جهود دعوية وإنسانية لتوعية الجاليات وتخفيف معاناة الشتاء    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    NHC تنفذ عقود بيع ب 82 % في وجهة خيالا بجدة    العمل الحرّ.. يعزز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    الاحتلال يكثّف هجماته على مستشفيات شمال غزة    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    المملكة تدعم أمن واستقرار سورية    "أطباء بلا حدود": الوضع في السودان صعب للغاية    حرب غزة:77 مدرسة دمرت بشكل كامل واستشهاد 619 معلماً    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    رينارد: سنتجاوز الأيام الصعبة    اتركوا النقد وادعموا المنتخب    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    غارسيا: العصبية سبب خسارتنا    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    الراجحي يدشّن «تمكين» الشرقية    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    عبد العزيز بن سعود يكرّم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبد العزيز للصقور    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    وزير الداخلية يكرم الفائزين بجوائز مهرجان الصقور 2024م    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    طريقة عمل سنو مان كوكيز    الموافقة على نشر البيانات في الصحة    جامعة ريادة الأعمال.. وسوق العمل!    نقاط على طرق السماء    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    المدينة المنورة: القبض على مقيم لترويجه مادة الميثامفيتامين المخدر (الشبو)    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسار الثورة الكوبية وصولاً الى الحائط المسدود . الفصام المطلق بين السلطة والمجتمع ، وبين السياسة والاقتصاد 3
نشر في الحياة يوم 26 - 01 - 2001

بعدما تناولت حلقة الأمس العلاقة بالسوفيات بين التمرد الايديولوجي والتبعيتين الاقتصادية والاستراتيجية، هنا التتمة الأخيرة.
كان لا بد من ابتداع طريقة جديدة لمواجهة الكارثة. وبدا، بوضوح لا يقبل الشك، ان التجريب الايديولوجي القديم لم يعد يصلح لتحديات التسعينات. هكذا اعلن كاسترو، في 1990، عن "دخول مرحلة خاصة لأزمنة السلم" التي تركت أعمق آثارها على حياة الكوبيين.
فهافانا التي كانت تستورد، من موسكو، سبعة اطنان من النفط بالمقايضة مع طن واحد من السكّر، بدت مدفوعةً لأن تعطي التوفير في الطاقة أولويتها المطلقة. وفعلاً أُغلقت المعامل والمكاتب وطغى تقنين متصاعد لها لا تزال آثاره باديةً حتى الآن في ضعف الاضاءة وانقطاعات التيار. كذلك قُلّصت خدمات النقل العام الى حدّها الأدنى، فأنزل الكوبيون الدواب الى الشوارع، واستنفروا عربات الخيل، واستوردوا الدراجات من الصين بكثافة مثلما ابدعوا "الكوكو" الصفراء: وهي تركيب دراجة نارية على جسم سيارة بالغة الصغر لا تتسع لاكثر من شخصين. وفي الحقول نابت الثيران والابقار مناب التراكتورات. لا بل بلغت حدة التقنين المتصاعد باستمرار ان صارت وجبة الطعام هدفاً نضالياً للفرد الكوبي.
وقد يكفي القول لفهم ما ألمّ بالجزيرة ان مبادلاتها الاقتصادية انهارت تماماً: فتراجعت الصادرات السنوية من 4،5 الى 1،1 بليون دولار، والواردات من 1،8 الى 1،2 بليون. وغدت البلاد مضطرة، ابتداء من 1991، الى ان تدفع مقابل وارداتها من النفط بالدولار، فارتفعت كلفته الفعلية الى اكثر من عشرة اضعاف ما كانته.
