"المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "تلال" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب الرياض" بتوقيع اتفاقيات إستراتيجية لتعزيز جودة الحياة في مشاريعها    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    اليوم..بدء الفصل الدراسي الثاني    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    أغرب القوانين اليابانية    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    عروض ترفيهية    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    مشاركة مميزة في "سيتي سكيب".. "المربع الجديد".. تحقيق الجودة ومفهوم "المدن الذكية"    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    منتخبنا فوق الجميع    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ابنتي التي غيّبها الموت..    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرئيس اللبناني السابق فتح دفاتر ذكرياته ل "الوسط". شارل حلو : نادم على قبولي رئاسة الجمهورية الثانية والأخيرة
نشر في الحياة يوم 07 - 08 - 2000

تلقت "الوسط" من الرئيس اللبناني السابق شارل حلو الرسالة الآتية:
"بكثير من الامتنان والشكر تلقفت مبادرتكم في فتح دفاتر الماضي للإضاءة على أحداث لا تزال طرية في الذاكرة اللبنانية والعربية، كونها أسست لسلسلة من المحطات والتحولات التي طبعت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين في وطني لبنان والعالم العربي.
ولأن الحديث من التاريخ الى التاريخ، فإن الدقة والأمانة تقتضيان مني توضيح العنوان الذي اخترتموه للحديث الصادر في العدد 444 تاريخ 31 تموز 2000، كي لا يفسر المضمون على نحو مغاير وتحمل العبارات أكثر من المعنى المقصود.
لقد استنتجتم ان الرئيس جمال عبدالناصر قد فرض اتفاق القاهرة، مما يوحي للقارىء العادي بأن الزعيم المصري قد قام بدور سلبي. أنا لا أنكر أن عبدالناصر مارس ضغوطاً سياسية وديبلوماسية من أجل حقن الدماء، لكنني أود التأكيد على أن ما فرض الاتفاق هو انقسام اللبنانيين حول العمل الفدائي، وشلل الحكم بسبب الأزمة الحكومية طيلة سبعة أشهر، فضلاً عن الدعم العربي الجماعي، الشعبي والرسمي، المادي والمعنوي للثورة الفلسطينية، هذا كله دفعني في النهاية الى القبول بمبادرة الرئيس المصري الذي شارك ممثلوه بفاعلية في اخراج الورقة التي سميت اتفاق القاهرة.
أما بالنسبة الى العنوان الثاني الفلسطينيون باقون في لبنان... للأسف، فأرجو الا يفهم من كلامي انني أتعامل مع الموضوع كأمر واقع ونهائي لا مجال لتغييره في حال تكاثفت الجهود وتبدلت المعطيات. وأنا متضامن مع جميع اللبنانيين في تأمين حق العودة للفلسطينيين منعاً لمضاعفات لن تخدم لا القضية اللبنانية ولا القضية الفلسطينية حكماً.
وفي هذه العجالة أيضاً اسمحوا لي ان ألخص جوهر حديثي عن اتفاق القاهرة بالقول ان الاتفاق لم يولد قانونياً ودستورياً كوني لم أوافق عليه ولم أوقعه. وكل ما جرى لم يتعد نطاق فرض الأمر الواقع علينا لان دينامكية المقاومة الفلسطينية آنذاك، كانت أكبر من دفاعات الوطنية اللبنانية.
ختاماً أود أن أعلن بصراحة أن كل من يمس، من قريب أو بعيد، كيان لبنان وسيادته وحريته، سوف تنهال عليه وعلى ذويه ان عاجلاً أو آجلاً لعنات السماء".
وهنا نص الحلقة الثانية والأخيرة من مذكرات الرئيس شارل حلو:
رافقت عهدك القمم العربية الكبرى. ماذا تتذكر منها؟
- قبل ان أتسلّم سلطاتي الدستورية شاركت في قمة الاسكندرية في اوائل ايلول سبتمبر 1964، وبعدما سلّمت الرئاسة شاركت في القمة الطارئة في القاهرة التي بحثت في الحوادث الدامية بين الاردن والفلسطينيين في ايلول 1970. في المرة الاولى شاركت في القمة العربية الثانية التي بحثت بشكل رئيسي في تحويل روافد نهر الاردن لأن الرئيس شهاب لم يكن يهوى المشاركة في المؤتمرات. وفي قمة 1970 ذهبت لأن الرئيس فرنجية كلّفني تمثيله لانني معتاد على الجو اولاً وبسبب انهماكه في معالجة منع طائرة تقلّ فدائيين آتين من الاردن من افراغ ركّابها في بيروت. وبين هاتين القمتين شاركت في كل القمم في الدار البيضاء والخرطوم والرباط وليبيا، واهم ما بقي عالقاً في ذهني هو صوت الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان يكلّفني بايجاد المخارج واتمام المصالحات وازالة التعقيدات عند احتدام الامور.
