المركز الطبي الدولي يعلن عن تأسيس كلية طب جديدة بمعايير عالمية    البحرين تعزي المملكة في استشهاد ضابطين بتحالف دعم الشرعية اليمنية    ممثلا "سلطان بروناي دار السلام و"جمهورية توغو" يصلان الرياض    آل الشيخ يرأس وفد المملكة في الاجتماع الثامن عشر لرؤساء المجالس التشريعية الخليجية في أبو ظبي    مجزرة في جباليا وتطهير عرقي شمال غزة    منسج كسوة الكعبة المشرفة ضمن جناح وجهة "مسار" بمعرض سيتي سكيب العالمي المملكة العربية السعودية    "السكري" .. عبء اقتصادي متزايد على الحكومات    "الصحة" تحيل ممارسين صحيين للجهات المختصة بعد نشرهم مقاطع غير لائقة    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تشارك في "ملتقى الترجمة الدولي" بالرياض    هل نرى معرضاً للصحافة السعودية وتاريخها العريق؟!    البديوي يدين الاعتداء الإرهابي الغادر في معسكر قوات التحالف الداعمة لقوات الشرعية اليمنية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على تبوك والجوف والحدود الشمالية    خلال الاجتماع الوزاري لدول مجموعة العشرين بالبرازيل:المملكة تؤكد التزامها بالحفاظ على التراث الثقافي    والدة الأستاذ علي زكري في ذمة الله    جمعية «صواب»: برنامج متخصص ل39 شاباً متعافياً من الإدمان بجازان    الأمريكية "كوكو جوف" بطلة الفردي في نهائيات رابطة محترفات التنس    بلدية محافظة الشماسية تكثف جهودها الرقابية لتعزيز الامتثال    محافظ جدة يتوج الفائزين في فعاليات بطولة جمال الجواد العربي    أمانة القصيم تشارك في معرض سيتي سكيب العالمي وتطرح فرص استثمارية    قنوات عين تحصد ثلاث عشرة في خمس مسابقات دولية خلال عام 2024    35.4 مليار ريال حصيلة الإطلاقات والاتفاقيات في ملتقى بيبان 24    الرئيس الموريتاني يزور المسجد النبوي    8 توصيات طبية تختتم مؤتمر طب الأعصاب العالمي    برعاية خالد بن سلمان.. وزارة الدفاع تنظم الملتقى الدولي الأول لضباط الصف القياديين    20,778 مخالفاً في 7 أيام وترحيل 9254    ضمك يتغلّب على الوحدة بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    الأخضر يفقد كنو أمام «الكنغر»    السعودية تختتم مشاركتها في منتدى «WUF12» بمشاركة 30 جهة وطنية    هيئة العقار ل «عكاظ»: «فال» و«موثوق» شرطان لإعلانات المنصات    التفاؤل بفوز ترمب يدفع «S&P 500» لتسجيل أعلى مكاسب أسبوعية    الفيفي: 34 % من الطلب الرقمي الحكومي للمنشآت الصغرى.. بلغ 32 ملياراً    «فهد الأمنية» تستضيف مؤتمر الاتحاد الدولي لأكاديميات الشرطة    «ألفا ميسينس».. تقنية اصطناعية تتنبأ بالأمراض    5 نصائح لحماية عينيك من الالتهاب    وزارة الدفاع تنظم الملتقى الدولي الأول لضباط الصف القياديين نوفمبر الجاري    ياباني يحتفل بذكرى زواجه الافتراضي    فيسبوك وإنستغرام يكافحان الاحتيال بتقنية الوجه    يجوب مختلف مناطق المملكة.. إطلاق «باص الحِرفي» للتعريف بالفنون التقليدية    حديث في الفن    انطلاق التمرين السعودي المصري«السهم الثاقب 2024»    مراسل الأخبار    التعاون يقتنص فوزاً ثميناً من الأخدود    نور ولي والبلوشي يحتفلان بعقد قران مها ورامي    تكريم «الموظف الكفو» في فرع «الموارد والتنمية الاجتماعية» بحائل    الجوف تسجل أقل نسبة بطالة بين الذكور بالمملكة ب 2.3%    فطر اليرقات يعالج السرطان    لماذا فرغوا الأهلي ؟    فهم ما يجري بالمنطقة من اضطرابات.. !    فوز ترمب.. هل للعنصرية مكان في الانتخابات الرئاسية ؟    استحالة الممكن وإمكانية المستحيل    «منطاد العلا»    أنشيلوتي: حققنا فوزا رائعا على أوساسونا والحديث عن الانتقالات سابق لأوانه    خطيب المسجد الحرام: أوفوا العهود والتزموا بالأوامر والنواهي    أمين الرياض يلتقي مديرة برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية    مبادرة تطوعية لتبديل المصاحف المهترئة من مساجد وجوامع محافظة ضمد تطلقها إسلامية جازان    الشؤون الإسلامية تنفذ ١٣٣٥ جولة رقابية على جوامع ومساجد ومصليات ودور التحفيظ وجمعيات التحفيظ بمدينة جيزان    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصراع السني السني على الزعامة السياسية: الحص والحريري تحت السقف المحلي والسوري