ذاقت كوبا علقم القطيعة مع اميركا من دون رعاية روسيا. هكذا شرعت البروميثيوسية الأولى التي اختلّت النسبة بين قدراتها واهدافها المعلنة، تنتهي مأسوياً: لا نفط ولا اسمدة ولا قطع غيار فيما الهبوط في طاقة الانتاج نسبته 80 في المئة. حتى الرز، وهو من السلع الشعبية في الغذاء الكوبي، تراجع انتاجه بنسبة 75 في المئة. ولم تسلم المستشفيات والصيدليات التي غدا مشهدها متلازماً مع الطوابير، مثلها مثل مراكز التموين الشعبي. وامتد الامر، كما وصف لي مقيم اجنبي في كوبا، الى جوانب في القيم والسلوك، كالصداقة مع الكوبيين: ف"من هو محترم انكفأ مُحرَجاً لعجزه عن الوفاء بمستلزمات الصداقة، ومن هو عكس ذلك صار انتهازياً"
ولئن تعوّد كاسترو ان يكشف قدراته في الذهاب يساراً، إذا به يكشف قدرات لا حدود لها في الذهاب يميناً، من دون ان يكون بالضرورة انتهازياً. هكذا ردّ بأن تحول نحو مزيد من الرأسمالية، لا نحو الاشتراكية كما كانت الحال إبان مناكفاته مع السوفيات. اما الرأسمالية التي اختيرت، وما كان يمكن اختيار غيرها، فكان عماداها السياحة والدولرة. ذاك ان مؤتمر الحزب في 1991 الذي اعلن رفض تقليد الغورباتشوفية والبيريسترويكا هو نفسه الذي مهّد، بعد عامين، لانهاء تحريم الاستخدام للعملة الاميركية. وكان من نتائج هذه الخطوة الكبيرة ان طُردت البيزو المحلية من التداول، لا سيما وقد صار في وسع الكوبيين دخول الدكاكين التي تتداول الدولار بعدما اقتصر دخولها قبلاً على الاجانب وبعض كبار المتنفذين في الحزب والدولة.
وبعد ان عاشت السياحة طويلاً بصفتها لعنة وقذارة امبريالية، صارت رهان الحكومة التي ما لبثت ان اجازت للسكان التعاطي مع ذويهم في الولايات المتحدة وهو، بدوره، ما ظل ممنوعاً حتى 1993. فهناك اليوم 5،1 مليون كوبي من المهاجرين والمنفيين وذريّتهم يقيم معظمهم في الجارة الشمالية. وفي 1997، مثلا، بلغت مساعدات هؤلاء لاقاربهم في الجزيرة 800 مليون دولار، فيما لم يكن المبلغ، في 1987، يتعدى ال 100 مليون. وفي المقابل، فمن 300 الف سائح قدموا الى كوبا عام 1990 ارتفع العدد الى 600 الف عام 1994 والى مليون عام 1996 ثم الى مليون ونصف المليون عام 1998 والى قرابة مليونين هذا العام.
وقصارى القول ان كاسترو وسلطته تعززا ظاهرياً. فتحركات المعارضة وارتفاع نبرة التذمر، في 1993 و1994، والتي ادت الى صدامات في الشوارع وسقوط جرحى، لم تعد ملحوظة على سطح الحياة الكوبية اليوم. ولوهلة يبدو ان الزعيم الشيوعي نجح فعلاً في تجنب ورطته. فالدولة عادت تسيطر على عائدات مالية ليست بسيطة يوفّرها ما تدفعه لها شركات الاستثمار السياحي، وما تستقطعه لنفسها من الدولارات المحوّلة من اميركا ومن سائر عمليات التبادل الداخلي والخارجي.
لكن الجزيرة لن تحتمل طويلاً العيش باقتصادين: واحد محوره البيزو الذي لا يُستخدم عملياً الا في بعض مراكز التموين الحكومي والآخر، ومحوره الدولار، يستولي على سائر الفضاء، رافعاً اعلامه في السوق السوداء كما في المخازن الحكومية التي غدت تبيع بالعملة الخضراء. والوجه الآخر لحقيقة الاقتصادين ان ثلثي الكوبيين، واكثر من ثلاثة ارباع الهافانيين، صاروا يعيشون بمستويين: واحد، هو المساعدات الاولية البسيطة للسلع المدعومة، وهو ما ينتظم حول البيزو. والثاني، ومجاله الاستهلاك الاوسع، فيتحرك على ايقاع الدولار و"المهنة الأخرى" المتصلة به.