ما اتذكره ايضاً انه من قمة الى قمة كانت تتبدل الوجوه ويتغير الحكّام بسبب الانقلابات التي كانت مزدهرة. الرئيس السوري امين الحافظ الذي كان يثير تعجّب الملوك والرؤساء عندما يعلن تهديداته ضد اسرائيل بصوت عال ويجزم برميها في البحر خلال ساعات، اختفى عن المسرح بعد العام 1966، ثم جاء عبدالرحمن عارف حاكم العراق خلفاً لعبدالسلام عارف الذي فاجأني بهجوم عنيف عندما وقفت متحفظاً عن مسألة ادخال جيوش عربية الى لبنان قبل موافقة المؤسسات الدستورية والشعب اللبناني. ولم ينقذني من الموقف الحرج سوى عبدالناصر الذي وقف يقطع مزايدات الراديكاليين العراقيين والسوريين والجزائريين بالقول: "معه حق الرئيس حلو، ونحن ايضاً عندنا دستور ومؤسسات يجب العودة اليها". لا انسى طبعاً الملك الحسن الثاني الذي كان يتحرك بأبهة والذي كنت اتحدث معه بالعربية احياناً وبالفرنسية حديث العقل والقلب معظم الاحيان. وفي السودان غاب المشير عبود وجاء اسماعيل الازهري ثم جعفر النميري، وحلّ محل احمد بن بللا على رأس وفد الجزائر هواري بومدين صاحب الوجه النحيف والهادئ كالناسك، لا يتكلم الا نادراً ويختلف عن بللا بقلّة الاشارات والحركات.
حصل ايضاً تبدل آخر، فالامير فيصل اصبح الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي اكتسب هيبة استثنائية مع احتفاظه ببساطته وهو يلتف بعباءته، وجهه نحيل ونظره كأنه موجّه الى داخله، يتحدث بهدوء ومن دون تكليف، ولم يكن ذلك كله سوى المظهر. اما في العمق فكان يبدو لي انه يطبق على اكمل وجه الحكمة القديمة القائلة: البلاغة الحقيقية هي التي تسخر من البلاغة. اما الملك حسين فكان كأنه يحمل بسنوات عمره القليلة كل قلق واشواك التاج المهدد من الداخل والخارج. ولا انسى ايضاً الملك الليبي العجوز ادريس السنوسي الذي قلبه نقيضه الشاب الغريب الاطوار معمر القذافي الذي زارنا في لبنان، وكذلك الرئيس اليمني المشير عبدالله السلال وأمير الكويت الهادئ الشيخ سالم الصباح الذي خلفه الشيخ صباح السالم الذي كان يصطاف عندنا في عاليه وايضاً رئيس منظمة التحرير احمد الشقيري صاحب الصوت الهادر والخطابات الرنّانة.
انت عشت عصر عبدالناصر ويبدو من خلال الحديث انك متأثر به كثيراً؟
- كان رحمه الله فعلاً الاخ الاكبر. منذ اللحظة الاولى تصادقنا وتفاهمنا. حماني من كل المزايدات العربية، حتى في عزّ خلافه مع البعث ومع السعودية لم اكن محرجاً في العلاقة مع احد. قمت بوساطة بينه وبين ديغول سنة 1965 اثمرت موقف ديغول بقطع السلاح عن اسرائيل سنة 1967. كان حريصاً على عدم تعريض لبنان وكان يعرف خصوصيات التركيبة اللبنانية. هو الذي أصر في قمة المغرب سنة 1969 على ان يكون لبنان دولة مساندة لا دولة مواجهة. بعد هزيمة 1967 كان عليه ان يرضخ لبعض الظروف وبعض الفئات، لكنني اؤكد انه قال لبعض الوزراء والنواب والرؤساء كصائب سلام وصبري حماده وعثمان الدنا: "ارجوكم انتبهوا للبنان الجنوبي، انا اقدر ان احرر سيناء من الاحتلال، لكن لا اقدر على القتال من اجل لبنان الجنوبي. ارجوكم حافظوا على وحدتكم الوطنية ولا تستفزوا اسرائيل كي لا تتعرضوا لأي نكسة".
وتشاء الصدف في آخر قمة في ايلول 1970 ان يصطحبنا انا وامير الكويت في السيارة الى المطار. فأسرّ الينا انه يشعر بالارهاق وانه كان يقضي فترة استجمام بعيداً عن القاهرة عندما دعي لحسم الصراع بين الفلسطينيين والاردن. وسألته عما يشعر به، فأجاب بأن خفقات قلبه بلغت من السرعة ما يخيف الاطباء. فاستوضحته للمرة الاولى منذ بداية علاقتنا عما يطلب منه الاطباء فأجابني: "عليّ ان انام". وردد هذه العبارة كأمل وحرمان في آن، فسكت وسكتنا جميعاً، وبعد ساعات من وصولي الى بيروت فوجئت بالخبر: لقد نام الى الأبد.
قيل ان السفارة المصرية كانت تتدخل في كل شيء في لبنان في ذلك الحين؟
- لا، ليس الى هذا الحد، كان هناك تنسيق سياسي وامني بين الشعبة الثانية والمصريين. وكنت اراعي عبدالناصر في امور عدة نظراً لما كان لمصر وله من وزن ودور في الشارع وبين الدول، مثلاً في قضية اغتيال المرحوم كامل مروة تجنبنا ابراهيم قليلات وعدم اعدام عدنان سلطاني كي لا نغيظ السفير عبدالحميد غالب ووراءه المخابرات المصرية.
هل صحيح ان عبدالناصر تدخّل معك بعد فضح الشعبة الثانية عملية خطف الميراج على يد المخابرات السوفياتية KGB؟
- صحيح، جاء اليّ السفير ابراهيم صبري وطلب مني باسم الرئيس عبدالناصر وقف الحملة الصحافية وعدم نشر اخبار احباط المحاولة من اجل عدم تعريض سمعة موسكو الحليفة للعرب لأي سوء.
كيف كانت العلاقة خلال عهدك مع السوريين؟
- كان الدور آنذاك لمصر، وكانت سورية تتخبّط في الانقلابات وصراع الضباط على السلطة. وكلما كان يفشل انقلاب يهرب منفّذوه الى بيروت، فتقفل دمشق الحدود وتبدأ التهديدات. اجمالاً، تعاطيت مع سورية كشقيق مفروض وكانت اداة التنسيق الاساسية ضباط الشعبة الثانية لحل الامور العسكرية والامنية خصوصاً بعد انطلاق العمل الفدائي بدعم دمشق.
