المتنورون في ايران هم المثقفون الذين لا يفترض بهم أن يكونوا متدينين ولا يفترض بهم أن يكونوا من زوار الغرب الأوروبي، ولكن يكفي لهم أن يكونوا اطلعوا على الحضارة الغربية وثقافتها وتأثروا بها، ويكتبون عنها باستمرار. والتسمية "روشن فكر" ترجمة تعني صاحب الفكر المنور أو المضيء، فالمتنورون في ايران هم الذين يحملون أفكارا متنورة بنور الغرب الذي انبهروا به ويدعون له! ويشير المشهد الحالي للمتنورين في إيران إلى أنهم لا يحصرون أنفسم في مقهى ليلي أو في كتاب يتأبطونه أو صحيفة يدمنون قراءتها، فقد تحولوا منذ انتخاب الرئيس محمد خاتمي العام 1997 الى طبقة سياسية راقية وصاروا يمثلون النخب التي تعودت ايران رؤيتها مطلع القرن العشرين، ويدخلون بذلك في صراع قيمي وحتى حضاري مع المتمسكين بنهج الإمام الخميني الراحل وانبهر بشخصيته وبخطاباته. ففي ايران هذه الأيام لا حديث لدى المتنورين إلا عن الاصلاحات، وهي برأي طيف منهم، لا تعني سوى تجاوز الحكومة الدينية، وقد عرّفها الصحافي أكبر كنجي بأنها تؤدي إلى الفاشية. وتطلق تسمية "المتنورون" في الغالب على أصحاب الشهادات العالية في العلوم الحديثة، وتحديداً الذين حصلوا على علومهم في الغرب من المشتغلين أساساً بالعلوم الفكرية من الكتابة والبحث والتأليف، ويعتبرون أنفسهم فوق الآخرين، ينظرون لهم ويحللون ويقدمون الرؤى والاطروحات حول المسائل المختلفة، ويعتبرون الآخرين غير أكفاء في إدارة الحكومة والبلاد، بل وينظرون إلى الدين من زاوية أنه لا يصلح لتغيرات العصر. هؤلاء - أو هكذا ينظر إليهم المعارضون لهم - لا يجدون أنفسهم مقيدين بقيم دينية أو أخلاقية، ويسخرون ممن يتحدث عن هذه القيم ويروج لها، ويعتقدون بأن القيم وأخلاق الحضارة والمدنية الغربية، هي التي يجب أن تسود المجتمع خصوصا جيل الشباب. وبكلمة أخرى يعيش هذا الطيف من المتنورين عقلية القرنين السابع عشر والثامن عشر، وربما يكون يخلط بين المفهوم اللغوي والاصطلاحي لكلمة "المتنورين"، إذ صار المفهوم الثاني أي الاصطلاحي يعني لدى العديد من الايرانيين الانبهار بالغرب والدعاية لسلعته الفكرية وما تجر من قيم وأخلاق. وظهرت في إيران كتب عدة، أشهرها "كشف الأسرار"، الذي ألفه الإمام الخميني مطلع شبابه وناقش فيه ظاهرة "المتنورين"، خصوصاً بين الدينيين أنفسهم. سيد أحمد كسروي في زمن رضا شاه والد محمد رضا بهلوي، شاه إيران السابق، الذي تمكن من قمع الحركة الاصلاحية التي عرفت العام 1906 باسم "المشروطة"، أي الدستورية وأسس نظاماً ديكتاتورياً استمر زهاء نصف قرن، برز اسم المثقف المتنور الديني أحمد كسروي، وهو لم يكن إلا رجل دين يرجع نسبه الى السادة، وكان يؤم المصلين في أحد مساجد تبريز اذربيجانالشرقية، ويعرف بأن قلمه واسلوبه سحرا الشباب آنذاك، إذ جمعت مقالاته في كتاب اعتبر منهاجاً للأدب الفارسي الجديد الذي ناضل ضد الفكر الديني بأسلوب عصري. واهتم الإمام الخميني بمقالات كسروي، لكنه لم