وكبار المستفيدين من "العملة الجبّارة" هم عموم اقارب المقيمين في الولايات المتحدة والعاملون في القطاع السياحي والمشاريع المشتركة، وصولاً الى بائعي الهوى وبائعاته ممن يبدو، بعد تجارب روسيا واوروبا الشرقية، انها تركة اشتراكية اصيلة. وهؤلاء لئن طرحوا على الدولة واقتصادها تحديات صارخة، فقد استجابت بأن راحت توزّع على العاملين في القطاعات المنتجة للقطع النادر، اي السكّر والتبغ والسياحة، مكافآت تشجيعية بالدولار يصيب الفرد منها 45 دولاراً. بيد ان المبلغ هذا يبقى اقل من نصف في المئة من الانفاق السنوي للكوبيين بالعملة الاميركية، وهو يتجاوز البليون دولار. وهذا، بلغة أخرى، يعني ان ما تقدّمه الدولة للحد من تفاوت الاقتصادين لا يردم اية هوّة، بل يزيد في تظهير التبايُن.
وللمرء ان يلاحظ الفارق الهائل بين عالمي هذين الاقتصادين، حين يرى رجلاً مسناً وفقير الملمح يحاول بيع صحيفة "غرانما" الحزبية في سوق للسيّاح وللكوبيين المتجهين بابصارهم الى كل السلع ما عدا هذه. او حين يقارن سيارات "لادا" الروسية العتيقة التي كانت تستوردها كوبا بكثافة في الماضي بسيارات المرسيدس والبي. أم. دبليو الفارهة التي ادخلتها الشركات العاملة في الجزيرة اليها.
وهذا، من ناحية أخرى، ما يثير لدى شعب كثيراً ما افتخر بالمساواتية والكرامة الوطنية شعوراً مريراً بالاستلاب.
فالدولة لم تكتف بأن رفعت راية السياحة عالياً، بل منعت الكوبيين من دخول مراكزها ومنشآتها. ثم خففت المنع بقصره على استخدام بعض الاماكن والمرافق. وهي اقامت، بين ما اقامته، جزراً بأكملها هي حصر على السيّاح وحدهم.
وفي الاطار هذا صدر، في 1995، المرسوم الذي الغى القيود عن التوظيفات الخارجية، متيحاً للاستثمار الاجنبي ان يحضر بنسبة 100 في المئة، ومطلقاً حركة البناء وشراء الأراضي التي اثمرت انفجاراً عمرانياً، لا سيما في المراكز والمنشآت السياحية، في حي ميرامار الفخم كما في منطقة فاراديرو. والمشاريع الجديدة هذه، والتي تقتطع الدولة منها حصةً تتراوح بين 30 و50 في المئة من أرباحها، تتولى تحويل الاقتصاد الكوبي على نحو يجعل وصفه ب"الوطني" مبالغاً فيه جداً. فاذا كانت الشركات الاجنبية لا تزال تحس بالنفور لأن الدولة تفرض عليها اختيارها للعمال والعمالة، الا ان تلك الشركات غدت حاضرة في القطاعات الاكثر استراتيجية للاقتصاد الكوبي: من التقنيات البيولوجية والكيماوية الى تصنيع المواد الصيدلية، ومن استغلال النفط الى شحذ النيكل. ومن يظن ان السيجار الكوبي الشهير كوبي كلياً يخطىء، اذ تسيطر مؤسسة "تاباكاليرا" الاسبانية على عمليات تصنيعه. والشيء نفسه يصحّ في صناعة السكّر التي تضع "مرسيدس بنز" الالمانية للسيارات يدها عليها بعد إثقالها بالاستثمار. وعلى نطاق أصغر، وافقت "أديداس" للملابس الرياضية على "رعاية" النشاطات الرياضية الكوبية كلها، فيما تتعدد في البلاد مواقع "بنيتون" للألبسة، هو الذي يستقبلك اعلان ضخم له لدى دخولك مطار جوزيه مارتي.
ومن يسير في شوارع هافانا سيفاجئه عدد الذين يطرحون عليه أحد السؤالين اللذين هما مفتاح التسوّل: من أين أنت؟ أو: كم الساعة؟ فاذا اتى الجواب ايجابياً بدا كل شيء قابلاً للتفاوض والبيع بالدولار الذي يقارب سعر واحده نصف متوسط الاجر في كوبا.
