في البداية لم يكن ثمة ما يشير الى ان "اللعبة" بين الاميركيين الشماليين والكوبيين ستصل الى حافة الهاوية. في ذلك الوقت كانت الولاياتالمتحدة الاميركية تعيش مرحلة الانتخابات الرئاسية التي هي - عادة - مرحلة انتقالية قد يصعب فيها اتخاذ العديد من القرارات، ولكن يمكن فيها لرئيس يعرف انه خارج من الحكم ان يجرّب حظه بضربة قوية تثير ردود فعل شعبية تكون عادة لمصلحته. وفي ذلك الحين لم يكن ثمة ما هو شعبي في الولاياتالمتحدة، قدر التصدي للخطر الاحمر. اذ ان الشعب الاميركي كان مهيأ، منذ انتهت الحرب العالمية الثانية وبدأت تدور رحى الحرب الباردة، للتحسب للخطر الشيوعي. وكان الاميركيون يعتبرون، بشكل عام، ان ذلك الخطر ان كان يكمن لهم، في مكان ما، فانه يكمن هناك في الجنوب، أرض الصيد الخاصة بأميركا الشمالية، والتي ما ان يسفر نظام فيها عن اي وجه تقدمي له، حتى يصرخ الاميركيون الشماليون "الروس قادمون… الروس قادمون". عندما قامت ثورة كاسترو في كوبا، كان ثمة دعم خفي لها من قبل الاميركيين الشماليين، فهؤلاء، على رغم اعلان كاسترو ورفاقه عن وجه تقدمي لهم، لم يكونوا يتصورون ان كوبا ستصبح شيوعية. كان ما يهمّهم هو المساعدة على التخلص من باتيستا، الديكتاتور الذي صار عبئاً عليهم. وكان في اعتقادهم انه سيكون من السهل استيعاب الثوار الجدد الملتحين، وذلك على الاقل بسبب تشابك المصالح الاقتصادية بين الجزيرة الكاريبية، والعملاق اليانكي. ولكن، بالتدريج، ما ان سقط باتيستا، وحلّ جماعة كاسترو في الحكم محله، حتى اكتشفت واشنطن ان في الامر خللاً ما، وبالتدريج بدأ "لوبي" قوي يتكوّن من فلول الهاربين من كوبا، وراح ذلك اللوبي يضغط على الادارة الاميركية كي تحاصر النظام الجديد، وتردعه عن الإيغال في خطواته "الشيوعية" ان لم تتمكن من اسقاطه. قبل ذلك كان الكوبيون اتخذوا خطوات خجولة تكشف عن ان عداءهم "الفكري" للجار الاميركي الشمالي القوي، لا يمنع من التعاون في مجالات اقتصادية. لكن الخطوات التي اتخذتها كوبا في اتجاه العالم الثالث، والتقارب الذي بدأ يحدث مع موسكو، اضافة الى ضغوطات "اللوبي" الكوبي في فلوريدا، كل هذا لا بد له، في نهاية الامر من ان يفعل فعله، وهكذا كان شهرا حزيران وتموز يونيو ويوليو 1960، الشهرين اللذين بدأ فيهما الوضع ينهار في العلاقة بين هافانا وواشنطن، ليصل التدهور الى ذروته يوم 26 تموز، حين راحت التظاهرات الشعبية - المدفوعة من السلطة، كما تفهم واشنطن الامور - تجوب الشوارع مرددة اعنف الشعارات ضد اميركا، وأبسطها "كوبا سي، يانكي نو!" - أي "نعم لكوبا، لا للاميركيين الشماليين" ووصلت تلك التظاهرات العدائية الى ذروتها خلال تجمع شعبي، كان الاكبر الذي عرفته كوبا في تاريخها حتى ذلك اليوم الصورة، وقف فيه ارنستو تشي غيفارا خطيباً ليقول ما لم يكن قد قيل قبل ذلك اليوم في كوبا بذلك الشكل العلني. وكان ذلك لمناسبة انعقاد مؤتمر شبيبة اميركا اللاتينية في العاصمة الكوبية. بالنسبة الى واشنطن، كشف غيفارا القناع عن وجه الحكومة الثورية، ووضع النقاط على الحروف، ولا سيما حين راح يقول صارخاً ان كوبا "بفضل الاصلاح الزراعي الراديكالي، اعطت لنفسها اخيراً الوسائل التي تمكنها من التخلص من انواع الاستغلال كافة". وكلمة "استغلال" هنا كانت تعني الولاياتالمتحدة الاميركية بشكل مباشر. ولم يكتف غيفارا بذلك، بل انه في لحظة من لحظات الحماس الثوري خلال ذلك الخطاب، قال موجهاً الكلام الى الاميركيين الشماليين ان الدول الصديقة، حقاً لكوبا هي الاتحاد السوفياتي والصين وبقية البلدان الاشتراكية. وكان هذا اكثر مما يتحمله ساسة واشنطن، في ذلك الحين بالطبع. والحال ان ذلك الخطاب لم يأت من عدم، اذ كان سبقه في اوائل العام نفسه توقيع معاهدة تجارية مع موسكو، ثم اصدار كاسترو اوامره بمصادرة مصافي النفط المملوكة للشركات الاميركية في بلاده. فردّت واشنطن عند ذاك بوقف استيراد السكر من كوبا، وقررت هذه الاخيرة مصادرة الممتلكات الاميركية في الجزيرة. غير ان ذلك كله لم يجعل واشنطن تتخيل انه سيؤدي الى حالة العداء الشديدة، ولا سيما اذ اتخذت، هذه المرة، ابعاداً قارية. وهكذا لم يعد امام واشنطن الا ان تعلن حالة العداء الصريح، ولم تمض شهور قليلة الا وكانت العلاقات تقطع بين البلدين. ثم كان ما كان من تطور للاحداث، من غزوة خليج الخنازير، الى ازمة الصواريخ الكوبية. باختصار، أصبحت كوبا شيوعية في خاصرة واشنطن. ولا تزال حتى اليوم، رغم ان الظروف قبل ذلك كانت مهيأة لتقارب بين البلدين.