لمُنح الصلح تعبير في تعريف "الشعبية"، هو انها لا تُقاس بمرّات النيابة ولا بمقاعد السلطة، وانما بالجنازات. وفي الامثال اللبنانية: "نيال البيت اللي بيطلع منو بيت". والمقصود استمرار العائلة بالتزاوج والانجاب لاستمرار السلالة. في البيوت السياسية اللبنانية الكبيرة بعض الزعامات يخرج من النعوش وبعضها الآخر من الجنازات. وفي الحالين الوصف قاتم وسوداوي متّشح بمأساة، وأحياناً بما يشبه موت آلهة. في آخر الامر يطلع من بيت الزعيم بيت للزعيم، لكن مع ربطة عنق سوداء هي علامة الحداد، سرعان ما تصبح ملازمة لمستقبل الزعيم الابن بعد الزعيم الاب، ومصدر قوته هو وضعف الآخرين حياله لقاء ثمن الحداد ذاك. فزعامة وليد جنبلاط خرجت من نعش والده كمال جنبلاط 1977، وزعامة سليمان فرنجية الحفيد خرجت من نعش والده طوني فرنجية 1978، وزعامة امين الجميل خرجت من نعش شقيقه بشير الجميّل 1982، وزعامة عمر كرامي خرجت من نعش شقيقه رشيد كرامي 1987، وزعامة نايلة معوّض خرجت من نعش زوجها رينيه معوّض 1989، وزعامة دوري شمعون خرجت من نعش شقيقه داني شمعون 1990. وثمة زعامات خرجت من الجنازات مُجلببة بالعباءات السود: ماجد حمادة لبس عباءة والده صبري حمادة 1976، وفيصل ارسلان لبس عباءة والده مجيد ارسلان 1983، وفيصل الداود لبس عباءة والده سليم الداود 1987، والياس سكاف لبس عباءة والده جوزف سكاف 1991. وثمّة زعماء اخذوا معهم العباءات، او لم يورثوها، او لم يلبسها الابناء: ذهب سليمان العلي 1987 من غير ان يورث، وكذلك كاظم الخليل 1990 وآخرون. في الغالب لا يتخلى الاب عن عباءته. عندما فُوتح كميل شمعون بتوزير ابنه داني بديلاً منه في حكومة رشيد كرامي 1984 في موازاة توزير نبيه بري ووليد جنبلاط، تضايق وقال: "هل نؤلف حكومة من ولاد صغار؟". وحلّ هو وصائب سلام وعادل عسيران في تلك الحكومة، لا ابناؤهم. بعد نحو عشر سنوات، اخذ تمام سلام وعلي عسيران زعامتي البيتين عن الابوين وفي ظلهما، وكلاهما كان على ابواب العقد التاسع من عمره. لكن الغالب ان احداً لا يُورث السلطة وهو على قيد الحياة. في جنازة جوزف سكاف، صرخ الانصار: "مات الزعيم، عاش الزعيم. يعيش الياس بيك سكاف". في هذه اللحظة فقط حصلت المبايعة. وفي جنازة كمال جنبلاط، تقدم شيخ عقل الطائفة الدرزية محمد ابو شقرا من وليد جنبلاط صارخاً: "الحمد لله عوّضنا عن السلف بالخلف وليد، حفظه الله ورعاه". ثم وضع العباءة السوداء على كتفيه وارتفعت اصوات المشايخ والمشيّعين: "برعاية الله يا وليد، الله معك يا وليد". في تأبين مجيد ارسلان في حاصبيا، وعلى حداء "مات الامير، عاش الامير"، أُلبس فيصل ارسلان العباءة اليزبكية بعدما خاطبه الشيخ غالب قيس قائلاً: "بموافقة الامراء الارسلانيين الحاضرين ومُباركة المشايخ الكرام، نُقلّد الامانة التي خلفها الامير الفقيد لعطوفة نجله الامير فيصل، ليؤديها بكل اخلاص بمعونة اشقائه وأعوانه المخلصين". وقبل ذلك بسنوات عدة وقف مجيد ارسلان امام جثمان