هل تعرفت الى الرئيس الاسد؟
- تركت الرئاسة قبل ان يعتلي السلطة في سورية بوقت قليل. وعرفته لاحقاً في مناسبات قليلة لكنني اعتبره قائداً تاريخياً. عمل لمصلحة بلاده بامتياز وكان علينا نحن ان ندرك مصلحة بلدنا ايضاً فنتعاطى معه على هذه القاعدة.
قصتك مع شهاب والشهابيين لافتة، بدأت بالعناق وانتهت بالخناق، لماذا؟
- لا أنكر اطلاقاً ان الرئيس شهاب هو الذي زكّاني الى رئاسة الجمهورية عندما جيّر لي الاكثرية النيابية التي كانت تدين بالولاء له والتي كانت مُحضّرة لكي يجدد، فرفض. لكنني لم اكن شهابياً ومعروف باستقلاليتي، وربما اختارني شهاب لهذه الاستقلالية بالذات بالاضافة الى صفات اخرى حدّث عنها الحاج حسين العويني عندما قال له قبل اشهر من انتخابي رئيساً: ما رأيك بشارل حلو؟ ان ملفاته نظيفة وسمعته طيبة. وعندما اخبرني الحاج حسين هذه الواقعة ادركت ان عين شهاب عليّ للرئاسة. وكان هناك غير "النهج" الشهابي في البلاد ايّدني ربما لأنني لم اكن شهابياً.
غضب جماعة شهاب والمكتب الثاني لانهم كانوا يريدونني حاكماً بالوكالة عن فؤاد شهاب رغم استعدادي للتعاون معهم الى اقصى الحدود. فقد ابقيت الى جانبي في القصر كل الطاقم الشهابي كالياس سركيس والضابط احمد الحاج وشفيق محرم واعتمدت على فيليب تقلا وفؤاد بطرس والعميد يوسف شميط وغيرهم ولم ارفض يوماً رئيساً للحكومة او وزيراً طلبوه ورغم ذلك لم يعجبهم وحرّضوا ضدي عند الجنرال شهاب الذي ما زلت اعتبره حتى الآن شخصية مميزة في تاريخ لبنان.
متى اختلفت مع شهاب؟
- بعد الانتخابات الفرعية في جبيل سنة 1965 حيث اتهموني بالانحياز لمصلحة ريمون ادة على حساب المرشحة نهاد سعيد. والواقع انني لم افعل شيئاً سوى عدم التدخل ومنع الاجهزة من التدخل الى جانب سعيد. لم يكن منطقياً اسقاط ادة في ذلك الجو الضاغط في الشارع المسيحي خصوصاً ان كميل شمعون كان سقط سنة 1964، والبطريرك المعوشي على خلاف مع فؤاد شهاب. بعد ايام على الانتخابات في 20 تموز يوليو ذكرى عودة شهاب عن الاستقالة الشهيرة سنة 1960، قاموا بعراضة في الشوارع ليس لها مثيل لإفهامي انني احكم بأكثرية ليست لي. واغتاظوا ايضاً مني عندما دعوت كميل شمعون سنة 1965 الى القصر لمناسبة تكريم الرئيس الحبيب بورقيبة ضيف لبنان.
ألم تحاول التفاهم حول الامور مع الجنرال شهاب؟
- في البداية حاولت، سواء عبر غابي لحود وسركيس او على الهاتف مباشرة. لكنه كان يصدق جماعته ويسايرهم. فانقطع الاتصال بيني وبينه آخر العام 1966 ولم أزر منزله حتى كان يوم وفاته سنة 1973. وكان الاتصال به يتم عبر غابي لحود والياس سركيس ورشيد كرامي وبعض جماعة النهج.
هل كان تدخل الرئيس شهاب مباشراً ام عبر الاعوان؟
- اجمالاً، كانوا يعرفون ماذا يريدون وكانت له سطوة قوية عليهم. مثلاً، احد الوزراء جوزف النجار، تأخر عن مجلس الوزراء سألنا عنه، فأتى الجواب انه يطلع الرئيس شهاب على موضوع قبل الجلسة. فقلت لهم: هل انا رئيس الجمهورية ام شهاب؟
مثل آخر: هناك موظف معروف برتبة مدير عام غضبوا عليه بسبب علاقته بريمون أده، فلم يعد اسمه ينزل على جداول الترقية التي كانت تعدّها الهيئات المختصة لعرضها على الحكومة.
كيف كنت تختار رئيس الحكومة وهل كانوا يتدخلون؟
- من دون شك. وكانوا دائماً يحضرون الاجواء في المجلس لكي يأتي برشيد كرامي. حتى عندما اختار غير كرامي كان شهاب يعطي الرأي والموافقة.
من كنت تفضل لرئاسة الحكومة؟ رشيد كرامي ام حسين العويني أم عبدالله اليافي؟
- كنت اقدر كرامي لكنني كنت أحسّ دائماً انه مفروض عليّ. عبدالله اليافي كان صديقي منذ الثلاثينات، لكنه لم يستطع ان يكون سنداً قوياً لي. اما حسين العويني فأتوا به وقت "الحشرة" كنت احترمه بسبب تهذيبه واناقته ولطفه، لكنه كان يعتقد ويتصرف كأن مرسومه صدر من عند فؤاد شهاب، كنت ارغب بالمجيء بصائب سلام ولم استطع لانهم كانوا رافضين له بالمطلق.