نشر في الحياة يوم 21 - 02 - 2000

بين سليم الحص ورفيق الحريري شيء من صراع البقاء السياسي، إذ ليس ما يتفقان عليه سوى العداء السياسي الذي سرعان ما أضحى أسير عداء شخصي لا قِرَار له. ولذا لم يعد من السهل الفصل بين هذين العداءين توصلاً الى مصالحة مستحيلة، كالتي خبرها الموارنة منذ منتصف الثلاثينات الى اواخر الاربعينات بين إميل إده وبشارة الخوري، النقيضين المارونيين اللذين تعاقبا على رئاسة الجمهورية وتنافسا طويلاً في مجلس النواب وخارجه، في السياسة وفي الخيارات الوطنية وفي استقطاب الرأي العام المسيحي اللبناني وفي اجتذاب الحلفاء من سائر الطوائف والمذاهب اللبنانية الى حد قسمة البلاد بين مَن مع إميل إده ومَن مع بشارة الخوري. وذهبا من العداء السياسي الى العداء الشخصي، فلم يمت حتى بموتهما. ولا يزال هذا العداء مقيماً في ردود فعل نجليهما، ريمون إده وميشال الخوري اللذين لم ينسيا أثر تلك الخصومة.
بل ثمة حقيقة أخرى تماثل هذا العداء - وهو قد تولّد منها اساساً - هي ان نشوءه لم يكن ليحصل لولا العهد الحالي، ولولا رئيس الجمهورية إميل لحود. فالرجلان كانا خصمين سياسيين في العهد السابق، وكلاهما ساهم في بناء حقبة مهمة وخطيرة في عهد الرئيس الياس الهراوي في مرحلتين متباعدتين، والتقيا بعد انتخابات 1992 في موقعين مختلفين، ثم تنافسا بشدة في انتخابات 1996 ليعودا من بعدها الى الموقعين اياهما. على ان السنوات الست من وجود رفيق الحريري في رئاسة الحكومة 1992 - 1996 وسليم الحص في المعارضة لم تذهب بخلافاتهما الى عتبة المقاطعة والعداء الشخصي. ظلا يتصافحان ويلتقيان ويتبادلان التحية، ويتخاطبان داخل مجلس النواب باحترام كبير ويختلفان، من غير ان يتخلى كل منهما عن موقف الخصومة السياسية للآخر.
لكن شيئاً من كل هذا لم يعد في وسعهما المثابرة عليه منذ بدء عهد لحود وانقلاب المواقع بينهما، وانقلاب بعضهما على بعض بفعل انقلاب هذه المواقع، ليترأس الحص اولى حكومات العهد الجديد، وينخرط الحريري في معارضة عنيفة له. ولهذا ليس من السهل التخلي ايضاً عن الاعتقاد القائل بأن العهد الجديد قادهما الى هذا الطلاق. الا انه طلاق وثيق الصلة بعداء آخر مستحكم وان يكن غير معلن بين لحود والحريري، هو المصدر الاول للارباك الذي تتخبط فيه معارضة الرئيس السابق للحكومة لخلفه وحكومته بعدم مقدرة هذه المعارضة على اشهار خصومتها لرئيس الجمهورية لأسباب تتصل بموقف سوري متشدد حيال هذه المسألة، وللارباك المماثل الذي يواجه به الحص - وحيداً وفي ظل حكومة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها - الصراع مع الحريري. بل جلّ ما يستطيع ان يقدمه رئيس الجمهورية في هذا الصراع هو تمسكه بحكومة الحص من دون ان يكون معنياً بنزاعهما. يقاطع الحريري خلفه في رئاسة الحكومة، الا انه في الوقت نفسه يثابر على الاتصال برئيس الجمهورية والاجتماع به وتأكيد دعمه له في معرض اصراره على تجاهل حكومة الحص. لكن ذلك لا ينتقص من واقع ان ما بين الحص والحريري هو نفسه تقريباً ما بين لحود والحريري. إذ منذ وصوله الى رئاسة الجمهورية وتسلمه سلطاته الدستورية في 24 تشرين الثاني نوفمبر 1998 لم يكن الرئيس الجديد يميل الى التعاون مع الحريري.