ابيه توفيق ارسلان المسجّى في قصر عاليه، ونُودي على الامير ابن الامير: "مات الامير، عاش الامير". في هذه اللحظة اخذ مجيد ارسلان زعامة البيت الارسلاني. بعده ورث كمال جنبلاط عن ابيه فؤاد جنبلاط زعامة البيت في ظل زعامة اخرى كبيرة وبالغة النفوذ وشديدة المهابة هي الست نظيرة التي تولّت القيادة السياسية في هذا البيت على اثر مقتل زوجها فؤاد جنبلاط 1921، وكان عمر كمال جنبلاط اربع سنوات. على ان ذلك لم يحل دون تكليفها تمثيل البيت، ريثما يكبر الصبي الصغير، مع صهرها زوج ابنتها ليندا. فأضحى حكمت جنبلاط النائب والوزير وجه البيت الجنبلاطي الى ان توفي 1943، ليستعيد كمال جنبلاط هذا المقعد في السابعة والعشرين من عمره. حتى ذلك الوقت كان القرار في يد الست نظيرة وحدها. تفتح البيت لكل الانصار والمؤيدين وتساعدهم في متطلباتهم وحاجاتهم، وتُقابل الرجال محجّبة من وراء مقصورة. فأفضى ذلك الى حزبيتها المنتظمة في اطار الولاء للبيت الجنبلاطي في انتظار ان يؤسس كمال جنبلاط بعد سنوات الحزب التقدمي الاشتراكي 1949 بغية استقطابهم الى المؤسسة. لكن انتساب هؤلاء ظل الى البيت ورجل هذا البيت. في الغالب لا يُورث الارسلانيون الزعامة بالعباءة كما في البيت الجنبلاطي، ولا يضعونها في تقاليدهم. يكتفون بالمناداة، بعبارة الحداد: "مات الامير، عاش الامير". ومع ذلك أُلبس فيصل ارسلان عباءة والده في حاصبيا. هذه العباءة كان يضعها المير دائماً على كتفيه، وأضحت الآن في خزانة فيصل في قصر عاليه مع سواها من تذكارات الاب، ومع المدفع الصغير ذي الفوهة الصغيرة الصدئة الذي عاد به مجيد ارسلان من معركة المالكية التي خاضها الجيش اللبناني في الحرب العربية - الاسرائيلية في فلسطين 1948. مع هذا المدفع رشاش وخُوذ لجنود اسرائيليين تركوها في ارض المعركة، فحملها وزير الدفاع الوطني الى قصره ووضعها في خزانة. بعد سنوات كبر الفتى طلال ارسلان وبدأ يطالب بحصته في العباءة. اختلف الشقيقان على السياسة، فأخذ فيصل قصر والده في عاليه، وطلال قصره في خلده. وظلّت العباءة موضع التباس: لبسها فيصل احتفالياً وكفى، فيما آلت الزعامة الفعلية الى طلال، نيابة وتوزيراً. الا ان الصبي الصغير أضحى رأس الشجرة الارسلانية. طلال مزيج ارسلاني - جنبلاطي درزي، والدته خوله ارسلان ابنة رشيد جنبلاط عضو اللجنة الادارية بُعيد إعلان دولة "لبنان الكبير" عام 1920 والنائب لاحقاً وشقيقة خالد جنبلاط الوزير السابق. وفي البيت الجنبلاطي مزيج من الارسلانية - الجنبلاطية ايضاً، في وليد جنبلاط من والده كمال جنبلاط، ومن الارسلانية - الدرزية من والدته مي جنبلاط ابنة شكيب ارسلان الملقب "أمير البيان". ينتسب الارسلانيان شكيب وعادل الى ابيهما حمود بن حسن بن يونس شقيق عباس الجبّ الذي ولد منه مجيد ارسلان. خليط درزي معقّد هو جزء من ذلك النزاع التاريخي اليزبكي - الجنبلاطي. الارسلانيون تجذّروا من السُنّة، والجنبلاطيون من الاكراد. في الزعامة الدرزية كل ملامح