ومن الطبيعي في وضع كهذا ان يكتسب الفساد والرشوة موقعاً لم يكن لهما سابق في بلد المساواتية. فتروح الصحف والتقارير الحزبية، منذ قرابة عامين، تتحدث عن "ضياع" كمية من الموارد، او تشير احتفالياً الى ان ما ضاع "أقل" مما ضاع في اعوام خلت.
ابعد من هذا ان التركيز السياحي فصل عن الثورة قاعدتها الاكثر ولاء في المناطق الشرقية والزراعية القليلة الاستفادة من السياحة، والتي تفتك بها اعلى معدلات البطالة في البلاد. والاهم، ربما، ان الظاهرات الاجتماعية الخطيرة شرعت تكشّر عن انيابها: فكوبا غدت بلداً كحولياً، بعدما عانت، اوائل التسعينات، ارتفاعاً مدهشاً في حالات الانتحار الناجمة عن تآكل حضن الدولة بعد تآكل حضن العائلة. واللافت للنظر اليوم استيقاظ الكوبيين على "اصولهم": فآلاف من ابناء المهاجرين الذين اتوا على دفعات من اسبانيا، او حتى من سورية ولبنان، بدأوا يبحثون عن اقاربهم هناك كأنهم يفكّرون في الالقاء بأنفسهم الى مرفأ آمن من مركب يغرق.
واذا تجرأت الكنيسة فطرحت على نفسها اداء بعض الوظائف التي انكمشت عنها الدولة، فالوجه الآخر للعملية تزايد التبرعات، من اسبانيا وبلدان اوروبا خصوصاً، لاعانة النشاطات الثقافية او تقديم الخدمات الصحية.
في وضع كهذا، هل يستطيع الخارج ان يحول دون معاناة الداخل، او ان يمدّ بعمر النظام الكاستروي؟
على رغم محاولات متعددة من ادارة كلينتون الديموقراطية لتخفيف الحظر، استمر الضغط الجمهوري في الكونغرس ومن ورائه اللوبي الكوبي في الولايات المتحدة لتشديد الحصار، كائنة ما كانت كلفته الانسانية. وفعلا صدر في 1992 و1995-1996 قانونا توريشيللي وبورتون - هيلمز: اولهما منع فروع الشركات الاميركية في الخارج من المتاجرة مع كوبا، واجاز للرئيس الاميركي ان يقطع العون الاقتصادي او التجاري عن كل بلد يساعدها. فيما الثاني زاد اجراءات الحصار وكثّف أسبابه الموجبة.
وفي هذه الغضون كان كاسترو قد "مزح"، في 1994، مزحته الاخيرة بشعبه وبالولايات المتحدة فيما كان اليمين المتشدد يحقق انتصاره الانتخابي الباهر في الشمال، والذي توّجه صعود نيوت غينغريش. ذلك أنه، ورغبةً في ارباك ادارة كلينتون وسياستها في استقبال الكوبيين، سمح لثلاثين الفاً بالسفر دفعة واحدة. وكان هؤلاء خليطاً من اصحاب السوابق والسرقات الصغيرة، فضلاً عن بضعة معارضين ومتذمرين. وفعلاً نجحت الخطوة الكوبية في ارباك كلينتون الذي نقض ما كان معمولاً به قبلاً في أميركا من قبول اوتوماتيكي لكل هارب او لاجىء كوبي.
بيد ان هذه "المزحة" جعلت الاميركيين الراغبين في الضغط لتخفيف الحصار اضعف موقعاً في مواجهة صقور اليمين المتشدد.
مع هذا تمكن الرئيس الاميركي من تقصير عمليات الحصول على اذن رسمي بالسفر، وهو اصلاً يقتصر على البحاثة والصحافيين وذوي الاصول الكوبية واصحاب الاوضاع الخاصة التي تُبحث حالةً حالةً.