قبل أيام قليلة على الاستشارات النيابية الملزمة التي اجراها لحود لتسمية الرئيس المكلف لأولى حكومات عهده وآلت إلى الحريري قبل اعتذاره عن تأليف الحكومة الاولى في 30 تشرين الاول/ اكتوبر 1998، قصد دمشق في سيارة اللواء الركن غازي كنعان رئيس جهاز الامن والاستطلاع في القوات السورية في لبنان لعقد قمة سرية وغير رسمية مع نظيره السوري حافظ الأسد تتصل بالخطوات الاولى للعهد الجديد. في الطريق، فاتح لحود كنعان برغبته في الطلب الى الأسد تسمية الحص رئيساً للحكومة الاولى والتعاون معه. على ان كنعان نصحه بعدم اثارة هذا الموضوع مع الرئيس السوري لسبب بسيط: ان الأسد يفضل الحريري لرئاسة الحكومة الأولى، وحدّثه في هذا الموضوع قبل أيام في طريق عودة الحريري من القاهرة وباريس عبر دمشق، اعتقاداً منه ان المرحلة الجديدة تتطلب اهتماماً بالموضوع الاقتصادي. وهو قرار تبلّغه أيضاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليبدو الامر قاطعاً بالنسبة الى ترؤس الحريري الحكومة الاولى.
لكن رئيس الجمهورية فضّل استمزاج رأي نظيره السوري في اقتراحه. في دمشق كرّر الأسد على الرئيس اللبناني موقفه. الا ان الحريري لم يلبث ان اعتذر عن تأليف الحكومة الاولى، فآلت رئاستها الى حيث يريد لحود، أي سليم الحص. في هذه المسألة بالذات تولدت اولى عناصر الخلاف بين الرجلين لمجرد ان الحص قَبِل ما رفضه الحريري من جهة، ولإدراك الرئيس السابق للحكومة انه في مشكلة مع رئيس الجمهورية تتجاوز في الضرورة الحص، لتبلغ حدود ادانة العهد السابق وملاحقته.
وفي الواقع، ان ما يباعد بين الحريري والحص هو نفسه ما يباعد بينه ولحود: المزاج وردود الفعل وأسلوب العمل والتفكير والمدرسة السياسية والثقافة، وجملة المواقف المرتبطة بالمال وأخلاقيات العمل السياسي والعلاقات العامة وسبل توسل السلطة وطريقة اتخاذ القرارات. لذا لم يعد في الامكان فصل الخلاف بين لحود والحريري عن الخلاف بين الحص والحريري. مع ذلك، خرج رئيس الجمهورية من النزاع المباشر، ليصبح الحص والحريري وجهاً لوجه في الصراع على السلطة والحكم، وعلى زعامة بيروت، وعلى زعامة الشارع السنّي فيها.
من ذلك حجم العداءين السياسي والشخصي بين الحص والحريري. لكنه في اي حال بات جزءاً من الصراع المزمن على بيروت داخل الطائفة السنّية على جاري تقليدها، من غير ان يكون مماثلاً لصراع البيوت السياسية البيروتية التي احكمت طوق الاستئثار بتمثيل العاصمة شعبياً في المواقع المختلفة للسلطة لسنوات طويلة. لا هو صراع يشبه النزاع التاريخي بين بيتي الصلح وسلام على الزعامة السنّية في بيروت، وعلى زعامة بيروت خصوصاً. ولا هو صراع يشبه ذاك الذي كابدته منذ مطلع الستينات وجوه جديدة خارجة من الطائفة باحثة عن مواقع سياسية لها داخل بيروت في مواجهة البيوت التقليدية القديمة.
