بيروت التي مشى في شوارعها العريضة موكب جنازة الرئيس الراحل شارل حلو صباح التاسع من كانون الثاني يناير 2001، ليست المدينة التي وُلد وترعرع فيها شارل حلو الفتى بين ساحة الدبّاس ومدرسة الآباء اليسوعيين المجاورة. و"الدولة" التي سارت وراء نعش الرئيس الرابع للجمهورية الاولى، لم تعد هي الدولة التي نظّر لها شارل حلو صحافياً وكاتباً وأمسك بأختامها رئيساً في ستينات القرن العشرين. لقد بدا المشهد سوريالياً، كأن لبنان الراهن يشيّع الى مثوى التاريخ آخر فصول لبنان الماضي الذي تحوّل الى حكاية... جميلة. في سنواته الاخيرة، وعلى رغم حرصه الشديد على البقاء في الضوء ثقافياً وانسانياً، وعلى التواصل مع الحاضر الرسمي بروتوكولياً، بقي شارل حلو مشدوداً بالسليقة والفكرة والمفاهيم الى لبنانه القديم. فإذا قارن الوقائع عاد الى منطق الماضي، واذا ساجل وتحاور على صفحات الصحف، فمع رجال الماضي وعلى رأسهم المرحوم ريمون اده. ولأن قصة الجنوب، الارض المفتوحة على الصراعات والمقاومات منذ ولايته، هي نفسها بعد ثلاثين سنة، فإن معظم مقالاته وأحاديثه بقيت مركّزة على هذه القضية التي جلبت له عذاب "اتفاق القاهرة" وكلّ الانتقادات والافكار الجاهزة التي خدشت صورة الرئيس المثقّف والنظيف، الحريص جداً على صورته. ولأنه لم يؤمن يوماً بأن السياسة هي فنّ وضع الخرافات في نصابها التاريخي، فإن غربته عن عالم السياسة الحاضر، ومرارته التي كان يغلّفها بالنكتة المرّة والفكرة اللمّاعة، لم تقنعانه بوقف تقديم التبرير تلو التبرير عما فعل وما لم يفعل. فالقدر التاريخي لا ينفصل عن اخطاء كثيرة، وشارل حلو الذي وضعه القدر بعد الهزيمة العربية سنة 1967 في قدر اقليمي ولبناني صعب، لم يكن يؤمن بالقدر والمقدّر الذي يصفهُ بأنه هالة من السحر الذي ينشر اللامعقول. قدر شارل حلو وصورته الشائعة يشبهان صورة لبنان الجمهورية الاولى: ديموقراطي في مجتمع مدجّج بديكتاتوريات الطائفية والحزبية والعشائرية وحتى العسكرية في بعض المراحل. قوّته في ضعفه، تماماً، كتلك الفلسفة السياسية التي ابتُكرت لحماية لبنان الصغير، السريع المعطوبية، بالصداقات الدولية لا بالمغامرات الحربية… حداثته الفكرية وآفاقه الدولية الواسعة وانفتاحه على العصر والعالم كان تشبه "لبنان استاذه ميشال شيحا"، الذي كتب عن لبنان "البلد الجسر بين الشرق والغرب الذي يجب حمايته دائماً من العنف"، هذا العنف الذي مقته شارل حلو وفضّل عليه سياسة الضرب "بيد من قطن"، وابتكار التسويات المغلّفة "بالالتباس الخلاّق"، للتوفيق بين مثال الفكرة وقساوة الواقع كي لا يقع البلد في المحظور الدموي. لقد كان شارل حلو الرئيس صديق ديغول وعبدالناصر والبابا بولس السادس وليوبولد سنغور وجورج بومبيدو وفرانسوا ميتران، اكبر من لبنان الصغير الذي بدا بدوره اكبر من حجمه ودوره ومحيطه. لذلك ظهر كأن بداية نهاية لبنان ميشال شيحا وبشارة الخوري ورياض الصلح وكل منظومته السياسية والفكرية لاحت مع نهاية عهد شارل حلو، حين