وفي النهاية أدّت الضغوط المتواصلة لبعض الديموقراطيين وللوبي الزراعي وبعض الشركات الاميركية الطامحة الى تأسيس موقع قدم لها في كوبا، الى تصويت الكونغرس لمصلحة تحرير بيع السلع الغذائية والطبية من مشمولات الحصار. الا ان التصويت، تبعاً لتوازنات القوى، جاء أعرج: فقد ترافق، بفعل ضغط الجمهوريين واللوبي الكوبي، مع منع تمويل المبيعات الى الجزيرة، سواء جاء التمويل من القطاع الخاص او الرسمي. وبينما تحرك كاسترو مجدداً فقاد تظاهرة معارضة للقرار الاميركي ومنددة به من دون تمييز، عاد الى الواجهة الصراع المرّ بين النظريتين اللتين تتنافسان في عنادهما: تلك الأميركية التي تقول أنْ لا رفع للحصار قبل اقامة تعددية سياسية وتحرير المساجين، وتلك الكوبية التي تقول برفع الحصار أولاً ومن دون شروط. ولئن كان جورج بوش، ابان حملته الانتخابية، قد برهن على حماسته في تطبيق النظرية التقليدية لبلده، فان الصلات الوطيدة بين شقيقه جيب، حاكم فلوريدا، وبين كوبييها لن تسمح بتوقع انفراجات تُذكر.
ثم ان السجال الاميركي - الكوبي بدأ يتأثّر بعنصر آخر. فغالباً ما ظهرت الولايات المتحدة في معركتها الدعاوية والسياسية في مظهر ثأري وانتقامي لا ينسى جروح الحرب الباردة، بعدما انهار الاتحاد السوفياتي نفسه. وهذا مع العلم انها صالحت الصين وفيتنام وانفتحت على كوريا الشمالية التي زارتها مادلين أولبرايت مؤخراً. وهكذا فبدل ان تسقط سياسة الحصار والمقاطعة كاسترو، قوّته واثارت خلافات لا تنتهي بين واشنطن وشريكاتها الغربيات، وبينها وبين بعض لوبيات المصالح في الولايات المتحدة نفسها.
الا ان العنصر هذا بدأ يتعادل مع عنصر يوازنه، مصدره التحول الاجمالي في سياسة واشنطن في اميركا الوسطى عما كانته ابان الحرب الباردة: فقد حل محل نهج التدخل اللاديموقراطي في بلدان كغواتيمالا عام 1954 أو تشيلي عام 1973، نهج ينتصر للديموقراطية ويعادي خصومها. وهذا ما اتخذ، في هايتي مثلاً، شكل التدخل العسكري المباشر لاعادة رئيسها ارستيد الى الحكم.
واذا كان "خير هذا بشرّ ذا" يختصر وضع الولايات المتحدة حيال كوبا، فان ذلك ما يترك لسلوك كاسترو هامشاً بعيداً من القدرة على التأثير. هذا نظرياً فقط:
فالمذكور، ولأنه في آخر المطاف ايديولوجي ومغامر اكثر منه انتهازياً، لم يساعد نفسه حيال الذين ارادوا مساعدته: فهو لم يكفّ عن التأكيد على ان اجراءات الانفتاح اضطرارية، مُحرجاً الدول التي خاضت مواجهات فعلية ضد سياسة الحصار. وهو، بدل استكمال الانفتاح الاقتصادي بآخر سياسي، مضى يجدد ايمانه المطلق بالاقتصاد الاشتراكي والتدخلي الذي سيعود اليه "بمجرد ان تسنح الظروف".
والاطراف الاكثر استثماراً في كوبا ودعماً لها، بل رغبةً في فك الحصار عنها، ككندا واسبانيا والمجموعة الاوروبية، تلقّت كلُ واحدة منها لكمة كاستروية. ففي مؤتمر باناما، قبل اسابيع، رفض ادانة "إيتا" الباسكية كمنظمة ارهابية. وكان اثار غيظ رئيس الحكومة الكندي جان كريتيان برفضه اطلاق سراح منشقين سعت كندا الى حمله على اطلاقهم. اما الوفود الاوروبية التي تطالبه باجراءات تتعلق بحقوق الانسان، فيعطيها بسمة موناليزية لا تُفهم مقاصدها، ثم يتبيّن انه عازف عن كل تغيير. والآن تأتي أزمته مع تشيخيا، بسبب اعتقال هافانا نائباً ووزيراً سابقاً وقائداً طلابياً اتُهما بالضلوع في نشاطات منشقّيها، لتزيد صعوبات القائد الكوبي حيال الرأي العام العالمي.
