لا يكف الخطاب الانتخابي الذي ردده وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، خلال الانتخابات النيابية الصيف الماضي، عن التفاعل وهو يتحول بتصميم من صاحبه الى محرك لأوضاع لبنانية استقرت خلال التسعينات على محرمات سياسية احترمها أهل الحكم والمعارضة الداخلية على السواء. هكذا تطرق الخطاب الجنبلاطي الى العلاقات السورية - اللبنانية مطالباً بإعادة النظر فيها بما "يخدم المصلحة العليا للبلدين" على حد تعبيره، وبادر الى المصالحة مع خصوم وأعداء الأمس المسيحيين، فوقّع وثيقة مع الرئيس السابق أمين الجميل ودعا الى الحوار مع الجنرال ميشال عون، وانتقد بحدة اجهزة الحكم اللبنانية، وهاجم "الأداء الركيك" للاحزاب السياسية اللبنانية، ووعد باصلاح الأوضاع في حزبه، وهو بصدد اعداد شريعة سياسية بالاتفاق مع شخصيات محلية شأن حبيب صادق ونسيب لحود وسمير فرنجية وآخرين، على ما ذكر خلال زيارته. ولكي يبدد الاعتقاد الأولي عن تلازم خطابه مع الانتخابات النيابية وزوال أثره باعلان نتائجها وفوزه الكاسح في عاليه والشوف بما يشبه "الحدل" بحسب المصطلح اللبناني المتداول، لكي يبدد ذلك، واصل جنبلاط الدعوة لخطابه السياسي بعد الانتخابات وفتح حواراً في بيروت مع التيار العوني، والتقى الرئيس بشار الأسد وبحث معه في العلاقات اللبنانية - السورية ورفع مطالب اصلاحية للنظام السياسي اللبناني وطالب بتغيير في الاقتصاد، وتحدث عن شروط لصيانة الحريات وإبعاد الأجهزة عن العمل السياسي اللبناني، وقد استدرج خطابه المتعدد الطرح، دعوة من طرف الحزب الاشتراكي الحاكم الى العاصمة الفرنسية للبحث في معنى الخطاب وآفاقه وما ينوي الزعيم الدرزي عمله، ما أعطى المبادرة الجنبلاطية بعداً فرنسياً بعد البعدين اللبناني والسوري. وإذا كان جنبلاط قد أطلق وبصورة مفاجئة مبادرة سياسية لبنانية جديدة بالقياس الى مواقفه السابقة فإن المبادرة نفسها لم تتخذ كامل هيئتها بعد لكن عناصرها الأساسية باتت واضحة وقد حاول تظهيرها في باريس ضبطها في الأطر الآتية: 1- اتفاق الطائف: يعتبر جنبلاط ان هذا الاتفاق يحكم مبادرته وان بصورة قسرية "ما فيني اطلع من الطائف" على حد تعبيره، وان "طلع" من الاتفاق فلا يشكل "طلوعه" خروجاً عليه وأقصى ما يمكن الذهاب اليه في هذا المجال هو اعتماد تفسير مناسب للاتفاق من بين "التفسيرات العديدة المتداولة". ويحلو له أن يكرر عبارة لطالما رددها المعارضون في الداخل والخارج ومفادها ان الاتفاق ليس "مقدساً" لكن الطعن الآن به لا يشكل أولوية لدى الزعيم الدرزي. 2- العلاقات السورية - اللبنانية: يدعو جنبلاط الى اخراجها من وصاية متعهديها اللبنانيين الحاليين وتفعيلها استناداً الى قواعد لخدمة مصالح البلدين ويؤكد انه بحث هذا الأمر مع الرئيس بشار الأسد "واتفقنا على مواصلة البحث" في المستقبل. ويطالب في هذا المجال بصيغة تشبه صيغة وجود القوات الأميركية في المانيا ويتحدث عن اعادة "تموضع" أو "انتشار" لهذه القوات في لبنان. وينقل عن الأسد عدم معارضته لإعادة الانتشار "... قال لي انه تم سحب فوج عسكري من بيروت والمطار" وانه "طلب من الادارات المدنية في سورية عدم الاتصال بالأجهزة العسكرية" وأوحى جنبلاط بأن ما هو قائم في سورية يمكن أن يقوم في لبنان. وطالب بتفعيل المجلس الأعلى السوري - اللبناني. وإذا كان جنبلاط داعية اصلاح في علاقات البلدين فإنه في المقابل يحافظ على ثوابت العلاقات في ما يخص الصراع مع اسرائيل والجولان ووحدة المسارين ويرفض ما يسميه ب"العداء المطلق والشوفيني للسوري". وفي المحصلة يمكن القول إن المبادرة الجنبلاطية تنطوي على مواكبة التغيير السوري والافادة منه في استدراج تغييرات لبنانية. 3- الدولة اللبنانية: يرغب جنبلاط في توظيف انتصاره الانتخابي في اصلاحات لبنانية اساسية شأن الغاء جهاز أمن الدولة وتغيير القانون الانتخابي الذي يتيح "طغياناً للمجلس النيابي على المجتمع المدني" ومنع تدخل "الأجهزة الأمنية" في الحياة السياسية وترشيح الحريري لرئاسة الحكومة "فالناخب في الجبل وبيروت يأمل بعودة الحريري للحكم". ويريد جنبلاط حصر مهمة الجيش في الدفاع عن الوطن ونشره في الجنوب ومن بعد تتولى قوات الشرطة الأمن في هذه المنطقة ليعود الجيش الى ثكناته ويدعو الى تثبيت الحريات والديموقراطية كما انه يرفض صيغة الترويكا. 4- المصالحة الوطنية: يعتبر جنبلاط "اتفاق الطائف" اطاراً لهذه المصالحة وهو يلتقي مع الجنرال ميشال عون في "مقدمة الطائف" فقط، إذ رفض عون مضمون الاتفاق وأيّد مقدمته. ويلتقيان أيضاً على تموضع القوات السورية في لبنان بما يشبه صيغة الوجود الأميركي في المانيا، كما يلتقيان على الحريات، والراجح انهما يعملان على وثيقة شبيهة بوثيقة جنبلاط - الجميل قبل تنظيم لقاء بينهما، لكن من الصعب الحديث عن احراز تقدم سريع في هذا المجال نظراً لتباعد موقفيهما من الطائف. 5- الموضوع الفلسطيني: يطالب جنبلاط بتثبيت حق العودة ويؤكد ان فرنسا وأوروبا تهتم بالجانب الفلسطيني في لبنان، ويرى ان تثبيت حق العودة يستدعي لاحقاً تجريد المخيمات الفلسطينية من سلاحها بطريقة سلمية ومن بعد تنظيم اقامة الفلسطينيين الباقين بطريقة انسانية وكرر رفضه للتعامل الشوفيني مع الفلسطينيين في لبنان. 6- شريعة الحريات والديموقراطية: وحتى لا تظل مبادرته ذات طابع سياسي بحث جنبلاط مع آخرين يمثلون تيارات مختلفة في وضع شرعية حريات الانسان والديموقراطية في لبنان لتشكيل تيار عريض يتجاوز الطوائف ومراكز القوى ما يبشر بعودة جنبلاطية الى الساحة السياسية اللبنانية تذكّر بجنبلاطية الأب المؤسس التي كانت تتجاوز في حالتي السلم والحرب حدود الشوف وعالية