"هناك حلّ اسمه رفيق الحريري وثمن القبول به قد يكون كبيراً لأنه يعني اعادة تشكيل المشهد السياسي حول الرجل ومشروعه. اما رفض الحلّ والثمن فيعني ان هناك مشكلة كبيرة دائمة اسمها رفيق الحريري وثمن منعها من التحول الى حلّ قد يكون باهظاً". هكذا اختصر السياسي المُجرّب نتائج الانتخابات اللبنانية خصوصاً في العاصمة بيروت. واضاف: "تقضي الواقعية القول ان لبنان كان عاجزاً منذ منتصف الثمانينات عن إنجاب سياسيين أقوياء يستحقون لقب الأقطاب على غرار ما كانه صائب سلام ورشيد كرامي وكميل شمعون وبيار الجميّل. وكان عاجزاً او ممنوعاً عن إنجاب رجال يستحقون لقب الرقم الصعب الذي يصعب تجاهله او القفز فوقه على غرار ما كان كمال جنبلاط او بشير الجميّل في الشهور الاخيرة من حياته. وفي تلك الفترة ظهر أقوياء ضد سورية سرعان ما هُزموا كالعماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع وترك المشهد لأقوياء، ساهمت سورية في بناء قوتهم او ضمان صعودهم وهم قلّة محدودة جداً، او لعاديين استعاروا قوتهم من قوة سورية. في الانتخابات الاخيرة أخلّ اللبنانيون بقواعد اللعبة. خرج وليد جنبلاط منتصراً من الانتخابات واستحق لقب القطب الذي يقترب من "الرقم الصعب" وخرج الحريري بانتصار كاسح كرّسه رقماً صعباً وربما كان الوحيد الذي يستحق هذه التسمية اليوم". وقال: "لا يمكن إنكار رصيد الرئيس نبيه بري داخل الطائفة الشيعية وحجم الدور الذي يلعبه من موقعه كرئيس لمجلس النواب لكن بري نفسه لا يستطيع إلا ان يعترف بوجود شريك كبير له في الشارع الشيعي هو "حزب الله". وختم السياسي المجرّب كلامه قائلاً: "أسفرت الانتخابات النيابية عن ترسيخ موقعين في السياسة اللبنانية لم تشارك سورية في صنعهما. الاول موقع وليد جنبلاط الذي انطلق من إرث والده ورسّخ زعامته بالتحالف مع سورية في "حرب الجبل" في 1983 وأعطى لانتصاره الانتخابي الاخير بُعداً وطنياً باعتماده نهج المصالحة والمصارحة. المصالحة مع خصوم الامس من اللبنانيين والمصارحة مع سورية لجهة تمسكه بعلاقات قوية معها مع انتقاده دورها في الادارة اليومية للشأن اللبناني. والموقع الثاني هو الموقع الجديد للرئيس رفيق الحريري والذي صنعه بدءاً من النصف الاول من الثمانينات مستفيداً من قدرته المالية وعلاقاته الواسعة محلياً وعربياً ودولياً ومن قدرته على إثارة ثقة اللبنانيين والمستثمرين من تجربته في الحكم والمبايعة الكاسحة التي حصل عليها في الانتخابات الاخيرة. وبديهي ان على الرئيس اميل لحود ان يتعاطى مع الحقائق الجديدة التي أفرزتها الانتخابات، والأمر نفسه بالنسبة الى سورية". بغض النظر عن مدى صحة تقويم السياسي لنتائج الانتخابات او دقّتها فان الواضح هو ان اللبنانيين والمعنيين انشغلوا غداة انتهاء الانتخابات ب"ظاهرة الحريري". وكانت الاسئلة لماذا حقق الحريري هذا الفوز الكاسح وماذا سيفعل بهذا الفوز وماذا ستفعل الدولة امام المعطيات الجديدة نيابياً وسياسياً؟ يتفق السياسيون والمراقبون في بيروت في ان تردّي اداء حكومة الرئيس سليم الحص كان في طليعة الأسباب التي دفعت جزءاً من الناخبين الى تأييد اللوائح التي شكلها الحريري في العاصمة اللبنانية. فحكومة الحص التي عاشت على رصيد الرئيس لحود، واستنزفت جزءاً غير قليل منه، لم تستطع مواجهة المشكلة الاقتصادية التي ادى التخبّط في معالجتها الى تفاقمها. اما العنصر الثاني فهو المناخ الذي قام بعيد اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة الاولى في عهد لحود، اذ سرعان ما بدا ان العهد والحكومة راغبان في تحجيم الحريري واضعافه. وجاءت مسألة تقسيم بيروت الى ثلاث دوائر انتخابية لتعطي انطباعاً انه من الممنوع على الحريري ان يكون زعيماً للعاصمة او الزعيم الوحيد فيها. وصبّت في السياق نفسه حملة الملاحقات وفتح الملفات فنجح الحريري، وهو يسيطر على اكثرية وسائل الاعلام مباشرة او مداورة، في تصوير نفسه على انه ضحية هجوم متعدد الاطراف يستهدفه. وثمة من يضيف عنصراً آخر