ولوهلة ظُن ان الترياق قد يأتي مجدداً من موسكو. وفعلاً قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة الجزيرة نهاية العام الماضي ليتكشّف اللقاء مع كاسترو عن سوء تفاهم ضخم. صحيح ان الزعيم الروسي اعلن في طريقه الى اميركا الوسطى ان "كوبا شريكنا التقليدي" وانها "كانت عظيمة وبالغة الأهمية لنا لأنها امتلكت دائماً موقفاً مستقلاً". وردّ كاسترو على التحية بأحسن منها ليتفاجأ بمطالبة زميله الروسي بتسديد 70 في المئة من ديون الحقبة السوفياتية على كوبا. وردّ كاسترو بأن الانسحاب العشوائي للسوفيات عام 1989 هو الذي ورّط الاقتصاد الكوبي بخسائر بالبلايين لا يزال يبحث عن تعويضها.
اما المشروع الامبراطوري الذي عوّل الزعيم الكوبي على الاستفادة منه، هذه المرة، فهو الذي يرعاه الرئيس الفنزويلي شافيز. ذلك ان الاخير استقبل كاسترو بالترحاب في كراكاس، وتوصّل معه الى اتفاقات مناسبة جداً للكوبيين يدور أهمها حول النفط. فقد ابدت فنزويلا استعدادها لتزويد الجزيرة ثلث حاجتها النفطية بسعر 20 دولاراً للبرميل. وابعد من هذا ان السعر المخفّض يمكن سداده بخليط من النقد والمقايضة وتأجير الأطباء والممرضين والفنيين الكوبيين العاطلين عن العمل.
بيد ان الاعتراض على ما فعله شافيز امتد الى دوائر في سلطته تعرف ان الاقتصاد الفنزويلي لا يحتمل هذا السخاء كله كرمى لرغبة التحول زعامة اقليمية على الطراز القذافي. وعلى رغم العلاقات الوثيقة بين كوبا والمكسيك، تحفظت الأخيرة عن سلوك فنزويلا لأن "كوبا لا تدفع ديونها". أما أهمية الموقف الأخير فتنبع من ان المكسيك شريكة فنزويلا في سياسة الاعانة لبلدان اميركا الوسطى. ثم ان الأسوأ هو ما يمكن توقّعه مع قدوم الادارة المحافظة لفنسنتي فوكس الشديدة الممالأة لواشنطن.
ما الذي يبقى؟ تبقى شعارات الثورة وأصواتها العالية، وهي ما يمرّ الناس في محاذاتها غير مكترثين فيما هم يسعون الى تحصيل الدولار. ذلك اننا حيال ايديولوجيا هرمة وشرعية مفقودة لم يعد يديمها الا اثنان: خوف الناس من بطشها ومن تغيير طريقة في الحياة دامت 42 عاماً، وسياسة الولايات المتحدة. فحماقة هذه الاخيرة ما سمح لكاسترو بأن يحوّل دراما اليان غونزاليس مناسبة لتحريك المشاعر الوطنية المؤازرة للنظام.
بيد ان هذه المشاعر لن تلبث ان تنفضّ. فالمشكلة لا تُحلّ بهذا الاجراء او ذاك. انها تُحل، في النهاية، بمواجهة السبب "والسبب، كما قال كوبي ناقم، هو الاشتراكية. فهي نظام مفلس اخلاقياً. مفلس سياسياً. مفلس اقتصادياً. وآن له ان يسقط".
لكن الكوبي هذا، وبشيء من المداعبة الساخرة التي تستعيد اللغة الرسمية، اضاف خاتماً حديثه: "يا رفيق".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.