شدّت اهواء الشارع الحادة والسياسات الفظّة البعيدة عن روح التسوية العزيزة على قلب حلو، الوطن الصغير صوب المجهول من الازمات والثورات والحروب الصغيرة التي توجّت بالحرب الكبيرة سنة 1975. فكان حلو آخر رئيس للجمهورية قبل الحرب التي اشتم رائحتها في حريق طائرات الميدل ايست التي دمّرها الكوماندوس الاسرائيلي في نهاية 1968، ثم عاينها متغلغلة في العقول والنفوس خلال الازمة اللبنانية - الفلسطينية، واللبنانية - العربية، واللبنانية - اللبنانية التي انتهت موقتاً باتفاق القاهرة سنة 1969، كخيار بالاضطرار، بديل عن اتساع الانقسام وبالتالي الانفجار. وكما تتماثل صورة شارل حلو وصورة لبنان، فان قصة حلو تشبه ايضاً قصة لبنان القرن العشرين الذي عايشه شاهداً في الحكم وخارجه. والده صيدلي من بعبدا عاصمة متصرفية جبل لبنان، استقرّ باكراً في بيروت الولاية العثمانية، التي كان يعتبرها ابناء الجبل في ذروة وعيهم لذاتهم السياسية، عاصمة تاريخية قبل ان تتكرّس عاصمة رسمية، وعشية الحرب العالمية الاولى ولد شارل في منزل قديم لا يزال قائماً حتى اليوم على تخوم الاشرفية، على الطريق الشرقي من ساحة البرج. لكن الطفل الصغير افتقد باكراً صورة والده وصوته الذي غاب قبل ان يحقّق حلمه كما معظم أبناء الجبل الموارنة، في رؤية النزول الفرنسي في بيروت سنة 1918، فتكرّست في ذهن شارل ووجدانه صورة الوالدة الدمشقية الأصل حتى ومضة النور الاخيرة في حياته، وعنها كتب مراراً بيت الشعر المعروف "أحبّ كلّ أمّهات الارض من اجلك يا أمي". بالنسبة الى الآباء اليسوعيين الذين تفتحت جواهر عقله لديهم، بقي شارل حلو ابنهم البار وأفضل من يفاخرون بتفوقه والتزامه. لذلك سطع نجمه في سماء مرحلة الانتداب محامياً وصحافياً حيث اصبح كما كتب في ما بعد "صحافياً عتيقاً في الواحدة والعشرين من عمره". وذروة بروزه الصحافي الذي أدخله مسرح السياسة وكواليس قراراتها، كان تسلّمه ادارة جريدة "لوجور"Le Jour التي اصبحت اعتباراً من منتصف الثلاثينات المعبّرة عن افكار الكتلة الدستورية بزعامة الشيخ بشارة الخوري، في مقابل جريدة "لوريان"LصORIENT التي خاض على صفحاتها جورج نقاش صراعاً فكرياً وسياسياً دفاعاً عن افكار الرئيس اميل اده ونهجه. وفي "لوجور" ربط خيط سري، وجداني وفكري بين شارل حلو وفيلسوف النظام اللبناني القديم وأحد واضعي دستور 1926 ميشال شيحا الذي صار بالنسبة الى حلو المُلهم والمُعلّم والمُرشد، وهو الذين شجّعه على الاقتران بنينا طراد، أول محامية في لبنان وابنة شقيق الرئيس السابق للجمهورية بترو طراد والتي قال عنها حلو في مذكراته: "ان عقلها يربكني ويجذبني اكثر من جسدها". وهكذا: بين مجلس بشارة الخوري المفتوح للناس والمشرّع على الزعامة، و"صومعة" ميشال شيحا الفكرية والاجتماعية المغلقة الا على المنتقين، ومحيط آل طراد والمجتمع البيروتي وعائلاته التي صاغت صالوناته وانديته تاريخ لبنان السابق، اندفع شارل حلو من بيئة متوسطة غير سياسية الى الصفوف الاولى: سنة 1946 عُيّن اول سفير للبنان لدى الفاتيكان برتبة وزير مفوّض، واصبح وزيراً في حكومة رياض الصلح سنة 1948، ثم نائباً بارزاً عن بيروت سنة 1951، ثم وزيراً مرتين في عهد الرئيس كميل شمعون، وفي اول حكومة في عهد الرئيس فؤاد شهاب بعد ثورة 1958، عُيّن وزيراً لأيام، لأن الحكومة اسقطتها الثورة المضادة التي جاءت بالحكومة الرباعية لتصفية ذيول الثورة. لكن شهاب الذين شكّل نهجه التوافقي والاصلاح انبعاثاً متطوراً "للدستورية" القديمة على صعيد التوازن الداخلي والانفتاح على المدى العربي، لاقى مكاناً في جهازه للدستوريين القدامى واصحاب الموازين الدقيقة في الاخلاق ونظافة الكفّ، وكان بينهم شارل حلو، وفي آخر ولايته، وبعدما اتخذ قراره بعدم التجديد، همس الجنرال سراً اسم شارل حلو في اذن رئيس الحكومة حسين العويني على اساس انه "لا يشكو من شيء. آدمي وملفاته نظيفة"، وهكذا دخل حلو الحكومة الاخيرة في عهد شهاب كوزير للتربية من دون ان يدري ان الجنرال الأمير يحضّره لمهمة اكبر. وفيما كانت الماكينة الشهابية تعمل اما للتجديد او البحث عن مرشح يكمل عهد الجنرال، كان اقرب المخلصين لشهاب، الوزيران السابقان فيليب تقلا وفؤاد بطرس يعملان سراً لتسويق اسم شارل حلو عند رئيس المجلس النيابي كامل الاسعد ورؤساء الكتل الكبرى والفاعليات، بعدما استبعد الوزير فؤاد عمون القريب من كمال جنبلاط وعبدالعزيز شهاب كي لا يُقال ان النظام الجمهوري اصبح وراثيا. وهكذا انتُخب شارل حلو بشبه اجماع رئيساً للجمهورية في 18 آب اغسطس 1964، فكان فؤاد شهاب اول عسكري في العالم العربي يسلّم الحكم لمدني بطريقة دستورية هادئة في منطقة كان يسيطر عليها منذ العام 1949 اصحاب البزّات الخضر، ومعدّو البيانات الرقم 1. لم يكن شارل حلو يعلم عندما تسلّم الحكم ان الشرق الاوسط يقترب من العواصف، وان مفاتيح السلطة ستبقى في مكان آخر، أي عند الجنرال شهاب. فالجيش شهابي، والاكثرية النيابية شهابية، وكذلك الادارة والطاقم الرئاسي المكوّن من الذين لا غبار على ولائهم. وكانت سطوة الجنرال وسمعته وهيبته التي لامست عند محبيه مرتبة القداسة تجعل الكثيرين من الوزراء والمسؤولين يفضّلون المرور على جونيه عوض المجيء الى قصر الرئاسة في سن الفيل. وحاول حلو في الاشهر الاولى التأقلم مع الواقع الا انه اصطدم بالشهابيين بعد سنتين عندما حاول ان يؤسس عهده الخاص وان يعيد الزعماء الموارنة المقصيين كريمون اده وكميل شمعون الى داخل اللعبة ليستوعب الشارع المسيحي الناقم على الناصرية والشهابية ويقيم توازناً في الحكم يحرّره من وجدانية الشهابيين واجهزة الشعبة الثانية. وبسبب الصراع الخفي بينه وبين ضبّاط الجهاز الشهابي واركانه، طغى في المجالس وعلى صفحات الصحف المعارضة وعلى رأسها "النهار" تعبير الازدواجية، تدليلاً على حكم "برأسين واحد ظاهر هو شارل حلو وآخر صامت خفي وفاعل هو لأركان الرئيس شهاب، على ان هذا الصراع الخفي توّجه انقلابان: الاول اقليمي بعد هزيمة حزيران يونيو سنة 1967 