وهو ان الطائفة السنية أرادت تعديل ميزان القوى في مواجهة رئيس قوي للجمهورية وصعود بارز للطائفة الشيعية خصوصاً بعد تحرير الجنوب فاختارت الالتفاف حول زعيم سنّي أعاد لها امتدادها العربي بسبب علاقات وثيقة يقيمها مع عواصم الدول العربية الاكثر تأثيراً في القرار العربي. كل هذا أُضيف الى انجازات الحريري خلال توليه الحكم، ولو بثمن باهظ، فضلاً عن الدور الذي يلعبه امتلاك الحريري قدرات مالية استثنائية وشبكة مؤسسات واسعة وخطة خدمات تربوية واجتماعية بدأت قبل عقدين. كان متوقعاً ان تسفر الانتخابات النيابية في بيروت عن فوز واسع للحريري لكنها اسفرت عما هو أهم وأخطر: إسقاط الرموز الاخرى في العاصمة، اي الرئيس سليم الحص والنائب تمام سلام وتحويل الحريري زعيماً وحيداً للعاصمة. وترافق ذلك مع توجيه ضربة قاصمة الى رئيس الوزراء السابق عمر كرامي في طرابلس، شارك الحريري في تسديدها، وتمدد المواقع الحريرية الى كل العقد السنية في عكّار واقليم الخروب وصيدا والبقاع الغربي. وعلى رغم كل ما قيل قبل الانتخابات عن حرص سورية على مراعاة التوازنات وفوز الحص وسلام الى جانب الحريري في بيروت فإن الحريري تمكن من اطلاق موجة عاتية حسمت لمصلحته زعامة بيروت والطائفة السنية. لكن العقدة الأبرز هي رئاسة الحكومة المقبلة. فتكليف شخصية غير الحريري سيعني ان الحكومة ستتعرض سريعاً لحرب استنزاف اعلامية شبيهة بما تعرضت له حكومة الحص. وتكليف الحريري نفسه يعني الحدّ من قدرته على ادارة اللعبة وربما الحدّ من قدرة سورية على ادارتها فمن سيملك لاحقاً القدرة على اخراج الحريري من رئاسة الحكومة. ويضيف: تحوّل الحريري رقماً صعباً وقد يكون الخيار الوحيد امام العهد هو التعايش معه والتعاون. فقد تكون عودته الى السلطة هي الفرصة الوحيدة لاستنزاف شيء من رصيده نظراً للطبيعة المعقّدة للمشكلة الاقتصادية وللتوازنات التي ترخي بثقلها على القرار الحكومي. والأمر نفسه بالنسبة الى دمشق التي تجد نفسها مدعوة للتعايش مع زعامة لبنانية ذات امتدادات عربية وعلاقات دولية. وقد مهّد الحريري في العامين الماضيين لتسهيل هذا التعايش. فعلى الصعيد الداخلي امتنع عن مهاجمة لحود شخصياً وصبّ غضبه على الحكومة، وهو حرص بعد فوزه الانتخابي على الإشادة بحياد العهد. وعلى صعيد العلاقات مع سورية نجح في تحسين العلاقات مع الدكتور بشّار الاسد بعد فترة اضطراب نجمت عن "صداقات" الحريري وراء الحدود اللبنانية. هكذا شقّ الحريري طريق العودة الى رئاسة الحكومة مستعيناً بماكينة من العلاقات العربية والدولية ورصيد شعبي نجح في تعزيزه مستفيداً من قدراته وبراعته ومن اخطاء خصومه. واذا استثنينا الوزير نجيب ميقاتي، الذي توّج بفوز انتخابي لافت في الشمال ممارسة ناجحة داخل حكومة الحص، فإن الحريري يتقدم في اتجاه رئاسة الوزراء من دون منافس. لكن السؤال هو هل يملك الحريري نفسه حلاً لمشكلات البلاد؟ ام ان قدرته تقتصر على اختراع الآمال بالحل وتحسين شروط انتظار حلول السلام في المنطقة؟ اي حكومة يريد وأي حكومة يستطيع ان يشكّل؟ وهل يمتلك القدرة او الرغبة في معالجة الملفات الحساسة الاخرى لا سيما تلك التي طرحها حليفه جنبلاط لجهة ارساء العلاقات اللبنانية على قاعدة التكافؤ او لجهة تمكين العماد ميشال عون من العودة الى لبنان واستصدار عفو عن قائد "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع لإنهاء شعور الموارنة بأن تحجيم دورهم وزعمائهم صار من ثوابت السياسة المتبعة منذ عقد؟ ان ثمة من يعتقد ان عودة الحريري ستنقذ عهد لحود من عبء الكارثة الاقتصادية وستُحرّر دمشق من عبء التجاذبات الحادة في لبنان فلقاء الصلاحيات الرئاسية بقدرات الحريري والتفويض الشعبي الممنوح له سيحرم المعارضين الجدد من فرصة الاطلال عبر منابر كثيرة استخدمها المعارضون لحكومة الحص. وبانتظار القرار ستنشغل بيروت وطريق بيروتودمشق بالسؤال نفسه: ما ثمن القبول بحلّ اسمه الحريري ومن ثمن الإصرار على رفض هذا الحلّ وتحويله مشكلة دائمة