لماذا لم تأت ولا مرة بصديقك تقي الدين الصلح؟
- تقي الدين صديقي وكان يساعدني في خطاباتي نظراً الى ثقافته الواسعة ودماثته ولانني كنت ميّالاً الى آل الصلح في ايام المرحوم رياض الصلح العظيم. لكن الجماعة كانوا غضبوا عليه من يوم الانتخابات الفرعية لريمون أده في جبيل لأنه كان وزيراً للداخلية ولم يسايرهم كفاية.
هل قامت جماعة الشعبة الثانية بأعمال لم تكن موافقاً عليها؟
- في المبدأ لم اكن اتدخل في شؤون الجيش. وكان العميد بستاني والعميد شميط على اتصال مباشر باللواء شهاب. وعلى العموم كانت علاقتي جيدة مع العقيد غابي لحود رئيس الشعبة الثانية وكان يحترم رأيي وموقعي ويوفّق الامور. ولم يقوموا بأعمال فاقعة لا مع الصحافة التي كنت أحميها ولا ضد الحريات على النحو الذي سارت عليه الامور في السنوات اللاحقة. اذكر العام 1968، جمتعهم في سن الفيل وطلبت منهم تخفيف الضغط عن جماعة اده وشمعون اذ لا يجوز ان تستمر مطاردة جهة واحدة. فوعدوني، ولكن الوقت كان قد فات، واكتسح الحلف انتخابات 1968.
يقال انك كنت شريكاً ضمنياً في الحلف الثلاثي؟
- ابداً، غير ان منطق الامور كان سيأخذ هذا المنحى بصورة طبيعية خصوصاً بعد ضعف عبدالناصر اثر هزيمة 1967. ثم انني رددت دائماً ان الرأي العام كرقاص الساعة، كلما شددته باتجاه معيّن بقوة، ارتدّ بالقوة نفسها بالاتجاه المعاكس. الضغط على المعارضين خلق الردّة العكسية.
ما هي قصة استقالتك في تشرين الاول اكتوبر 1968؟
- جاءت رداً على الضغط والتراكمات ومنعي من التصرّف، المعروف ان انتخابات 1968 كسرت الاكثرية الشهابية. ولم يكن من مجال سوى المجيء بحكومة تعكس اتجاه الاكثرية الجديدة او التوازن الجديد في المجلس بين الحلف والنهج. كانت جماعة شهاب ترفض الاعتراف بالواقع وتصرّ على استبعاد الحلف لأن معركة رئاسة مجلس النواب اقتربت وكذلك معركة رئاسة الجمهورية. عوّمنا حكومة الانتخابات ولم نشكل حكومة جديدة ارضاء لهم. ولكن بعد الصيف المضطرب سنة 1968 وازدياد العمليات الفدائية كان لا بد من تشكيل حكومة جديدة. طلبت من الرئيس اليافي الاستقالة فوافق. لكنه عاد في اليوم الثاني وغيّر رأيه. سألته ما القصة: بكى، واجاب انه لا يستطيع لان الجماعة طلبوا منه ذلك. غضبت وقلت: اذاً انا استقيل. وهكذا كان وأعددت مرسوماً بتكليف قائد الجيش شؤون الحكم. احدثت الصدمة ما كنت اطلبه من الحلف والنهج، ففرضت مشروعي وألّفنا الحكومة الرباعية برئاسة اليافي وعضوية العويني عن الشهابيين وبيار الجميل وريمون اده عن الحلف وابقينا شمعون والاحرار خارجاً. غير ان الامور كانت قطعت اشواطاً في التردي السياسي فكانت الخطوة ضربة سيف في الهواء. وللحقيقة والتاريخ كنت جاداً في استقالتي لكنني عدت عنها بسبب مناشدات الكثيرين وخوفاً من الفراغ الدستوري والوقوع في المجهول في تلك الظروف الدقيقة.
هل كان لك دور كرئيس للجمهورية في انتخابات الرئاسة سنة 1970؟
- في الواقع مارست دور الحياد السلبي تجاه المرشح الشهابي الياس سركيس ودور الحياد الايجابي بالنسبة الى خصمه سليمان فرنجية. فلم اتدخل بحماس لمصلحة الياس سركيس كما لم أسع لوصول فرنجية. وقبل الانتخابات بأيام نصحني مدير غرفة الرئاسة بطرس ديب بالصعود الى المقر الصيفي في بيت الدين للابتعاد عن حماوة المعركة، فرفضت.
كنت اشاهد جلسة 17 آب اغسطس 1970 على شاشة التلفزيون عندما ساد الهرج والمرج بسبب امتناع الرئيس صبري حماده عن اعلان فوز سليمان فرنجية نظراً للخلاف على نصف الصوت 49 - 50 وتمسك الشهابيين بضرورة حصول المرشح الفائز على 51 صوتاً عوض الاصوات الخمسين التي نالها فرنجية.
ولما كنت على اطلاع على حجم التوتر الزغرتاوي وغابة السلاح في ساحة النجمة، هرعت الى الهاتف وطلبت من الرئيس حماده اعلان النتيجة فوراً بدل نائب الرئيس ميشال ساسين، وهذا ما حصل.
لماذا لم يعد فؤاد شهاب الى الرئاسة سنة 1970؟
- كنت متأكداً من الاساس انه لا يريد العودة رغم حماسة الشهابيين الاقحاح وذهابهم الى الرئيس عبدالناصر لاقناعه بإقناع شهاب.