وفي كل حال، كان وجه هذا النزاع عدم فصل زعامة بيروت عن رئاسة الحكومة، المنصب المخصص للطائفة السنّية، والذاهب تقليدياً الى بيروتيين كونهم ابناء العاصمة. كان ذلك ايضاً وجه التطابق بين هذين الموقعين اللذين لم يحجبا خلاف صائب سلام البيروتي مع رشيد كرامي الطرابلسي عندما يكون هذا الاخير في الحكم، وانقلاب قيادات الطائفة السنّية على أمين الحافظ حينما قَبِل عام 1973 بتأليف حكومة جديدة تخلف حكومة سلام من دون موافقة مسبقة للطائفة، التي لم تلبث ان فرضت العام 1976 على رئيس الجمهورية سليمان فرنجية رئيساً جديداً للحكومة هو رشيد كرامي. بل الواضح ان رئاسة الحكومة كانت تصنع الزعامة البيروتية والزعامة السنّية حتى لغير ابناء العاصمة. فرياض الصلح الصيداوي، والمرشح الدائم عن دائرة صيدا في محافظة الجنوب، بدا على الدوام الناطق الفعلي بإسم المسلمين السنّة ومحاورهم، وإن كان ذلك في ظل صعود زعامتي صائب سلام وابن عمّه الصيداوي الآخر سامي الصلح الذي توجه الى بيروت لبناء موطئ قدم له فيها. هو السبب نفسه الذي جعل من كل زعيم سنّي، وبيروتي خصوصاً، يلوذ بعهد رئاسي لحماية شرعية تمثيله للشارع السنّي: سامي الصلح مع كميل شمعون، وعبدالله اليافي مع شارل حلو، وصائب سلام مع سليمان فرنجية فضلاً عن رشيد كرامي مع فؤاد شهاب. وقد يبرر ذلك الى حد كبير مقدار الخلاف بين الحص والحريري على رئاسة الحكومة التي هي الوجه الآخر، المعلن في الضرورة، لزعامة بيروت. فهذا المنصب أدخل سليم الحص الى قلب الحياة السياسية اللبنانية وإلى صلب معادلتها الوطنية مذ ترأس حكومة للمرة الاولى في عهد الياس سركيس العام 1976، ليمكث في هذا الخضم الى اليوم، متقلباً من ترؤسه حكومتين في عهد سركيس 1976 و1979، ثم وزيراً في عهد أمين الجميل 1984، فرئيساً للحكومة بالوكالة خلفاً لرشيد كرامي بعد اغتياله 1987، ثم رئيساً لأولى حكومات عهد الياس الهراوي 1989. الأمر نفسه بالنسبة الى الحريري الذي قاده ترؤسه رابعة حكومات عهد الهراوي الى اثنتين اخريين والى خروجه من انتخابات 1996 زعيماً بيروتياً قوياً. والواضح من كل هذا ان الحص والحريري اضحيا عملياً أسيريْ هذا الهاجس الذي يدفع بكل منهما الى استقطاب العائلات البيروتية لتأليبها على خصمه، والى اعتبار المعركة على زعامة بيروت، بدءاً بانتخابات العام 2000، هي المهمة المطلوبة.
إلا أن قراءة بسيطة للعائلات البيروتية التي تعاقبت على النيابة عن بيروت ما بين 1934 و1996، تبين ان 28 عائلة سنّية فقط استأثرت بتمثيلها السياسي. منها 20 عائلة انتخبت لدورة نيابية واحدة، فيما عائلة واحدة نابت عن بيروت في سبع دورات انتخابية صائب سلام لست مرات ثم نجله النائب الحالي تمام لدورة واحدة، وعائلتان نابتا في ست دورات انتخابية عبدالله اليافي وسامي الصلح، وعائلة واحدة نابت في اربع دورات عثمان الدنا، وعائلة واحدة نابت في ثلاث دورات رشيد الصلح البيروتي اذا كان لا بد من تمييزه عن سامي الصلح الصيداوي وإن انتمى الاثنان الى جذور واحدة، وعائلتان نابتا في مرتين عدنان الحكيم وسليم الحص اذا كان لا بد من تمييزه بدوره عن فوزي الحص الذي ناب عن بيروت مرة واحدة في انتخابات العام 1957. وذلك يعني ان 31 مقعداً من مجموع 51 مقعداً سنّياً في بيروت خلال الفترة من 1934 إلى 1996 ذهبت الى سبع عائلات فقط بنسبة 78.60 في المئة، بينما توزعت المقاعد الباقية على وجوه جديدة في المنصب وإن تكن من بينها وجوه مزمنة في العمل السياسي لم يتح لها شق طريقها الى نيابة بيروت اكثر من مرة واحدة، كخير الدين الأحدب وحسين العويني وشفيق الوزان.