وضعف نفوذ جمال عبدالناصر ضابط الايقاع العربي بامتياز، وسند "الشهابية" في لبنان، والثاني لبناني كرّسه اكتساح الحلف الثلاثي بزعامة الفرسان الموارنة ريمون اده وكميل شمعون وبيار الجميل للمقاعد النيابية في جبل لبنانوبيروت وكسر الاكثرية الشهابية الحاكمة في ربيع 1968. هذان الانقلابان أربكا الاجهزة الشهابية التي كانت تحضّر لعودة الرئيس فؤاد شهاب الى الحكم سنة 1970. فعلى الارض بدأت العمليات الفدائية الفلسطينية انطلاقاً من الجنوب وسط استقطاب لبناني حاد مع او ضد العمل الفدائي وفق الموقع الطائفي او الحزبي. ورافق انطلاق العمل الفدائي انهيار القيادة العربية الموحّدة التي كانت تأمر بمكافحة أي اعمال عسكرية غير منسّقة على الحدود او عبرها ضد اسرائيل خوفاً من جرّ العرب الى المعركة المدمّرة في غير اوانها. اما شارل حلو، فعقّد الانقلابان مهمته، فمن جهة كان مؤمناً ومقتنعاً بالحفاظ على اتفاقية الهدنة مع اسرائيل، مدعوماً من جهات لبنانية خصوصاً مسيحية ، ومن جهة اخرى يواجه سخطاً عربياً على لبنان ونظامه الذي يمنع ويضيّق على العمل الفدائي الذي استقطب اكثر من نصف اللبنانيين، خصوصاً المسلمين. حاول حلو اولاً الضغط بالاستقالة لاحداث الصدمة، وعاد عن الاستقالة في 20 تشرين الاول اكتوبر 1968 مشكّلاً حكومة رباعية دخل اليها ريمون اده وبيار الجميل عن الحلف وعبدالله اليافي وحسين العويني عن النهج. هذه الحكومة انفجرت بدورها من الداخل بعد اسابيع بسبب الخلاف على حرية العمل الفدائي. وكان انفجارها نذيراً لانفجار آخر بدأ يوم 23 نيسان ابريل 1969 بالصدام بين الجيش والفلسطينيين واليسار اللبناني والذي خلّف ازمة حكومية ووطنية دامت حتى تشرين الثاني. وخلال الازمة التي دامت سبعة اشهر وكشفت عمق الانقسام النفسي والسياسي اللبناني، وانكشاف الدولة امام الاتهامات بالتخوين وهجمات الشارع واغلاق الحدود من جانب سورية، حاول حلو وحيداً مواجهة العاصفة وتجنّب الاسوأ. ورفض طوال اشهر مبدأ التنسيق بين الدولة والثورة الفلسطينية الى ان رضخ لطلب الرئيس عبدالناصر، فوقّع قائد الجيش العماد اميل بستاني في 3 تشرين الثاني نوفمبر 1969 اتفاقية عسكرية مع المقاومة الفلسطينية عُرفت ب"اتفاقية القاهرة" ما زالت ظروف توقيعها ملتبسة حتى الآن. وعلى رغم اضطراره الى الموافقة على "الورقة العسكرية" التي وقّعها قائد الجيش والتي سمحت للكفاح المسلح بالانطلاق من الجنوب للقيام بعمليات في اسرائيل فإن حلو حاول نسف الاتفاقية من خلال نصّها بالذات عندما اضاف الى كل بندٍ منها التمسك بمقتضيات السيادة اللبنانية. وحاول مرة اخرى ابعاد لبنان وتحييده عن مضاعفات الصراع العربي - الاسرائيلي الخطرة على ارض البلاد ووحدتها الداخلية، فاستطاع في قمة الرباط سنة 1969 وبدعم الرئيس جمال عبدالناصر ان يحصل على تصنيف لبنان دولة مساندة لا دولة مواجهة. غير ان الحقائق على الارض كانت اقوى من النصوص والسياسات، خصوصاً ان الانهيار العربي كان بلغ الذروة وان الفلسطينيين