كانت الفترة الأخيرة سيئة لبوش وإدارته بامتياز، سواء على الصعيدين الداخلي أو الخارجي. بدأت بفضيحة كبيرة بإدانة لويس ليبي من المحافظين الجدد، ومن المروجين للحرب على العراق، وكبير موظفي نائب الرئيس تشيني واحد مستشاري بوش. والخطورة تكمن في ما إذا ثبتت الاتهامات الخمسة والتي منها عرقلة سير العدالة، والإدلاء بشهادات مزيفة وكاذبة، والحنث باليمين تحت القسم له أبعاد خطيرة وقد تطاول مسؤولين أكبر مثل كارل روف، مهندس انتصارات بوش وكبير مستشاريه، وإذا ما حدث ذلك فإن بوش سيصاب بضربة قاسية خاصة إذا ما طاولت التحقيقات نائبه الذي سيستدعي كشاهد. وأخطر استنتاج من تداعيات فضيحة"بلايم غيت"أو"ليبي غيت"، هو هل تم التلاعب بالمعلومات الاستخباراتية، وتم تحريف تلك المعلومات لبناء حجة قوية لتبرير الحرب على العراق بسبب امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل؟ وهل تم تسريب اسم عملية الاستخبارات عمداً للاقتصاص من زوجها لمعارضته الحرب؟ وهل تشيني على علم بذلك، كما رشحت بعض المعلومات التي تؤكد ذلك؟ ومتى وماذا كان يعلم تشيني عن الموضوع؟ والى أين سيصل المحقق الخاص باتريك فيتزجيرالد، ومن سيطاول من الكبار؟ وسارت تظاهرات احتجاج صاخبة ضد بوش وإدارته وسياسته الخارجية ورفض لمنطقة التجارة الحرة للأميركيتين، وإصدار بوش تعليمات وأوامر لمعاونيه في البيت الأبيض لحضور دروس اجبارية في الاخلاق العامة وكيفية التعامل مع المعلومات السرية. فيما واصل الديموقراطيون الموحدون حملتهم لاستثمار الفضائح السياسية والاخلاقية للجمهوريين بمطالبتهم بإعداد تقرير دقيق من الكونغرس عن أداء الاستخبارات الأميركية والتلاعب بمعلومات استخباراتية قبل الحرب على العراق. لا شك انها أيام عصيبة في البيت الأبيض بتداعيات عدة وخطيرة لإدارة بوش التي لم تكمل عامها الأول في فترة ولايته الثانية والأخيرة، في بلد لطالما شهد فضائح ونكسات للرؤساء في فترة ولايتهم الثانية. والأمور مرشحة للمزيد من التعقيد والدراما والانهيار بشعبية بوش وإدارته ومصداقيته، لأن التحقيق لم يغلق بعد، وقد يصل الى تشيني نفسه، أو على أقل تقدير"غورو"بوش ومهندس انتصاراته ويده اليمنى وكبير مستشاريه كارف روف، الذي يطالب 60 في المئة من الاميركيين برحيله في انتكاسة كلية لبوش نفسه. يضاف لذلك خسارة قواعد بوش المحافظة التي رضخ بوش لرغباتهم في ترشيح القاضي"ليتو"المحافظ كمرشح للمحكمة العليا بديلاً عن المرشحة المنسحبة"هارييت مايرز"التي رفضت من القواعد المحافظة وأدت لانقسام واضطرت لانسحاب قبل ان تطرد. يضاف لكل ذلك العراق، وتجاوز عدد القتلى الألفين، كل ذلك في اسبوع، يكشف الكثير من التراجع، ويحجب كل ذلك برنامج بوش الكبير في الاصلاحات الاقتصادية والضمان الاجتماعي الذي لم ينجح في تحريكه منذ حوالي العام. كم يتغير المشهد والصورة خلال عام من حرب مفتوحة، من انتخاب بوش لفترة ولاية ثانية قبل عام وبأغلبية تجاوزت ال 52 في المئة الى انحدار وتآكل واضحين ورفض الاميركيين للرئيس القوي"رئيس الحرب"والأفضل لحماية أميركا وأمنها القومي من اي أعداء أو عمل ارهابي، وعلى ذلك الاساس تم تفضيله على كيري المتردد. يشهد بوش تآكلاً واضحاً حتى لسياسته في الحرب على الارهاب حيث لم يعد أكثر من نصف الاميركيين مقتنعين بنجاح تلك الاستراتيجية للمرة الأولى منذ 11 ايلول سبتمبر 2001، ولرئيس لامست شعبيته 90 في المئة في اعقاب الهجمات الارهابية، من المحبط والمحزن ان يرى تلك النسبة تنخفض لأدنى نسبة على الاطلاق. تبدو إدارة بوش محاصرة وفي موقف دفاعي بسبب سلسلة الفضائح والنكسات والحسابات الخاطئة وخرق القانون والمغامرات الخارجية، من كوريا الشمالية الى ايران ومن سورية الى فنزويلا. هناك مخاوف وتحذيرات وتهديد بعقوبات أو ضربات عسكرية وحتى مخاوف من غزو عسكري كحالة فنزويلا كما يحذر الرئيس الأكثر عداء لأميركا شافيز رئيس فنزويلا. المشهد الأول: إذا كان بوش قد ذهب للارجنتين ليهرب من مشاكله الداخلية وانخفاض الثقة به وبمصداقيته وإدارته وشعبيته وفضائح التجسس والتلاعب بالتقارير الاستخباراتية للانتقام من معارضي الحرب على العراق، فكم كان مخطئاً وهو يتابع ويعايش التظاهرات التي تصفه بالفاشي وسط تظاهرات عنيفة وقوية ومعبرة وحرائق واضطرابات في الارجنتين في أحد المنتجعات