وفي الواقع لا يمكن تلمّس تأثير التغيير في نيابة بيروت - وهو هنا لا يرتبط في الضرورة كمؤشر على زعامتها - إلا في انتخابات 1992 و1996 خصوصاً، اللتين عبّرتا تماماً عن حجم الانقلاب الذي احدثه اتفاق الطائف في الحياة السياسية والوطنية في البلاد منذ العام 1989، وأفضى الى نشوء طبقة سياسية جديدة على انقاض البيوت التقليدية لبيروت التي انهارت بالوفاة او التواري او الانسحاب او الابعاد. فضلاً عن مغازي اخرى ارتبط بعضها بانتخابات 1992 وبعضها الآخر بانتخابات 1996، وفي الحالين كانت ثمة دوافع لفرض هذا الائتلاف أو ذاك دون سواه، ولمنع مرشحين من خوض الانتخابات، ولحسم نتيجة الانتخابات قبل الوصول الى صناديق الاقتراع. اذ وصل في انتخابات 1992 و1996 تسعة نواب سنّة جدد عن بيروت من مجموع 29 نائباً سنّياً بلغوا البرلمان على امتداد 58 عاماً، بنسبة 48.34 في المئة. في حين ان 19 نائباً من 29 اتوا للمرة الاولى الى البرلمان خلال الفترة من العام 1934 إلى 1972، بنسبة 51.65 في المئة. وقد يكون هذا المؤشر خير معبر عن ان نيابة بيروت قلّما تكون عرضة للتغيير من خلال تمثيلها الشعبي في المجلس.
وهو مؤشر يقود بدوره الى الاعتقاد بحجم تأثير الزعامة ومتانتها وسطوتها في الرأي العام السنّي بحيث أضحت في صلب نسيجه، وفي دوافع احجامه عن احداث تغيير ضروري وتناوب حتمي على السلطة وفي الهيئات المنتخبة، إذ أن صورة الزعيم هي الثابتة الدائمة، ومن خلالها يحصل - أو لا يحصل - التغيير طبقاً لإرادة هذا الزعيم او ذاك. فصائب سلام كان هو الثابت، لكن المتغيرين معه في تمثيل بيروت كانوا: في انتخابات العام 1964 صبحي المحمصاني، وفي انتخابات العام 1972 زكي مزبودي وجميل كبي. وقبل ذلك في حقبة الاربعينات والخمسينات قلّما بدا ان الزعماء الاقوياء في بيروت هم موضوع تنافس فعلي في ما بينهم، بحيث يكون في وسع اي منهم تهديد زعامة الآخر. بل لعلّ هذا التنافس أوجد عاملاً اضافياً لتأكيد زعامة الوجوه الدائمة في بيروت، من غير ان يُدفَع احدها الى شفير الهاوية. ففي انتخابات العام 1943 تنافست لائحتان، أولى ترأسها سامي الصلح، وثانية جمعت صائب سلام وعبدالله اليافي وفاز الثلاثة معاً. في انتخابات العام 1947 ضمت لائحة واحدة قوية ومكتملة عبدالله اليافي وسامي الصلح وحسين العويني، وفاز الثلاثة. في انتخابات العام 1951 جمعت لائحة واحدة قوية ومكتملة سامي الصلح وعبدالله اليافي وصائب سلام وفازوا معاً. ليتفرقوا بعد ذلك على دوائر انتخابية فردية صغيرة في عهد كميل شمعون، بفعل تشتيته بيروت التي كانت بدءاً من العام 1943 حتى 1951 دائرة انتخابية واحدة. مع ذلك لم يكن السهل تخطي حجم الخلافات بين الزعماء البيروتيين، خصوصاً في حقبة الخمسينات بين سامي الصلح رجل عهد كميل شمعون وصائب سلام الرجل القوي في معارضة هذا العهد الى الحد الذي جعل صائب سلام يُحجم عن الترشح لانتخابات العام 1953 ويسقط في انتخابات العام 1957 بفعل دور كبير مارسه ضده رئيس الجمهورية سنتذاك.