وكنت اقول ان شهاب "يريد حدوداً آمنة" لكي يقبل الرئاسة، وهذا ما لم يكن متوافراً سنة 1970 بوجود المقاومة الفلسطينية وضعف عبدالناصر وملامح انقسام البلاد التي ظهرت خلال الازمة اللبنانية - الفلسطينية سنة 1969.
هل كان لك مأخذ على الياس سركيس فلم تتحمس له؟
- اطلاقاً، فقد كنت اقدّر ذكاءه ونظافته وهذا ما جعلني ابقيه الى جانبي في القصر على رغم تعيينه حاكماً لمصرف لبنان سنة 1967. لكن ضعف سركيس آنذاك كان هو نفسه مبرر قوته اي "شهابيته المفرطة". حاولت ان أساعده وانقذه في الوقت عينه، يوم تشكيل الحكومة "الكرامية" الاخيرة في عهدي جاءني جماعة "المكتب الثاني" يطلبون توزير سركيس. اجبتهم بأنني لا استطيع ان امنحه منصباً يجعله متقدماً على غيره، فيبدو ان الامر وكأنني أزكّيه منذ اللحظة للرئاسة. وامام اصرارهم، اقترحت توزيره الى جانب مرشح آخر كبيار اده مثلاً، فتراجعوا عن طلبهم. وعند احتدام المبارزة بعد عزوف شهاب عن الترشح وقراءتي للمعطيات التي كانت تجعل من الصعب على سركيس ان يمرّ بسهولة، نصحت جماعة "النهج" والشهابيين باختيار اسم يحقق شبه اجماع كجان عزيز او ميشال الخوري او فريد الدحداح، فرفضوا واصروا على الياس سركيس وكان ما كان. وفي الحقيقة لم اكن متأكداً من نجاح فرنجية. وعندما أتى مع حبيب كيروز يبلغني بنيته خوض المعركة الرئاسية لم آخذ الموضوع على محمل الجد، على الرغم مما كنت أكنّ له من تقدير، حيث كنت عيّنته وزيراً للداخلية في حكومة الانتخابات سنة 1968 ثم وزيراً للاقتصاد سنة 1969 واوفدته في البعثة الرسمية مع الرئيس رشيد كرامي الى موسكو سنة 1970 وهي الرحلة التي قيل ان السوفيات تعرّفوا خلالها على فرنجية "كحصان رابح" محتمل لتصفية الحسابات مع "المكتب الثاني" الذي شرشحهم في قضية الميراج.
لماذا لم تمارس دوراً سياسياً مباشراً بعد انتهاء ولايتك كالرئيسين شمعون وفرنجية؟
- صدّقني كنت قرفت السياسة على الطريقة اللبنانية، ولا ابالغ اذا قلت لك، انني الآن نادم على قبولي منصب رئاسة الجمهورية. فاللبنانيون، اخواني وابنائي، اذكياء وقادرون على كل شيء الا في السياسة، فلهم مفاهيمهم واساليبهم التي لا تتوافق مع طبيعتي وتفكيري.
وقد عانيت الكثير خلال الولاية وبعدها لشرح وتكذيب بعض الشائعات التي اضحت حقائق شعبية، فلم اوافق لأن الناس في الاساس كانوا يستسهلون اتهام المسؤول ويحبّون الفضيحة ويسمعون فقط ما حفظوه غيباً. ولا عجب في ذلك لأن معطيات المسائل تظل مختلفة بالنسبة الى الذي يعيشها عن الذي يسمعها. والمشاعر يحرّكها الغش المثير والانتقاد اللاذع. وهكذا انقلبت الحقائق بالنسبة الى اتفاق القاهرة وقضية افلاس انترا والكابل البحري مع مرسيليا الى ما هنالك من المسائل التي حفل بها عهدي. ولكن على العموم، لم انقطع عن الاضطلاع بمهمات تخدم اهلي ووطني. وقد كنت الموفد الشخصي للرؤساء فرنجية وسركيس والجميل لدى العواصم الكبرى في المؤسسة الفرنكوفونية. وفي ذروة الخلاف الماروني - الماروني نجحت في هندسة لقاءات سمار جبيل بين الرؤساء الجميل وشمعون وفرنجية، بالرغم من ان هذه اللقاءات لم تثمر نتائج سريعة وحاسمة. لكنني على العموم ركّزت على الجانب الاجتماعي والانساني من خلال "مطاعم المحبة" حيث أمّنا وما زلنا الغذاء لعدد كبير من الفقراء والمهجّرين.
هل لعبت دوراً توفيقياً في الاستحقاق الرئاسي المفقود سنة 1988؟
- حاولت التوفيق بين الرئيس سليمان فرنجية المرشح واركان الجبهة والقوات اللبنانية ولم أوفق. هو كان يطلب تأييداً منهم غير مشروط قبل المصالحة والقول بعفا الله عما مضى، واركان القوات أصروا على المصالحة قبل اعلان التأييد. لكن على العموم كانت اللعبة اكبر من الجميع.
قيل ان الرئاسة عرضت عليك كحلّ وسط سنة 1988؟
- اوفد الرئيس الجميل اليّ مرات عدة الدكتور ايلي سالم والعقيد سيمون قسيس وفاتحني هو نفسه بالامر فرفضت رفضاً قاطعاً. وكدت اتسبب معهم بالجفاء لأنني اسمعت سالم وقسيس كلاماً قاسياً عندما حاولا اقناعي عبر الحصول على تأييد سفراء الدول الكبرى التي كنت اختبرت مدى التزامها والضحكات الصفراء لممثليها، غير انني لا أذيع سراً اذا قلت انني اقترحت بيار حلو لرئاسة الحكومة الانتقالية وانني ساهمت بوصول العماد ميشال عون، انما كوزير، لا كرئيس للوزراء.