كانوا اخذوا على الارض اكثر مما اعطتهم اتفاقية القاهرة. فسلّم حلو الامانة الى الرئيس سليمان فرنجية سنة 1970 لكنه لم يسلّم بحمل وزر اتفاقية القاهرة التي فرضتها القوة القاهرة. لذلك، وعلى رغم ان احداث الاردن ضاعفت اعداد المسلحين الفلسطينيين في لبنان بعد ايلول سبتمبر 1970 وهو ما ادى الى صدام فلسطيني - لبناني في ايار مايو 1973 الذي انتهى ايضاً موقتاً باتفاقية مكملة لاتفاقية القاهرة عُرفت ب"اتفاقية ملكارت". وعلى رغم ان اتفاق القاهرة صار مطلباً ل"الجبهة اللبنانية" بعد بدء الحرب وكذلك ل"جبهة الاتحاد الوطني" ودخل بنداً في الوثيقة الدستورية سنة 1979 وفي مقررات قمتي الرياضوالقاهرة سنة 1976 ايضاً، فإن الرئيس حلو بقي يعمل لتأكيد بطلان الاتفاق وعدم وجوده في الاساس. وعندما الغى مجلس النواب في ايار 1987 "اتفاق القاهرة" استحصل حلو على دراسات دستورية وقانونية تؤكد ان المجلس الغى نصاً غير موجود، بدليل ان المجلس النيابي وكذلك الحكومات المتتابعة لم تطّلع رسمياً على الاتفاق الا من خلال الصحف، وان رئيس الجمهورية لم ينشره ولم يوقّعه كمعاهدة وفق منطق المادة 52 من الدستور. واذا كان كل انسان يشبه ألمه، فان شارل حلو بقي حتى اللحظة الاخيرة مصاباً ب"عقدة اتفاقية القاهرة"، عاتباً على الناس الذين اخذتهم اهواؤهم وزعماؤهم الى قناعات اخرى، فالناس، على حدّ قوله، يسمعون ما حفظوه غيباً، ولا يكلّفون انفسهم الإجهاد والاجتهاد للبحث عن الحقيقة. على ان قصة اتفاق القاهرة ليست كلها عهد شارل حلو الصاخب. فهناك اجماع على ان اللوثة الديموقراطية لديه، جعلت ولايته قمة في المناخ الديموقراطي حيث ازدهر عصر الكاريكاتور الذي كان يصوّره بلباس الكاهن اليسوعي الضخم الجثة، المفتر الثغر عن ابتسامة طيبة، وفي عهده ايضاً تحققت انجازات عمرانية وانشائية ضخمة. ولم يتأثر الازدهار الاقتصادي والطفرة المالية بأزمة بنك "انترا" سنة 1966 حيث استفاد حلو من الازمة لتنقية القطاع المصرفي وتطوير قانون النقد والتسليف المستمرة مفاعيله حتى الآن. اما في السياسة الخارجية فكان شارل حلو هو الحضور العربي والدولي بامتياز، ففي مطلع عهده كان جمال عبدالناصر سيد الساحة العربية، وكان تأثير السياسة الفرنسية ما زال شديداً في لبنان نتيجة تراكم تاريخي كرّسته ايضاً "فرنسية فؤاد شهاب"، وسرت كيمياء خاصة بين شارل حلو وجمال عبدالناصر، أهّلت الرئيس اللبناني الراحل ليكون صلة الوصل بين الرئيسين المصري والجنرال ديغول في خدمة القضايا العربية. لذلك وبعد تراجع حضور عبدالناصر بعد العام 1967 وابتعاد الجنرال ديغول عن الحكم الى كولومبي لي دو زيغليز بعد العام 1968، شعر حلو ان لبنان فقد نقطة توازن عربية وسنداً دولياً مهما. تبقى مجموعة سمات في شخصية شارل حلو الانسان والحاكم. فحلو، وبسبب صفة الناقد الكامنة داخله كمثقف، لم يستطع الالتزام في اي حزب او جبهة. ولأنه امضى بين الكتب اكثر مما عاش بين الجماهير خرج من الحكم كما دخل اليه، أعزل الا من كفاءته. ومع