لذا يصح التأكيد القاطع بأن زعامة بيروت كانت معقودة اللواء على تنافس او على تحالف بين البيوت الثلاثة سلام والصلح واليافي، ونادراً ما شكل احدها خطراً انتخابياً على الآخر. الا انهم تنازعوا على الزعامة السنّية في بيروت التي كانت تتطلب من كل منهم الوصول الى رئاسة الحكومة. وكان مثل هذا التلاقي يحصل في ظل بيروت دائرة انتخابية واحدة، ثم ينتفي في ظل دائرة انتخابية فردية، ثم يُعدَم تماماً في ظل ثلاث دوائر انتخابية لبيروت احداها سنّية متروكة لسطوة صائب سلام عليها، وأخرى شيعية هي الثانية أضحى يترشح عنها سامي الصلح، بل راح كل منهما يواجه قَدَرَ تصغير زعامته بعدما صارت على جزء من بيروت وعلى جزء من السكان الموزعين في قانون انتخاب 26 نيسان ابريل 1960 على دوائر انتخابية ثلاثاً، وان يكن بفعل الممارسة والمبادرة يعتقد انه معني بالعلاقات السياسية والاتصال بالناس على انه زعيم كل بيروت. في الدائرة الثالثة صار التنافس بين صائب سلام وعبدالله اليافي، وفي الدائرة الثانية بين سامي الصلح وعدنان الحكيم المؤيد لعهد فؤاد شهاب في مواجهة خصمه الشمعوني.
وهو ما يبدو ان بيروت ستقبل عليه في انتخابات صيف 2000 بين سليم الحص ورفيق الحريري اللذين تنازعا على زعامتها في انتخابات العام 1996 في ظل دائرة انتخابية واحدة. على انهما على اهبة خوض تجربة مماثلة لسابقة صائب سلام وسامي الصلح في الستينات، بترشح كل منهما في دائرة انتخابية مستقلة عن الآخر، لا يهدده فيها الآخر، بل يضمن سلفاً الفوز فيها. ليتقاسما بذلك بيروت انتخابياً، ومعهما هذه المرة شريك ثالث في دائرة انتخابية ثالثة هو تمام سلام. الا ان اياً من الثلاثة لا يتصرف على اساس زعامته على ثلث بيروت، بل عليها كلها. وهو المغزى الفعلي للصراع القائم حالياً بين رئيس الحكومة وسلفه. فكلاهما يعتقد انه الوجه الشرعي للتمثيل الشعبي البيروتي، وكلاهما يستمد اعتقاده هذا من نتائج انتخابات العام 1996، وكلاهما يعتقد أيضاً انه من خلال الموقع الذي يشغله الآن يقود معركة شعبيته في العاصمة: سليم الحص في رئاسة الحكومة، ورفيق الحريري في المعارضة، أي خلافاً لما قابلاه في انتخابات 1996.