كيف؟
- كنت على علم بالجفاء القائم بين الرئيس الجميل والعماد عون، وفي المقابل كنت على علم من خلال ضابط مقرّب من عون كان معي ايام الرئاسة، بأن العماد راغب بكل الوسائل في ان يكون في السلطة ولن يقبل باستبعاده. لذلك وتداركاً للمحاذير، زرت الرئيس الجميل في اليوم الاخير من ولايته وتباسطت معه في موضوع الحكومة الانتقالية، وطلبت منه بإلحاح ان يسند حقيبة الدفاع الى العماد عون كونه قوة رئيسية لا يجوز استبعادها، وفي الحال اتصل العقيد قسيس من القصر بالعماد عون وحدد له موعداً مستعجلاً، وعدت الى منزلي معتقداً ان عون سيكون وزيراً الى ان فوجئت بمراسم الحكومة العسكرية برئاسته في اللحظة الاخيرة.
كيف كانت علاقتك بعون؟
- جيدة، وقد دعمته كرئيس شرعي للحكومة.
هل أيّدت اتفاق الطائف؟
- أريد ان أعذر النواب الذين وقّعوا اتفاق الطائف. لو لم يوقّعوا في تلك الظروف العربية والدولية لكانت استمرت الحرب، رأيت ان الاخطار في القبول اقل بكثير من الرفض. يعني في اعتقادي لم يكن لدى النواب مخرج، انما كان عليهم حين رجوعهم ان يقولوا نحن اخترنا اهون الشرور، لا ان يقولوا انهم اتوا بمشروع عظيم وان هذا الميثاق هو الذي سينقذ لبنان.
اما بالنسبة للتنفيذ فحصل انحراف خطير منذ اللحظة الاولى ادى الى ما وصلنا اليه من خلل في الوفاق والتوازن الوطني جعل البلد بعد عشر سنوات تسير في اتجاه واحد وبجناح واحد. هناك امور عدة لم تُنفّذ في اوقاتها بينما الامور التي تفيد غيرنا تُنفّذ. والمؤسف ان الاتفاق، اي اتفاق، رهن بتفكير كلاً من المتعاقدين ورغبته وقوته، واذا كان واحد اقوى من الثاني، فمن المؤكد ان القوي يفسّر النص وينفّذه على طريقته.
هل اعتراضك في الطائف على الصلاحيات مثلاً وتوزيعها؟
- ليس تماماً، وكما ذكرت ان المسألة ليست قضية نصوص بل اجواء، الاساس بالنسبة اليّ هو الميثاق المتعلق بعلاقتنا كمسلمين ومسيحيين، الصيغة شأن ثانوي سواء كانت السلطة في مجلس الوزراء او في يد رئيس الجمهورية رغم تحفظاتي من الناحية الدستورية على بعض الامور المتعلقة بفصل وتوازن السلطات في الطائف. في السابق لم يستطع رئيس الجمهورية ان يمارس كامل صلاحياته بسبب الفيتو الذي كان يضعه الفريق الآخر في الميثاق غير المكتوب. الآن طلعت اشياء كثيرة لاصلاح ميثاق اعرج بعرجة ثانية. والمشكلة تكمن ايضاً في ان "الطائف" لم ينفّذ الا بقوة الرعاية السورية التي وزعت الادوار وصاغت التوازنات وفق رؤية دمشق. والسؤال هل ستسير الامور بشكل معقول ومن دون ازمات بعد رفع اليد السورية آجلاً ام عاجلاً؟ في مطلق الاحوال لن اكون في هذه الدنيا على ما يبدو عندما يتم الانسحاب السوري من لبنان والله اعلم!
هناك من يقول ان الخلاص من هذه الازمات يكون بإلغاء النظام الطائفي لأن الطائفية السياسية تحديداً خربت لبنان؟
- بل على العكس، ان الغاء الطائفية يعني الغاء لبنان، فالطائفية في مجتمع الاقليات المتعددة هي لحفظ حقوق الجميع وتوزيع انصبة السلطة على الجميع لان البديل سيطرة المجموعة الواحدة او اللون الواحد، فنكون قد انتقلنا من حكم الطوائف الى ديكتاتورية الطائفة الواحدة. ثمة من يقول ان الحكم في الدول الديموقراطية هو للاكثرية، هذا صحيح، ولكن اي اكثرية؟ الاكثرية السياسية لا الاكثرية الطائفية. الاكثرية السياسية تجعل كل مواطن ينتمي لهذه الاكثرية او ينسحب منها ساعة يشاء. اما في الاكثرية الطائفية فلا يتغير، لأن الطائفة الاكثر عدداً تريد ان تحكم من دون ان يستطيع احد الدخول او الخروج من صفوفها، وقد عرف لبنان اكثريات سياسية عدة في السابق، فالكتلة الوطنية ايام الرئيس اميل اده والكتلة الدستورية مع الشيخ بشارة الخوري وكتلة "النهج" الشهابي والجبهة الاشتراكية الوطنية سنة 1952 جميعها ضمّت نواباً وسياسيين من جميع الطوائف.