سلالة البيوت السياسية التاريخية اللبنانية، ويختصرها اليوم اثنان من البيوت القديمة، ووجوه درزية جديدة لأنها من بيوت جديدة تحاول ان تتخذ لنفسها مكاناً في الزعامة، في موازاة وليد جنبلاط وطلال ارسلان. ولهذا تُفهم تماماً اسباب خصومة عصام نعمان السياسي العقائدي الذي عمل طويلاً في ظل كمال جنبلاط، وأنور الخليل المغترب الثري الدمث والهادئ السوري الاصل من جبل العرب، مكتسباً جنسيته اللبنانية العام 1964. وليد جنبلاط يقف عند مفترق المعادلة السورية - الاسرائيلية، صاحب الكلمة القاطعة لدى دروز جبل لبنان الجنوبي وفي راشيا وحاصبيا، وصاحب الكلمة المسموعة عند دروز سورية في جبل العرب ولدى دروز اسرائيل الذين قدموا اليه وفوداً بالمئات ابان الاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف 1982، فوصل آنذاك دروز لبنان بدروز اسرائيل من خلال طريق مفتوحة بينهما، فيما يعوّل السوريون على دوره لدى دروز الجولان لتفادي رضوخهم للاحتلال الاسرائيلي او التعامل معه وتطبيع علاقاتهم به. اما طلال ارسلان فيقف في موقع آخر من معادلة محلية بحتة، هي صلته الوثيقة ببيت الرئيس السوري حافظ الاسد. فطلال ارسلان، شأن سليمان فرنجية الحفيد الذي تربّى في بيت الاسد، صديق باسل النجل الاكبر الراحل للرئيس السوري ثم صديق شقيقه بشار الاسد. على ان هذا الواقع آل حكماً بين وليد جنبلاط وطلال ارسلان الى ارساء معادلة الابنين بعد معادلة الابوين. حرب الجبل والواقع، في التاريخ الطويل للزعامة الدرزية لم يكن في الامكان الا احداث توازن سياسي داخلها بين البيتين الجنبلاطي والارسلاني، الذي هو جزء من التوازن الذي اضطلعا به على مدى عقود طويلة، في الحكم والسلطة وخارجهما، وفي الطائفة وخارجها. لم يعتريه الخلل الا مرة واحدة، في خضم "حرب الجبل" 1983 بين وليد جنبلاط وحزبه الحزب التقدمي الاشتراكي ومعه سورية في معركتها القاسية لإسقاط الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي سنتذاك وبين "القوات اللبنانية" التي انتشرت في الشوف وعاليه على اثر الاجتياح الاسرائيلي، لتنتهي المعركة السياسية بسقوط الاتفاق والمعركة العسكرية بسيطرة وليد جنبلاط على جبل لبنان الجنوبي الشوف وعاليه وجزء من بعبدا بمسيحييه ودروزه، الناس والارض. يومذاك قال كميل شمعون في مجلس خاص: "عملت 50 سنة حتى اجعل الدروز فريقين متناقضين في لبنان، فإذا بأمين الجميل يوحدهما في يوم واحد"، قاصداً بذلك التفاف كل القيادات الدرزية، ارسلانيين وجنبلاطيين، حول وليد جنبلاط في "حرب الجبل" التي انتهت بتهجير السكان المسيحيين من الشوف وعاليه وبعض مناطق بعبدا. سنتذاك كان مجيد ارسلان العجوز في آخر سني مرضه، وكان طلال ارسلان في الثامنة عشرة من عمره، وفيصل فاقد المبادرة، فيما رهان سورية في حربها ضد حكم أمين الجميل كان وليد جنبلاط. ولذا قاد الزعيم الدرزي الاشتراكي زعامة الطائفة ببراعة فرضخ الدروز الآخرون وسلّموا له بسلطة قيادته لها سياسياً