إلا أن ثمة ما هو مغاير في نزاع سليم الحص ورفيق الحريري على زعامة بيروت. سليم الحص بيروتي سنّي من زقاق البلاط، الحي الشيعي المكتظ الذي يشكل جزءاً من الدائرة الانتخابية الثالثة لاستحقاق صيف 2000، ولذا فهو سيترشح عن هذه الدائرة على رأس لائحة، فيما رفيق الحريري صيداوي الاصل وبيروتي حديثاً قبل فترة وجيزة من انتخابات العام 1996، عندما انتقل بقيده الشخصي من صيدا الى بيروت ليترشح سنتذاك للنيابة عنها بلوغاً الى زعامة بيروت التي اوصلته اليها فعلاً تلك الانتخابات بفوز 14 مرشحاً من مجموع اعضاء لائحته ال17، بينهم اربعة نواب سنّة، والفائزان الآخران كانا سليم الحص لم يفز من لائحته سوى محمد يوسف بيضون والمرشح المنفرد تمام سلام. وعلى رغم فوز ثلاث قوى سنّية آنذاك، هم رفيق الحريري رئيساً لحكومة تلك الانتخابات وسليم الحص وتمام سلام، الا ان تقاسم زعامة بيروت اقتصر على الرجلين وحدهما تقريباً، لمجرد اطلالتهما على انتخابات العام 1996 بمظهر المواجهة الحتمية، الحسنة الاتقان في الأداء بفضل تدخل سوري مباشر اوجب على لائحتيهما الا تكونا مقفلتين بالنسبة الى المقاعد السنّية الستة: خمسة مرشحين سنّة في لائحة الحريري، وأربعة مرشحين سنّة في لائحة الحص. وقد عنى ذلك ان الرئيس السابق للحكومة افسح المجال امام الحص للفوز، وأن الرئيس الحالي للحكومة افسح المجال امام الحريري وسلام للفوز.
وهذا ما اظهرته رعاية دمشق، خصوصاً نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، للتنافس بينهما، بحيث لا يخسر الاثنان. على ان تكون اللعبة الانتخابية مفتوحة على كل احتمالاتها في ما يتصل بالفرص المتاحة لفوز المرشحين الباقين في لائحتيهما. ومع ذلك كانت كل مصادر قوة الحريري تكمن تحديداً في وجوده في رئاسة الحكومة والامكانات الكبيرة التي وفرها له هذا المنصب، وفي ضخامة الآلة الانتخابية التي جنّدها لإدارة حملته وفي ثروته الطائلة.
وفي المقابل كان الحص يخوض معركة مواجهة لائحة المعارضة للائحة السلطة في ظل امكانات غير متكافئة تماماً. وهي المعركة نفسها - وتحت الشعار نفسه - التي خاض بها انتخابات 1992 في مواجهة لائحة السلطة آنذاك التي ترأسها رئيس حكومة تلك الانتخابات رشيد الصلح، ولم يفز منها إلا هو وبشارة مرهج مع الأخذ في الاعتبار فوز النواب الأرمن الذين يكونون حيث اللائحة الرسمية. اما المفارقة المثيرة، فهي فوز الحص في انتخابات العام 1996 بالحصة نفسها التي فاز بها خصمه ومنافسه وقتذاك رشيد الصلح في انتخابات العام 1992، وكلاهما في موقع الضد للآخر. الا ان الحص استمد نجاحه الفعلي في انتخابات العام 1992 من وقع السمعة السياسية التي خبرها معه الشارع السنّي البيروتي في رئاسة الحكومة وفي الوزارة 1976 - 1990، في ظل فراغ سياسي ضخم يعانيه الشارع السنّي البيروتي.
والواضح من ذلك كله ان تنافس سليم الحص ورفيق الحريري، على ما كان في انتخابات العام 1996 في ظل رعاية سورية لمساره، سيكون كذلك هذه المرة، وفي ظل رعاية سورية لمساره أيضاً، وأن تبدو ظاهرة وطأة المنافسة وانعدام الود بين الحريري ورئيس الجمهورية باعتبار انهما يعبّران عن اعتقاد مغاير، إذ لمجرد ان يستقل كل منهما بدائرة انتخابية تكون حكراً عليه وحده، يعني ذلك نزع فتائل المواجهة بينهما وجهاً لوجه خلافاً لانتخابات العام 1996 في نطاق محافظة بيروت التي كانت دائرة انتخابية واحدة. وذلك يشير، في المقابل، إلى ترك كل منهما يخوض انتخاباته في دائرة طبقاً لمشيئته، من دون اغفال مقدرة كل منهما كذلك في دائرته الانتخابية المستقلة على الاستفراد بمرشحي خصمه في حال خاض الخصم معركة انتخابية اخرى وموازية بمرشحيه في دائرة ندّه. ولذا فإن اهمية معركة انتخابات 2000 على زعامة بيروت تكمن في تشتيت هذه الزعامة على ثلاث دوائر انتخابية، ومن خلالها على ثلاثة زعماء، هم رفيق الحريري في الدائرة الاولى المزرعة - الأشرفية - الصيفي، تمام سلام في الدائرة الثانية المصيطبة - الرميل - الباشورة، سليم الحص في الدائرة الثالثة رأس بيروت - زقاق البلاط - المدوّر - ميناء الحصن - المرفأ - عين المريسة.