لماذا يبدو الآن وكأن هناك مشكلة مسيحية ومارونية تحديداً مع الدولة التي قامت بعد الطائف؟
- يجافي الحقيقة كل من لا يعترف بمشكلة مسيحية الآن في لبنان على الصعيد السياسي وربما الوجودي. لقد اعتبر الموارنة بشكل خاص وعلى مدى عقود ان لبنان نشأ بفضلهم ومن اجل فكرة اساسها ضمان حريتهم في بيئة مختلفة عنهم دينياً ونفسياً. فمن الممكن ان بعض الافراد والحكّام عمل لنفسه وشذّ في طموحه ومشاريعه السياسية التي تناقضت مع الواقع اللبناني والمحيط العربي، ولكن في الغالب فان الموارنة لم يعملوا الا للدفاع عن الحرية التي هي للجميع، اذ لا احتكار في الحرية. يمكن احتكار القمح، انما لا يمكن احتكار الحرية، وتحت عباءة هذه الحرية ترعرعت العقائد والتيارات التي اوصلت الى الازمات الوطنية الكبرى، فكان النظام الذي اوجده الموارنة في لبنان الماضي دفع الثمن ميزته الاساسية اي الحرية.
الآن، يشعر المسيحيون، وخصوصاً الموارنة، بأنهم يفقدون "لبنانهم" لاسباب ديموغرافية وثقافية واقتصادية وسياسية وليس لديهم مشروع بديل، يضاف الى ذلك انهم خاضوا حروباً اكبر منهم ونشأت بينهم نزاعات تركت احقاداً وانشقاقات خطيرة فلم يعودوا مثالاً في القيم والتقدم والمعرفة، وهو ما أهّلهم في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ليكونوا طليعة لم تستطع القوى العظمى ان تتجاهل مطالبهم في الحرية والاستقلال، لهذه الاسباب وغيرها يبدو المسيحيون، والشباب منهم بنوع خاص، في غربة عن الوطن في واقعه الراهن. فهم قرأوا وسمعوا عن وطن مختلف عن الذي يعيشون واقعه اليوم. وساروا وراء قادة وزعماء عبأوهم بأفكار ومشاريع اما مستحيلة واما سقطت بحكم الظروف والمعطيات الدولية والوطنية الراهنة، زد على ذلك ان هؤلاء الزعماء والقادة، اما غابوا بفعل العمر او غُيبوا بسبب الانقلاب السياسي الحاصل في البلد، ولم تنشأ طبقة جديدة من القادة قادرة على استيعاب الجيل الجديد من الشباب والافكار من دون الانقطاع عن حقائق الماضي الاساسية. فانكفأ المسيحيون واصيبوا بالاحباط وتحول المجتمع الى مصنع لانتاج بضاعة شبابية مخصصة للهجرة.
ألم يتغير المناخ بعد وصول الرئيس عماد لحود الى الرئاسة؟
- الموضوع تجاوز قدرة رجل مهما تعددت صفاته كالرئيس لحود الذي نحبّ ونحترم. فالحقائق القاسية بدأت قبل الحرب وترسخت خلالها، ولم يبذل اي جهد بعد الطائف من اجل معالجتها، بل على العكس من ذلك سيطرت ذهنية الغالب والمغلوب في بلد علّة وجوده التوافق. حلّ الميليشيات اقتصر على فئة واحدة تقريباً، والانتخابات النيابية انتجت ممثلين من لون واحد، والحكومات عمّقت الخلل في التوازن الوطني والسياسي، وساهمت المرجعية السورية وفق حساباتها ومصالحها في المجيء بصقور المسلمين الى الحكم والمؤسسات، في مقابل اقصاء صقور المسيحيين، هذا من دون ان ننسى مرسوم التجنيس "الكارثة" الذي اضاف الى الخلل خللاً لا يزال. لنأخذ مثلاً، التجربة الاخيرة التي واكبت واعقبت الانسحاب الاسرائيلي من الشريط الحدودي. فعوض ان تبادر الدولة الى استيعاب الناس الذين رماهم غيابها قبل ربع قرن بين انياب الفلسطينيين وحلفائهم، ثم في ايدي اسرائيل، عاقبتهم على واقع لم يكن لهم اليد الطولى فيه، فدفعوا ثمن غيابها وعودتها معاً، وها هم الآن ينادون بعودتها خائفين قلقين، غير عابئين بحسابات الحكومة السياسية والاقليمية. واشد ما آلمني وانا اشاهد التلفزيون صور اللبنانيين الذين تركوا الشريط الحدودي الى اسرائيل وتعليق المذيع الذي وصفهم باللاجئين اللبنانيين، فهل يعقل بعد نصف قرن من المأساة الفلسطينية ان يضاف الى اللاجئين الفلسطينيين لاجئون لبنانيون يتركون الوطن ليسكنوا الخوف والغضب والقلق؟
أليس من حل للمشكلة المسيحية الراهنة؟
- لا اريد ان اذكر الجهود التي بذلت في الداخل والخارج خصوصاً مبادرات البابا يوحنا بولس الثاني الذي زار لبنان سنة 1997 وترك لنا وثيقة السينودوس لكن الامور اصعب واعقد، مشكلتنا ليست العيش المشترك والحوار والجدل الفكري واللاهوتي، المسألة هي كيف نحقق العيش المشترك السياسي. هناك عبارة لأحد الادباء تقول عن "مرسى مطروح" انها مركز مفضّل للحرب لا ينقصه الا العدو. عندنا الطوائف المسيحية، لا الموارنة وحدهم، لديها رغبة للمحبة والانفتاح انما يحدها القلق، القلق والخوف يعطلان اشياء كثيرة، عوض ان يذهب الانسان نحو الرغبة في التعاون اكثر فأكثر، يذهب نحو الاحجام، لا احد يعمر بيته بدون الملجأ نحتاج الى ملجأ هو الدولة العادلة والقادرة صاحبة القرار المستقل.