وعسكرياً. حليف السوريين الذي لا يستفز الاسرائيليين، والعارف كيف يظل واقفاً - بغية تحقيق مكاسب طائفته في الحرب - في قلب معادلة الصراع بين سورية واسرائيل التي تقتضي انحيازاً قاطعاً الى احدهما. في مطلع التسعينات بعد تسوية الطائف وبداية عهد الياس الهراوي، أعاد السوريون التوازن الى الطائفة الدرزية، فاتخذ طلال ارسلان موقعه للمرة الاولى وزيراً في حكومة عمر كرامي 1990 ثم نائباً معيناً بعد اشهر في مقعد والده، ثم نائباً منتخباً 1992 و1996. اما وليد جنبلاط، فوُزّر قبله في ثانية حكومات عهد أمين الجميل 1984، ثم في الحكومات الست لعهد الياس الهراوي، فنائباً معيناً في مقعد والده 1991 ثم منتخباً ورئيس كتلة برلمانية كبيرة 1992 و1996. وقبل ذلك بسنوات طويلة وُزّر الأبوان: مجيد ارسلان في 26 حكومة، وكمال جنبلاط في سبع. الوارثان الدرزيان حليفان لسورية، على ان لوليد جنبلاط مكانة خاصة في استراتيجية العلاقات اللبنانية - السورية، تجعله ضرورياً وحتمياً في معادلتها، الآن في السياسة بعدما كان كذلك في الحرب، ذراعاً عسكرية قوية للسوريين ضد خصومهم من الفرقاء اللبنانيين 1982 - 1989. خاضوا به حربهم ضد حكم أمين الجميل 1982 - 1988 ثم ضد ميشال عون في مرحلة ترؤسه حكومة عسكرية انتقالية 1989. درس تاريخي بعد الدورة الاولى من انتخابات دائرة محافظة جبل لبنان في 1943، استدعت الست نظيرة علي مزهر المرشح الدرزي الخاسر في لائحة الكتلة الوطنية التي ضمت ابنها وجميل تلحوق فازا في هذه الدورة الثانية لمصلحة مجيد ارسلان المرشح الخاسر في لائحة الكتلة الدستورية. سألها عن السبب فأجابته: "لازم نحافظ على العتيق". سألها مجدداً: "ما هو العتيق؟" فردت: "طريق الآخرة الموت تمر بطريقين: طريق المختارة مقر الزعامة الجنبلاطية وطريق خلدة مقر الزعامة الارسلانية". في حصيلة الاقتراع فاز مجيد ارسلان. ودخل الزعيمان الدرزيان برلمان 1943. ذلك هو الدرس التاريخي الذي يرغم البيتين الجنبلاطي والارسلاني على حفظه تماماً بالامساك معاً بزمام قيادة الدروز داخل الطائفة، وتقاسم مقاعد البرلمان والحكومة، والحفاظ على مكاسب الدروز في الادارة، وتواطؤهما - اذا صح التعبير - للحؤول دون طلوع بيوت سياسية جديدة، وبالتأكيد وجوه سياسية جديدة منافسة تعوزها في اي حال عراقة التاريخ وتراثه وتقاليده وسطوته. فإما يكونان معاً في الحكومة او يحل من يُسميان وينتدبان. بل من غير الضروري ان يكونا معاً، فلا يقحمهما هذا الفرق في نزاعات داخل الطائفة لا يتنافسان على التوزير، ولا على النيابة لكن احداً منهما لا يخلي الساحة للآخر، ومن ذلك اختلافهما على الموقف من رؤساء الجمهورية المتعاقبين ومن عهودهم. على ان لكل منهما منطقة نفوذه الانتخابي والسياسي المستقلة: كمال جنبلاط في الشوف، ومجيد ارسلان فى عاليه. في موازاتهما كانت ثمة بيوت درزية اخرى وثيقة الصلة بالحياة الوطنية في البلاد في حقبات عدة، إما تستظل بأحدهما بحثاً عن موقع في الطائفة والسلطة، او