لكن الصراع بين الحص والحريري ليس مطابقاً تماماً في حدّته للمعادلة التي عرفها لبنان مرتين في مساره السياسي، المرتبطة ب"تخوين" المعارضة للموالاة. المعادلة التي اتاحت في الخمسينات وصف سامي الصلح، رجل عهد كميل شمعون، بالخارج على طائفته ومصالحها مختاراً عليها البقاء في الحكم، والمعادلة التي اتاحت في الثمانينات نعت شفيق الوزان بالتهمة نفسها بفعل التزامه التضامن مع عهد أمين الجميل، مما اوجد مناخاً بالغ العداء من حوله في الشارع السنّي البيروتي. في المقابل كان يتحلق هذا الشارع حول الشخصية السنّية المعارضة لسامي الصلح، شأن صائب سلام في بيروت في معرض ادانته خصمه الذي جارى شمعون في كل خيارات سياسته الداخلية في مواجهة المعارضة والخارجية مناوأة جمال عبدالناصر وتأييد انضمام لبنان الى الاحلاف الغربية. علماً ان الوزان، على وفرة الحملات التي تعرض لها من زعامات وقيادات غير سنّية خصوصاً كالانتقادات العنيفة التي وجهها اليها حليفا دمشق القويان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس حركة "أمل" نبيه بري وهي حملات موجهة أساساً ضد أمين الجميل، ظل يتمتع الى حد بعيد بمظلة دعم صائب سلام له قبل انسحابه من الحياة السياسية وسفره الى جنيف التي اختارها منفى اختيارياً منذ العام 1984. وهي السنة نفسها التي أُرغِم فيها شفيق الوزان على استقالة حكومته ليعيش منذ ذلك الحين حتى وفاته السنة الماضية 1999 في عزلة قاسية، محاصراً بالشكوك والاتهامات.
لم يوجه التخوين في هذا الصراع بين سليم الحص ورفيق الحريري لأسباب مهمة تتصل اساساً برئيس الجمهورية إميل لحود، خلافاً لما كان عليه سلفه كميل شمعون قبل نحو اربعة عقود. ذلك ان التخوين استهدف شمعون عبر اداة انتخابية في الشارع السنّي البيروتي هو سامي الصلح في حينه، وكانت حمأة الحملات على رئيس الجمهورية تتجاوز احياناً هذا السقف، لتطاول رئيس الجمهورية على المستوى الشخصي. الا ان تخطي هذه العتبة على نحو مماثل بإزاء إميل لحود ظل يصطدم هذه الايام بجدار سوري سميك، هو ابلاغ دمشق حلفاءها جميعاً ودونما استثناء، منذ بدء العهد الحالي، انها لن تتساهل حيال اي تعرض شخصي يطاول حليفها وخيارها في رئاسة الجمهورية اللبنانية لحود. ولذا بدا جلياً اكتفاء حملات المعارضة بانتقاد سليم الحص، دون التوسع إلى ما هو أكثر من ذلك. على الاقل من دون التوسع في أي محاولة من شأنها الدفع في اتجاه ارغامه على التقدم باستقالة حكومته.
مثل هذا الضمان أبقى الخلاف الحاد بين سليم الحص ورفيق الحريري عند العتبة الدنيا في المواجهة الديموقراطية داخل مجلس النواب وخارجه. هي عتبة الانتقال بهذا الخلاف من استحالة اطاحته الحكومة ورئيسها لئلا يبدو إميل لحود بالذات وعهده هما المعنيان بها الى قلب الشارع السنّي البيروتي وتأليبه، بل تحريضه، وجعل نزاعهما على زعامة بيروت، وعلى الزعامة السنّية في بيروت، جزءاً من نزاع آخر على السلطة والحكم. وهو ثمن صراع البقاء السياسي الذي تظل تكفله دمشق لهما معاً قبل انتخابات العام 2000 وبعدها، على غرار ما حصل قبلاً


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.