ذكرت في هذا الحديث مرات عدة عبارة "الرعاية السورية". ما هي حدود المسؤولية السورية عن الواقع الراهن وكيف تقرأ العلاقة اللبنانية - السورية ماضياً وحاضراً؟
- اريد التأكيد من دون مواربة ان سورية، مسألة داخلية في لبنان منذ اعلان لبنان الكبير سنة 1920، الخلاف مع دمشق كان يؤدي فوراً الى تأجيج الصراع الداخلي من قبل الفئات الاسلامية وغير الاسلامية التي تلتقي ذهنياً وسياسياً مع سورية، لا احد ينسى تسييب الحدود سنة 1957 و1958 او تجييش الشارع الطرابلسي والبيروتي يوم القطيعة سنة 1950، او اقفال الحدود مرات عدة في الستينات والسبعينات وصولاً الى الصراع العسكري الحاد مع سورية في الثمانينات، حالياً هناك واقع جديد نريده او لا نريده. لا احد يستطيع وقف تطور التاريخ او تغيير الجغرافيا، وانا لست ضد العلاقات المميزة ولكن كيف وبأي مضمون؟ لقد لفتتني في هذا المجال عبارة للوزير السابق فؤاد بطرس قال فيها ان المشكلة الراهنة تكمن في ان الشكل الحالي للعلاقات بين سورية ولبنان يعطي لسورية علاقات مميزة على لبنان في لبنان، لا علاقات مميزة لسورية على غيرها من الدول مع لبنان.
هل أقمت اتصالا مع القيادة السورية؟
- هناك علاقة مجاملة واحترام أحرص عليها بقوة.
كيف هي العلاقة مع الحكم الحالي والرئيس لحود بالذات؟
- جيدة جداً، وبالمطلق انا متعاطف مع اي شخص يقبل ان يتحمل المسؤولية في الظروف الحالية. لانه يتحمل مآسي البلد ومصاعبه وسيادته وكرامته المجروحة.
كيف تقيم اداء الرئيس سليم الحص؟
- عظيم، الرجل آدمي وعاقل وازدادت قناعتي به عندما رفض توقيع مرسوم الاعدام، فانا ما زلت اعتقد بضرورة وقف العمل بعقوبة الاعدام لاسباب انسانية ولاهوتية، فمن اعطى الروح يأخذها، لا مطلق انسان مهما علا شأنه وسلطته.
هل تؤيد عودة الرئيس رفيق الحريري الى السلطة بعد الانتخابات؟
- الرئيس الحريري شخصية استثنائية جاءت في ظروف استثنائية، وقام بأعمال وخدمات لاقت قدراً متفاوتاً من الترحيب والانتقاد، اما عودته الى الحكم فليست منوطة برأيي او تأييدي بالتأكيد.
كيف ترى مستقبل السلام في الشرق الاوسط؟
- على رغم كل الاتفاقات الموقعة والمباحثات الجارية، فانني لم ابدل قناعتي الاساسية بأن التسوية ممكنة لكن السلام مستحيل. فالصراع القائم. هو صراع ديني وحضاري يعبّر عنه بصراع زمني وسياسي، لان الفريقين يوحدان في افكارهما بين الدين والدنيا ويعتبران انه لا يمكنهما التضحية بشىء من الارض اذا لم يضحيا بشيء من الجنة. هل يمكن مثلاً حصول تسوية ثابتة في شأن القدس والخليل؟ هل يمكن التسوية في شأن اي شبر من اراضي فلسطين المقدسة المجبولة بآيات انجيلية وقرآنية ويهودية؟ يمكن ان يحصل السلم بعد عشرات السنين حين يصل الطرفان الى مستوى موحد من التطور في المفاهيم الفكرية والثقافية والحضارية.
ماذا عن المسار السوري؟
- الجولان ليست ارضاً توراتية، لكن العقدة تكمن في حسابات بعض القادة الذين يطمحون الى صورة الانبياء والمحافظة على الصورة هذه، يكبله في التصرف بشبر من الارض او غيرها.
كيف تتمنى ان يذكرك التاريخ؟
- اذا رجعت اليّ اولى قناعاتي وجدت نفسي، اقرّ بتواضع او ربما بكبرياء، بأني لا اؤمن بالتاريخ. يعني لا اثق بهذه الملخصات والموجزات التي اختارت ذاكرة البشر ان تنقص او تحذف منها احداثاً وقعت حقاً. ولا ريب ان التاريخ ليس سوى ثمرة المصادفات والنزوات ومصالح الافراد الذين يتدخلون في سيرورة تكونه واعداده. مِن اللبنانيين وغير اللبنانيين يعرف مثلاً ظروف "اتفاق القاهرة" او غيرها من دون تشويه اصحاب المصالح والغايات والاهواء والشائعات والخرافات الشعبية؟ ومن يعرف معاناة اي رئيس على وشك اتخاذ القرار وفق المعطيات التي تكون غافلة عن اصحاب التحليل والتنظير الخيالي؟ التاريخ اذاً ليس سوى قضية رأي عام، اي قضية اقتناع وتصديق ساذجين، لذلك اتمنى ان يحكم الناس في المستقبل على سيرتي وصورتي من خلال صفاتي الاخلاقية والانسانية كنظافة الكفّ وراحة الضمير وصدق النيّة. اما اعمالي السياسية والوطنية فاتركها لحكم الله لا لمحكمة التاريخ لانها اعمال تممتها حسب املاءات ضميري ومصلحة بلدي على حساب راحتي ومصلحتي كرئيس او سياسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.