تجاري رئيس الجمهورية للهدف نفسه: بشير الاعور في المتن الاعلى الشمعوني القديم الذي انقطع بغيابه 1988 وجود هذا البيت بعد سبع دورات في البرلمان والمشاركة في ست حكومات، ليتضاءل اثره الفاعل على الارض التي اضحت في بلدات المتن الاعلى والجرد تدين الآن بالولاء لوليد جنبلاط. وهي كانت ايضاً في جغرافيا "حرب الجبل" 1983 التي قاد منها وليد جنبلاط، معركة سيطرته على كل جبل لبنان الجنوبي. ثم سليم الداود، البيت السياسي البارز لدى دروز راشيا. ثم أتى ابنه سليم المناوىء للشهابية، ومن بعده الحفيد وابن سليم فيصل الداود الذي يحرص على تمييز بيته عن البيتين الجنبلاطي والارسلاني، من غير ان تخفي محاولة التوازن هذه عداء صريحاً للبيت الجنبلاطي وتقرباً متحفظاً من البيت الارسلاني. في المقابل دعم كمال جنبلاط طويلاً شبلي العريان منافس سليم الداود عند دروز راشيا. وفي كل مرة لا يتوانى الداوديون، في معرض اظهار استقلاليتهم عن الصراع الجنبلاطي - الارسلاني داخل الطائفة، عن تأكيد تعاطفهم مع الارسلانيين الذين يجمعهم بهم انتسابهم الى اليزبكية. وقد يكون احدث تعبير عن هذا الواقع، غير المستقر على اي حال بالنسبة الى ثبات بيت سليم الداود في المعادلة الدرزية الداخلية وبإزاء التنافس على زعامة الطائفة، توافق طلال ارسلان وفيصل الداود، قبل سنوات، على دعم وجود شيخ عقل الطائفة الدرزية بهجت غيث في منصبه في مواجهة معارضة وليد جنبلاط له، ما لبث ان انقلب رأساً على عقب عندما دفع السوريون الزعيمين الدرزيين إلى التفاهم على تسوية كل الاوضاع الداخلية في الطائفة، ووضع حد لخلافاتهما واعادة النظر، من ضمن توافقهما، في قوانين تنظيم الاوقاف الدرزية. فآلت هذه الصفقة الى اقتسام وليد جنبلاط وطلال ارسلان النفوذ داخل مؤسسات الطائفة على حساب فيصل الداود الذي أخرِج منها عبر نفوذ ضئيل للغاية، ليجد نفسه الوحيد المؤيد لبهجت غيث بل ليتأكد - وان على نحو غير مباشر، وعلى رغم علاقته بمسؤولين سوريين كبار - من طريقة التعاطي التي تتبعها دمشق مع القيادات الدرزية اللبنانية، تبعاً لتقدير في ترتيب مواقعها واهمية تأثيرها ونفوذها وشعبيتها وأولويات هذه المواقع لديها: وليد جنبلاط أولاً - ودائماً أولاً، فطلال ارسلان ، ثم الباقون كفيصل الداود وأنور الخليل وعصام نعمان وسواهم. أما المرجعية الدينية الدرزية المتمثلة بمشيخة العقل، فلا دور سياسياً لها سوى ان تحاول ان تكون في منأى عن تنافس البيتين الجنبلاطي والارسلاني، لئلا تذهب ضحية هذا التنافس، على غرار تجربة بهجت غيث. على أن تفاهماً جرى في مطلع السبعينات بين كمال جنبلاط ومجيد ارسلان نجح في تحييد مشيخة العقل عن صراعهما السياسي بغية ابقائها مرجعية دينية تهتم بشؤون الطائفة، بعدها كان للدروز حتى ذلك الوقت شيخا عقل، احدهما يختاره كمال جنبلاط والآخر مجيد ارسلان، في حصيلة ذلك التفاهم تقررت مشيخة عقل واحدة يشغلها بالتناوب مرشح يسميه كل منهما. بدأت مع محمد أبو شقرا الذي