انه كان في عداد لجنة الستة التي أسّست حزب الكتائب سنة 1936، لم يطل به المقام في الحزب اكثر من اشهر معدودة. كذلك بالنسبة الى الكتلة الدستورية التي كان عقلها ولسانها ولم ينتظم في صفوفها. وخلال الحرب اللبنانية الطويلة، ورغم قربه من قادة "الجبهة اللبنانية" التي كان يقيم في مناطقها، لم يشارك مطلقاً في نشاطها او توجهاتها، فبقي حضوراً وفكراً فوق جميع الحدود والمناطق، منشغلاً بالعمل الانساني والثقافي وببعض المبادرات السياسية الوفاقية في لبنان والخارج. كما شغلته اعتباراً من العام 1972 منظمة الفرنكوفونية التي اصبح رئيسها الفخري في الثمانينات. وفي سنواته الاخيرة التي واظب فيها على الكتابة في الصفحات الاولى من الصحف الرئيسية بالعربية والفرنسية استمر شارل حلو يدافع بأفكاره عن "لبنانه هو" متمسكاً ببعض الثوابت مع ميله الى تفهّم المتغيّرات التي قلبت صورة لبنان وأوضاعه. وفي حواره الاخير مع "الوسط" بدا معترضاً على الصيغة الدستورية لاتفاق الطائف وعلى تهميش المسيحيين في السياسة، وعلى مرسوم التجنيس الذي قال عنه انه استورد شعباً جديداً. ومع حرصه على مراعاة الرئيس اميل لحود، فإن حسّه الدستوري ومفهومه للسيادة جعله يكتب وينتقد غير مرة عدم ارسال الجيش الى الجنوب وترك الارض للمقاومة. فالمعادلة منذ العام 1969 بالنسبة اليه واضحة: على لبنان ان يتمسك باتفاقية الهدنة ما دامت الاستراتيجية العربية المشتركة غير قائمة. ولأن المقاومة الفلسطينية بأعمالها حمّلت لبنان مسؤولية خرق اتفاق الهدنة، جاء الاحتلال الاسرائيلي سنة 1978 ثم 1982، والاحتلال خلق المقاومة الوطنية والاسلامية وخلق كذلك العملاء، ومن هنا كما قال ل"الوسط" في تموز يوليو: "على الدولة ان تثبّت سلطتها في الجنوب وان تعيد اللاجئين اللبنانيين الى اسرائيل كي لا نستبدل اللاجئين الفلسطينيين بلبنانيين" في سنواته الاخيرة ايضاً خصص وقتاً للروح، فرمّم علاقاته مع الجميع بدءاً من ارملة الرئيس شهاب وصولاً الى العميد الراحل ريمون اده فضلاً عن اركان دولة ما بعد الطائف. فبالنسبة اليه، وفق مفاهيمه الانجيلية، الواجب يقضي بمحبة البعيد لا القريب وحسب. وحمل همّ الفقراء، فكان آخر عمل قام به ليلة وفاته التوقيع على شيكات مصرفية لمطاعم المحبة التي أسّسها ورعاها لإطعام الفقراء والمعوزين والمهجّرين. وشغله ايضاً الهمّ الماورائي وهاجس ما بعد الحياة والموت وهو المعروف بورعه الديني من زمن اليسوعيين، حيث كان طوال فترة حكمه لا يقدم على اي قرار قبل الاعتراف واجراء خلوة روحية، فضلاً عن انه لم يوقّع على عقوبة اعدام ولم يشطب خصماً بالقوة المادية او المعنوية. وعندما غاص في عالم الروح من دون ان ينعزل عن الناس راح يفكّر بالفرق بين المحسوس واللامحسوس، معتبراً ان كلّ ما يظهر هو رؤيا من اللامنظور. خلال فترة حكمه، قال عنه احد اصدقائه: "ان شارل حلو يصلح لرئاسة سويسرا لا لقيادة سويسرا الشرق، اي لبنان..." اما اليوم وقد ضاعت سويسرا الشرق فمن يصلح لحكم لبنان؟