الراقية حيث تعقد قمة الاميركيتين بقيادة الولاياتالمتحدة مع قادة من 33 دولة من القارتين وسط غضب شعبي وتظاهرات معارضة بشدة للولايات المتحدة وبوش نفسه وسياسته ودور أميركا في العولمة والتجارة الحرة. يتقاطع مع هذا المشهد، استطلاع للرأي في بلد جعل من ثقافة استطلاعات الرأي شأنا سياسياً عاماً يؤخذ على محمل الجد من الناخبين والسياسيين على حد سواء. استطلاع الرأي العام من"واشنطن بوست"و"اي بي سي نيوز"للاسبوع الأول من هذا الشهر، يعري ويسحب الأوراق القوية من ترسانة الرئيس بوش ومن الثقة الى الحرب على الارهاب الى الاقتصاد ومصداقية الإدارة الأميركية في سلسلة الفضائح والأخطاء والهفوات وخرق القانون وتضخيم خطر أسلحة الدمار الشامل لصدام حسين والتي استخدمت كأرضية ومبرراً للالتفاف السياسي والشعبي في التحضير للحرب على العراق قبل أكثر من عامين ونصف. أما المشهد الثالث، فهو النزف المستمر والحرب بلا أفق أو خط نهاية في العراق والتي بدأت تشبه الى حد كبير وتذكر بفيتنام. ويؤكد جان ميللر استاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية أوهايو، ان مستوى الغضب الشعبي في اميركا يعادل اليوم، وبعد تجاوز عدد القتلى الاميركيين الرقم المرفوض شعبياً وسياسياً ال 2050 قتيلاً وأكثر من 15 ألف جريح، يعادل مستوى الغضب الاميركي بعد سقوط 200 الف قتيل اميركي، خصوصاً بعد معركة"التت". وحسب استطلاع الرأي الاخير فإن نسبة الاميركيين الذين يعارضون الحرب على العراق في ازدياد واضح. وللمرة الأولى وصلت النسبة الى مستويات خطيرة، 60 في المئة يعتقدون ان الحرب كانت خطأ بعدما كانت النسبة 24 في المئة عشية الحرب على العراق. والأخطر في الاستطلاع هو ان ثلثي الاميركيين المستطلعة آراؤهم غير راضين عن إدارة الحرب. ووسط كل ذلك يخشى ان يبدأ قياديون وحلفاء تقليديون للحزب الجمهوري ان ينظروا الى بوش ليس كمصدر أساسي ورئيسي ورصيد يمكن التعويل عليه في حملتهم الانتخابية العام المقبل في انتخابات الكونغرس للابقاء على سيطرتهم على الكونغرس، وانما كعبء ومصدر لخسارتهم. يشار مثلاً الى ان حاكمي فيرجينيا وكاليفورنيا الجمهوريين، قاطعا خطاب ولقاءات بوش في تصرف غير مسبوق لرئيس قوي في هذا الوقت المبكر في فترة ولايته الثانية، وذلك دلالة على المأزق الكبير الذي تجد فيه هذه الإدارة نفسها فيه. والسؤال الكبير والمهم الذي يفرض نفسه هو: الى اين ستفضي هذه الفضائح والنكسات والاخطاء والى اين ستصل؟ اسئلة مفتوحة... هذه النكسات لبوش لا تعني سقوطه. من المعروف عن بوش قدرته على امتصاص الصدمات والقدرة على الوقوف على قدميه وبشكل سريع. ولكن هذا المسلسل من الاخطاء غير مسبوق وهناك احتمال كبير بالمزيد من النكسات والفضائح وآخرها ظهر خلال الأيام الماضية من السجون السرية للاستخبارات الاميركية حول العالم، الى تسريب اسرار طائرة الشبح. والسؤال هو ما أثر كل ذلك على سياسة اميركا الداخلية والخارجية وعلى دورها في العالم؟ وما هي فرص الهروب للأمام عبر مغامرات وحرب استباقية لصرف الأنظار عن النكسات والالتفاف الشعبي. وهناك ألغام العراق وسورية وايرانوفنزويلاوكوريا الشمالية والصين؟ كيف تقرأ هذه الدول ضعف ادارة بوش والنكسات المتعددة؟ وهل متابعة هذه الدول لمأزق بوش ومعاناته تشفي العديد من تلك الدول للورطة والفضائح المتراكمة على إدارة عرف عنها الغطرسة والنزق سيحفزها للتشدد والممانعة مستغلة المصائب وسط التملل والرفض الشعبي الاميركي لمواجهات وفتح جبهات والإصرار على التهدئة والاجماع الدولي ودور أكبر لمجلس الأمن؟ وهذا ما كان واضحاً وجلياً في التعامل مع سورية حول تقرير ميليس واتهامات لقياديين في النظام السوري بالضلوع بالجريمة والحاجة لاستجوابهم. وكذلك مطالبة جان بولتون المتطرف المندوب الاميركي الدائم في مجلس الأمن الذي فرضه بوش على الأممالمتحدة رغماً عن الكونغرس الاميركي بفرض عقوبات على السودان بسبب دارفور. الى اين ستفضي كل هذه التطورات والنكسات وما هي الخواتيم؟ وما يهمنا كيف سينعكس كل هذا علينا وعلى أمننا ومصالحنا؟ هذا هو السؤال. والملفت ان كل ذلك النزف والمصائب والنكسات بالكاد تحظى باهتمام ومتابعة الاعلام والمعلقين والكتاب. فلنتابع جميعاً ونرصد ونرى، الى اين سيفضي كل هذا الحراك؟ استاذ العلوم السياسية - جامعة الكويت.