سمّاه كمال جنبلاط ثم توقفت بعد غياب الثلاثة. في التسوية الجديدة التي فرضتها دمشق نهاية السنة المنصرمة على الوارثين الدرزيين، فإن طلال ارسلان، عملاً باستمرار السابقة التي أضحت عرفاً نافذاً، هو الذي يسمّي خلف بهجت غيث تأكيداً لقاعدة التناوب. وفي كل حال على أبواب انتخابات صيف العام 2000، يبدو الرجلان مهتمين فقط باعادة تنظيم اوضاع الطائفة أكثر من اهتمامهما بلوائحها الانتخابية. ظاهرة مجيد أرسلان يمثل مجيد ارسلان ظاهرة نادرة في الحياة السياسية اللبنانية، تجسيداً لصورة العائلة التي ترث وتُورث. شخصيّة محافظة تقليدية، عفوية وقورة على قلّة ثقافتها، حازمة ذات اطلالة مهيبة بالطربوش والشاربين المعقوفين والقامة الكبيرة الممتلئة والمتينة، والوجه المدور المنفتح والعصا الغليظة. وهو الوحيد من سائر السياسيين اللبنانيين جميعاً الذي حافظ على مقعده في مجلس النواب زهاء 53 عاماً بلا انقطاع وتسلم حقيبة وزارة الدفاع 22 مرة. بدأت نيابته العام 1931 في انتخاب فرعي خلفاً لوالده توفيق ارسلان وانتهت بوفاته في 1983. في المقابل جسّد كمال جنبلاط ملامح الشخصية الواسعة الثقافة والمعرفة الموسوعية، الكثير الانتساب الى الديانات غير المشرقية لا سيما الهندية فيقصد بلادها للتزود منها وممارسة رياضاتها وشعائرها واكتساب ثقافاتها، الواسع الاطلاع في الفلسفة وعلم النفس والعلوم والطب والآداب والفنون على اختلاف مدارسها ومذاهبها، حتى قرض الشعر بالعربية والفرنسية، الدرزي ذو المنشأ والتربية المارونية في مدرسة عينطورة على ايدي آباء يسوعيين، صاحب القامة الطويلة المنحنية والرخوة لكنها العميقة الاثر والفعل والجاذبية لدى محاوريها على كرسيها الهزاز في قصر المختارة او البيت البيروتي في المصيطبة، العقائدي بتقدميته واشتراكيته والمالك والاقطاعي الكبير النفوذ على الارض والسكان، و"المعلم" - تبعاً لتسمية مؤيديه - رئيس الحزب الحائز "وسام لينين" في مقدم المناضلين للمقاومة الفلسطينية واليسار العربي والدولي وصديق الاتحاد السوفياتي المسموع الكلمة لديه في شؤون لبنان والشرق الاوسط، المجازف في كل النزاعات والصراعات الاقليمية والدولية ذات الصلة بانتمائه العقائدي، والمفضية - او ينبغي ان تكون كذلك بالنسبة اليه - الى الثورات الشعبية. سرعان ما يقود كمال جنبلاط وحلفاؤه كصائب سلام وعبدالله اليافي ورشيد كرامي وصبري حمادة وأحمد الأسعد وسليمان فرنجية وسواهم حملة معارضته لكميل شمعون و"ثورة 1958". ومع وصول قائد الجيش فؤاد شهاب الى الرئاسة. أضحى كمال جنبلاط في صلب المعادلة السياسية للعهد الشهابي، يوازن رئيس الجمهورية به بيار الجميل في محاولته استقطاب هذين الزعيمين القويين لدى المسيحيين والمسلمين تعويضاً لشعبية كان يفتقدها فؤاد شهاب. ثم لا يلبث ان يتخلى عنه الزعيم الدرزي لدى وصول سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية 1970، تعبيراً عن احتجاجه على تجاوزات "المكتب الثاني" الاستخبارات