"ما الذي يحدث في فلستان؟ وهل اسرائيل أيضاً هي التي تعذبهم هكذا؟ وهل علينا ألا نذهب الى ماكدونالدز مرة أخرى؟" أسئلة متلاحقة وسريعة طرحها الصغير أحمد 6 سنوات على والدته بينما كانا يشاهدان نشرة الأخبار. وحاولت الأم أن تفك الاشتباك الفكري في ذهن الصغير، فأخذت توضح له أن فلسطين غير أفغانستان، فكلاهما بلد ضعيف، ومسلم، وملامح شعبه شرق أوسطية، وينتمي الى الفئة النامية أو على الأقل يبذل محاولات ليصنف ضمنها. وكلاهما أيضاً يتعرض للضرب، لكنهما بلدان منفصلان. طرحت الأم هذا التوضيح بأبسط طريقة ممكنة، لكنها كانت على ثقة بالمبدأ المشهور القائل بأن "محاولة اضفاء المنطق على ما ليس منطقياً عمل غير منطقي على الاطلاق". هذا عن أحمد الصغير الذي يمثل جزءاً لا يستهان به من سكان مصر. والمصريون، بشكل عام، شعب تلفزيوني، يعشقون الالتفاف حول الجهاز السحري في كل وقت ومكان، وهم لا يكتفون بإظهار عشقهم هذا في بيوتهم وبيوت الأصدقاء، لكنهم يعبرون عن مشاعرهم الفياضة تلك في الأماكن العامة مثل المقاهي والمطاعم والنوادي، التي يهمها إرضاء الزبون، وهو ما يتحقق من خلال شاشات التلفزيون العملاقة التي عرفت طريقها اليها. وفي الأيام التي تلت الضربة الأميركية يوم 11 أيلول سبتمبر الماضي، شهدت القنوات الفضائية الاخبارية لمن يقتني أطباقاً هوائية أن حتى "حرامي الدش"، ونشرات الأخبار المصرية لمن لا يملك أياً منهما، نسبة إقبال لم يسبق لها مثيل منذ غزو العراق للكويت في عام 1990. كانت هناك حالة تعطش ممزوجة بكثير من حب الفضول وقليل من الخوف لمتابعة الأحداث المتلاحقة لما يحدث على الجانب الآخر البعيد من العالم. لكن ما أن بدأت الأمور تتضح حتى طغت مشاعر الخوف واحتفظت لنفسها بالغلبة على الفضول. أسماء عربية، وجنسيات اقليمية، وتهم منسوبة الى جهات عدة. وكما هي العادة في مثل تلك الحوادث رغم جسامتها وخطورتها، إلا ان معدلات التحول بعيداً من القنوات الاخبارية والنشرات تزيد. فلا مانع من التعرف الى عناوين الأخبار من "الجزيرة" ثم اللحاق بفريقي الصبايا والشباب في "يا ليل يا عين"، وقد يشعر البعض بالحاجة الى اختزان قدر من سيول التحليلات وتلال التفسيرات التي ينضح بها الكم الهائل من "الكتاب الصحافيين" و"المحللين الاستراتيجيين" و"الخبراء العسكريين" و"المفكرين السياسيين" الذين يتجولون على مدار ال 24 ساعة في قمري "عرب سات" و"نايل سات" لكن ما يلبث البعض ان يشعر بدوخة - مصحوبة أحياناً بغثيان - فيبحث عما أو عمّن يعدل مزاجه وقد تكون رزان في ال MBC أو "كارلا لا لا في" اختياراً مناسباً. إلا ان هذا لا يعني بأي حال ان رجال الشارع - وكذلك امرأة الشارع - فقد الاهتمام بالحرب الدائرة، لكنه بحكم الطبيعة البشرية أصيب بمجموعة من المشاعر أثرت في حالته النفسية سلباً، مما دفعه الى تغيير مؤشر التلفزيون بعيداً عما يجري، وذلك بعد استقاء المعلومات الأساسية. غضب وحزن وخوف لما يحدث، لكن الحياة لا بد أن تسير. أضف الى ذلك ان المصريين فيهم ما يكفيهم. فالأزمات الاقتصادية، والمشاكل الاجتماعية، والمصاعب التعليمية، والمعضلات الاسكانية، والتحديات الأخلاقية التي يعيشونها يومياً لا تسمح لهم بامتصاص المزيد. لكن الملاحظ ان كثيرين باتوا يعدلون عن التسوق أو بالأحرى التفرج على المعروضات الموجودة في المراكز التجارية المزدحمة، ومحلات المطاعم الأميركية مثل ماكدونالدز وكنتاكي خوفاً من عمل ثأري هنا أو عملية انتقامية هناك. كساد وقلق بل ان دور السينما والمسارح تشهد انخفاضاً ملحوظاً في أعداد مرتاديها، كذلك المحلات التجارية، ويقول كثيرون بتلقائية شديدة ومن دون تفكير: "كيف نشتري وشبح الحرب يلوح في الأفق؟"