التقاطع معه، احياناً ضد معارضيه او في نقاط يوجه ضدها سهامه. وهكذا راح بوش وبن لادن يتبادلان تقديم الخدمات، او"رد الجميل"موضوعياً، وان تناقضت المقاصد والنيّات، وبديهي ان الحكم في السياسة على الممارسة وعلى النتائج وليس على القصد والنيّة. * كاتب من الأردن.