العسكرية اللبنانية وتدخله في الحياة السياسية في البلاد، ولا يلبث ايضاً بعد خمس سنوات 1975 ان يقود "حرب السنتين" حتى يقع اغتيالاً في اعقابها 1977. المعادلة المميتة وفي كل الاحوال كان دائماً في مواجهة خصم واحد يرفض مهادنته بلا تردد هو "المارونية السياسية" التي قاتلها عسكرياً في جرود جبل لبنان الشمالي ابان "حرب السنتين" بغية السيطرة، بمؤازرة المقاومة الفلسطينية، على مناطقها واحتلالها سبيلاً الى اسقاط "نظام الحكم الماروني" وبناء "نظام حكم وطني". هنا دخل كمال جنبلاط وحيداً في سر المعادلة الخطيرة والمميتة. وفي الواقع فإن بعض مصادر ثقافته ونشأته كان من "المارونية السياسية" بالذات وأصولها القديمة عبر العلاقة الوطيدة التي ربطتها بوالدته الست نظيرة، ذات الصلات العميقة بالكتلة الوطنية ورئيسها إميل إده وبرجالات الانتداب الفرنسي في حقبة العشرينات والثلاثينات. بل ثمة ما يتصل اكثر بتاريخ الزعيمين الابوين قبل ان يرثهما الابنان، وكلاهما صنعته الحرب اللبنانية الاخيرة: عندما ابلغ وليد جنبلاط نبأ مقتل والده لم يصدق واعتقد ان الخبر مزحة. فالرجل لم يكن يتعاطى السياسة قبلاً، ولا تربى في المجالس السياسية المغلقة والمفتوحة لوالده، مفضلاً عليها، ركوب الدراجات وبنطلون "الجينز" الذي لا يزال يلبسه الى اليوم، وممارسة نشاطات شخصية بعيدة عن السياسة، متمكناً من ثقافة أميركية واتقان الفرنسية والانكليزية ببراعة. على انه اظهر لاحقاً، في خضم مأساة الغياب المفاجئ وتسارع المفاجآت السياسية على خطورة معظمها التي دفعته الى صدارة المواجهات المحلية والاقليمية واستحقاقاتها لمجرد كونه ابن كمال جنبلاط ووارثه الوحيد، انه سر ابيه في قراءة الاحداث، ماهراً في مغامرات الدخول في لعبة المعادلات السياسية الصعبة، لا سيما منها الاقليمية، من غير ان يتكبد اثماناً باهظة او يخسر جولات. أما طلال ارسلان فصنف آخر تماماً، وان يكن مثل وليد جنبلاط من صنع المصادفة التي انتزعت من اخيه فيصل عباءة زعامة البيت وألبسته اياها. قبل ان يكبر اضحى وزيراً ونائباً بغية انخراطه في لعبة التوازنات السياسية الدرزية. فتحالف مع وليد جنبلاط ثم اختلف معه. على ان احداً لم يضع هذين الوارثين في منزلة واحدة في الطائفة الدرزية، على غرار ما كان عليه كمال جنبلاط ومجيد ارسلان على وفرة الفروق التي بينهما. حتى بالنسبة الى دمشق، وليد جنبلاط هو الاول في طائفته لديها، ومن بين الاوائل من حلفائها بعد نبيه بري. ما لا يقدمه له رئيس الجمهورية من مكاسب، يأخذه من السوريين. ولذلك لم ينكسر مرة ادنى مطلب له، حتى في عزّ خلافه مع إميل لحود في العهد الجديد، لم يصدر عن حكومة سليم الحص ولا عن مجلس النواب الا قانون الانتخاب الذي يرضيه، ويحفظ له نفوذه في الدائرة الانتخابية التي يتزعم. أين وليد جنبلاط وطلال ارسلان من العهد الحالي ومن إميل لحود بالذات؟ ثمة ما هو مأثور ومعروف عن كمال جنبلاط عندما تصالح مع فؤاد شهاب ابان ولايته الرئاسية. اذ سئل في مطلع الستينات: هل تمشي مع العهد؟ فأجاب "العهد هو الذي يمشي معي"، في اشارة منه الى انه هو على حق. ما حاصل في علاقة وليد جنبلاط بإميل لحود هو المهادنة التي لم تفضِ بعد الى تعاون وتفاهم كاملين، الا انها لا تزال تراوح في الحوار واللقاءات الدورية، وإن في اوقات متباعدة. لكن الرجلين يبحثان بطيئاً في ملفات علاقة الزعيم الدرزي برئيس الجمهورية. في المقابل، وعلى وفرة التأييد الذي يقدمه طلال ارسلان لإميل لحود، الا انه لم يصبح عنده الزعيم الدرزي الوحيد، خلافاً لما فعل فؤاد شهاب بجعل كمال جنبلاط احد اقرب الحلفاء اليه، بل الزعيم الدرزي الاول. وقد يكون احد دوافع التحفظ في هذا الامر معرفة رئيس الجمهورية سلفاً بموقع وليد جنبلاط لدى السوريين. وهو الموقع الذي حملهم على ارغام الزعيم الدرزي على محاورة رئيس الجمهورية والتفاهم معه، اياً تكن وطأة الخلافات والتباين في وجهات النظر، كون الرئيس بالنسبة اليهم - وهذا هو الموقف الذي ابلغ الى كل الفرقاء اللبنانيين حلفاء دمشق منها منذ بدء الولاية - هو الموقف الذي تنتظم تحته كل العلاقات السياسية الداخلية ومع سورية، الى الحد الذي لم يتردد السوريون في تأكيدهم انهم يمنعون الخلاف بين اي طرف كان مع رئيس الجمهورية. والواضح ان وليد جنبلاط انتظم بدوره تحت هذا السقف، من غير ان يتخلى عن توجيه انتقاداته الى حكومة سليم الحص. من جهة بدا رئيس الجمهورية يساوي بين البيتين الجنبلاطي والارسلاني. فكلاهما لم يُوّزر في اولى حكومات العهد مع ان إميل لحود كان المرشح العلني لطلال ارسلان منذ عام 1995، فيما اتخذ وليد جنبلاط موقف المعارض لانتخابه منذ ذلك الحين، وامتنع نواب كتلته البرلمانية عن التصويت له رئيساً 1998، ولم يجد غضاضة كذلك في اولى شهور الولاية بالقول ان العهد الجديد "يعسكر النظام". على ان حصيلة الحوار بينهما افضت الى ترضية وليد جنبلاط بالقانون الجديد للانتخاب، في حين دمج هذا القانون الدائرة الانتخابية ذات النفوذ الارسلاني تقليدياً - وهي عاليه - بدائرة انتخابية اخرى معقدة بواقعها السياسي والسكاني والطائفي هي بعبدا لوجود غالبيات سكانية عدة درزية وشيعية ومسيحية. علماً ان تجربة انتخابات 1996 اظهرت، ومن دون ادنى شكوك، السيطرة شبه الكاملة لوليد جنبلاط على دائرة عاليه. وهو امر يُظهر الى حد بعيد الحدود الدنيا والقصوى في رسم علاقة الحكم بالزعيمين الدرزيين: ألا تتدنى في أسوأ الحالات عن مساواتهما في الاقصاء وحجب المكاسب. لكنها في افضلها لا تجعل طلال ارسلان يتقدم على وليد جنبلاط. ولعل في العبر التاريخية الكثير من التمييز - لئلا يقال الامتياز - بين هذين البيتين اللذين يحتكران وحدهما ولا يزالان الزعامة الدرزية. بل الاحرى في ظل الدور السوري الكبير في الحياة السياسية اللبنانية ان يكون وليد جنبلاط هو الاول. ليس على طلال ارسلان فقط، وانما على حلفاء آخرين كثيرين لدمشق. الاول الذي يتقدم بين بيتين متساويين، لا بين رجلين متساويين