يذكر اسمه صراحة في كتاب "كشف الأسرار" وكتب عنه: "أقرأوا مقال هذا الجاهل الذي يدعي النبوة... وفكروا بحل... بثورة قومية، أو بحركة دينية، أو بغيرة شرفية، أو بعصمة وطنية، أو إرادة قوية، فيجب أن توجه لهذه النطفة النجسة التي لا تملك حياء، لكمة حديدية ليطاح بها أرضاً... وهذه البقية من التأريخ تريد أن تفنيكم... فهؤلاء جعلوا الأمانات الالهية ملعبة بأيديهم وبأهوائهم". الماسونية والمتنورون يعتقد أتباع الخميني ومن أصبحوا يسمون هنا الاصوليين، وهم يحرصون في الوقت نفسه على أن ينأوا بأنفسهم عن الصراع الدائر بين المحافظين والاصلاحيين، بأن الماسونية هي التي أنشأت حلقات المتنورين ورعتها وروجت لها. وفي هذا الإطار نشرت صحيفة "كيهان"، التي تخضع لإشراف "الولي الفقيه" علي خامنئي، سلسلة دراسات عن الماسونية، تمثل مذكرات واعترافات كبار مؤسسي هذه المنظمة الخفية في ايران، وذكرت "أن المتنورين الايرانيين هم صنيعة الماسونية". فيما يرى علي شيرازي، وهو من المحافظين، أن العكس هو الصحيح. وكتب في صحيفة "رسالت" المحافظة: "لمعرفة حقيقة أعداء الدين المتنورين نجد ضرورة في استذكار مشاهد من الماسونية، وقد أسسها عدد من المتنورين الايرانيين". ومضى شيرازي الى أبعد من ذلك ليقول: "إن تبيان الوحدة بين المتنورين والصهيونية العالمية سيكشف أن المتنورين والصهيونية والماسونية حلقات من سلسلة واحدة أسس لها في ايران الميرزا ملكم خان أول من وضع حجر أساس المتنورين". كان الميرزا ملكم خان من أشد المتعصبين لفكرة نقل القيم الغربية الى ايران. ويذكر عادة اسمه رديفاً لقضية "التنباغ" أو التبغ، والفتوى الشهيرة التي أصدرها الميرزا الشيرازي بتحريم استخدامه بعدما منح "القاجار" امتياز "التنباغ" لجهة أخرى. رأى الدينيون أن الميرزا ملكم خان أعلن ثورة على الدين. ومع ذلك تزوج فتاة أرمنية في مراسم أقيمت في الكنيسة وصار يشتغل بالتبشير المسيحي على قاعدة الترويج للعلم، مع أنه كان يرفض أساساً الايمان بالمسيحية وكتب في وصيته أن تحرق جثته بعد موته. وكان هناك الميرزا حسين خان سبهسالار ومحمد علي فروغي والحاج سياح محلاتي وسيد حسن تقي زاده وميزا فتح علي آخوندزاده وغيرهم ممن كتبوا - برأي المعارضين للمتنورين - نسخة غربية لإيران كي تتخلص من أمراضها بالتمسك بالقيم الغربية. سيد حسن تقي زادة وهذا واحد من أبرز منظري حركة التنوير في إيران، ويعتقد بأن إيران يجب أن تغرق حتى قمة رأسها في الثقافة الغربية. وكتب عنه الإمام الخميني: "تقي زاده قال يجب أن نصبح انكليزاً أو غربيين من أخمص القدم حتى قمة الرأس لكي نتحول إلى بشر". ويعترف تقي زاده بأنه نهل من الميرزا ملكم خان، "وقد أخذت من الميرزا ملكم خان 80 في المئة من أفكاري وفهمي السياسي. وقرأت كل ما يقع في يدي من كتبه، فهو أثر في مسار حياتي السياسية بشكل أساسي". أما الحاج سياح محلاتي ومحمد علي فروغي والآخرون من هذا الطيف، فهم - كما تقول خطابات الخميني - أخذوا من أفكار ملكم خان في مواجهة الدين باسم التنوير. وبرز في السنوات الأخيرة بعد انتصار الثورة الاسلامية العام 1979 عدد كبير من المتنورين الايرانيين، لكنهم مزجوا بين الدين وحركة التنوير وأطلقوا على أنفسهم "المتنورون الدينيون" وهم مفكرون إسلاميون نشأ معظمهم على أفكار الدكتور علي شريعتي، وبعضهم تأثر بالمهندس مهدي بازركان أول رئيس وزراء للثورة الإسلامية. يؤمن هؤلاء بنظرية فصل الدين عن السياسة لكنهم لم يتجرأوا على طرح أفكارهم أثناء حياة الخميني، الذي قال محذراً من خطرهم على الدولة الدينية التي أسسها بعد الثورة وأراد لها الاستمرار: "تخلصنا من شر رضا خان، لكننا لن نجد النجاة بسهولة من شر أولئك المتأثرين بالغرب أو الشرق... إنهم عملاء القوى الكبرى... ولن يذعنوا لأي منطق ولن يلقوا سلاحهم". عبدالكريم سروش هو واحد من القلائل الذين سنحت لهم الفرصة للمشاركة في الثورة الثقافية التي كان أحد أعضائها بعد الثورة وأبعد من المجلس لأنه أخذ يطرح أفكاره، من خلال التلفزيون وفي الجامعات، التي تنادي بضرورة فصل الدين عن السياسة. وقال أخيراً إن العودة بإيران الى عصر النبي ص أمر محال. ونجح سروش في تربية جيل من الشباب انشقوا عن مؤسسة "كيهان" وأصدروا مجلة "كيان" الثقافية، ومجلة "زن" المرأة. وأشرف على الأولى الصحافي ماشاء الله شمس الواعظين دخل السجن، وتولت الاشراف على الثانية شهلا شركت. واعتبرت المجلتان مركزاً لحوار بين المتنورين الإسلاميين وغيرهم من المتنورين العلمانيين الذين روجوا بقوة وجرأة للعلمانية ولإصلاحات تقوم على هذا النهج، ما دفع الرئيس خاتمي الى الاعلان عن أنه ليس بصدد اصلاحات من هذا النوع، وأكد ضرورة تطبيق اصلاحات دينية تلتزم بتاريخ إيران المشبّع بالدين. محسن كديور رجل دين متنور. شقيق زوجة وزير الثقافة عطاءالله مهاجراني. صاحب نظرية "التساهل والتسامح" في الدين والممارسات الثقافية. تتلمذ على يد خليفة الإمام الخميني المخلوع حسين علي منتظري وأخذ منه موقفه الحاد من "ولاية الفقيه"، أي حاكمية علماء الدين في الترويج لولاية غير مطلقة للفقيه. واللافت في رأي منتظري الفقهي أنه تراجع بشكل مثير عما كان عليه أثناء عمله نائباً للإمام الخميني وخليفته المنتظر، إذ ألقى دروساً عن "ولاية الفقيه المطلقة" على الطلبة المؤهلين لأن يكونوا مجتهدين. وجمعت تلك الدروس في أربعة مجلدات ضخمة عن "الحكومة الاسلامية"، هي أول ما وُضِعَ تكييفاً فقهياً للنظرية، إلا أن منتظري عاد بعد سنوات من عزله وأخذ يروج لنظرية "الولاية المشرفة" التي لا تتدخل في التفاصيل ولا تعتبر ملزمة. هذا الرأي يتبناه كديور وبنى عليه عدداً من الكتب التي اعتبرت أول من نزل بالبحث في مسألة ولاية الفقيه إلى الشارع. ويتهم كديور وصهره، كما هي الحال مع سروش وكثير من المتنورين الجدد الذين كانوا يصنفون منذ بضع سنوات في خانة الاصوليين، بأنهم يروجون لحركة التنوير التي أسسها ميرزا ملكم خان