، وهو ما يعكس احساساً بالخوف والقلق والتوتر من عدم استقرار الأوضاع. وهو إحساس اصاب الجميع حتى أولئك الذين يعملون أصلاً في مهنة القلق والتوتر: الصحافة. فجمعية المراسلين الأجانب في القاهرة أرسلت الى أعضائها نشرة تعلن فيها عن تنظيم رحلتين داخليتين، الأولى الى الغردقة، والثانية الى العين السخنة "للابتعاد عن عارض بن لادن" الذي أصاب الجميع. والحقيقة ان هذا العارض أجبر جموع المصريين على التعرف عن قرب الى أفغانستان، هذا البلد ذو الرجال الملتحين والنساء المختبئات خلف الشادور الأزرق. وللمرة الأولى منذ تأتأ الراحل استيفان روستي "ق ق ندهار" في فيلم "لعبة الست"، أصبح اسم قندهار وكابول ومزار الشريف من الاسماء المعروفة لدى عامة المصريين. صحيح ان حالة تأييد وتعاطف وتضامن مشابهة انتابت المصريين في سنوات الغزو الروسي لأفغانستان، بل نتج عنها زخم الحركات الاسلامية المصرية، لكن تكنولوجيا المعلومات و"عبقرية" الفضائيات نقلت المصريين الى داخل أفغانستان هذه المرة، وتحديداً الى المواقع التي سمحت فيها سلطات طالبان بوجود مراسلين. وإذا كان عدد محدود من المصريين يعلم تفاصيل حياة جمال الدين الأفغاني الذي وصل القاهرة في عام 1871، وكان من بين تلاميذه الشيخ محمد عبده وسعد باشا زغلول، وأثرى وأثّر في حياة المصريين، وحفر اسمه في تاريخهم، إلا أن عدداً اكبر على صلة أوثق بمسجد ودار مناسبات ومستوصف جمال الدين الأفغاني في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة، وهي المؤسسة التي صارت علامة من علامات المنطقة، لا سيما المستوصف الذي يتوافد عليه الآلاف، فهو يتعاقد مع أكبر الأسماء في عالم الطب التي تتقاضى في عياداتها الخاصة مبالغ تزيد على مئة جنيه مصري للكشف الواحد، في حين لا يدفع المريض أكثر من خمسة أو عشرة جنيهات للطبيب نفسه في مستوصف الأفغاني. فين الكاتشب! وليس بعيداً عن "جمال الدين الأفغاني" في مصر الجديدة، وفي ضاحية مدينة نصر المتاخمة، شارع كابول ومسجد كابول اللذان كانا يؤمهما الآلاف يومياً من دون التفكير كثيراً في الاسم، لكنهم - الآلاف - حتماً باتوا في الأسابيع الأخيرة يستدعون في ذاكرتهم مشاهد القصف والموت والجوع والفقر والحياة البدائية حيث المدينة أصل التسمية. كاتب مشهور آخر هو أحمد رجب وزميله فنان الكاريكاتير مصطفى حسين دأبا على التعبير عن نبض الشارع المصري - وأحياناً تشكيله - من خلال زاويتهما اليومية المشتركة في جريدة "الأخبار"، وقضية "بوش - بن لادن" ليست استثناء. فها هو رجل أفغاني بلحيته وعمامته يعتلي ربوة على أحد الجبال القفراء ممسكاً بساندويتش هامبرغر ألقت به طائرة أميركية، وهو ينادي على قائدها بغضب: "فين الكاتشاب يا كفرة". ولأن الأميركيين لم يكتفوا بإلقاء وجبات الطعام ذات المحتوى الغذائي والمفعول الانساني، فهم يلقون كذلك على الشعب الأفغاني الجائع المشروبات أيضاً، وهو ما حث الثنائي رجب وحسين على تقديم ثلاثة رجال أفغان جلس اثنان منهم على ربوة يحتسيان الشاي المعطر الملقى عليهم، وطالب الثالث الطائرة الأميركية المحلقة بشاي بالنعناع مع "كوتشينة". نعود من حيث بدأنا الى "أحباب الله" وشباب الغد و"قادة المستقبل"، إذ أمسك الصغير أحمد بعد انتهاء نشرة الأخبار بالمجلة التي كانت والدته تطالعها، وأخذ ينظر الى الغلاف بتمعن شديد، ثم سأل بجدية شديدة: "من منهم الطيب ومن الشرير؟" وهو يشير الى صورتي "بوش وبن لادن". هنا أسقط في يد الأم. فأحمد يذهب الى مدرسة أميركية في القاهرة، إذن لا يمكن أن يكون بوش الشرير، وأحمد كذلك مسلم، لذا لا يصح أن يكون بن لادن الشرير. فتظاهرت الأم بحالة من الصمم المفاجئ والموقت، وأدارت مؤشر التلفزيون الى حيث حان موعد مسلسل "باي ووتش" الأميركي على إحدى الفضائيات العربية.