بعد صائب سلام 21 كانون الثاني / يناير 2000، يغيب ريمون إده "العميد"، آخر الرموز الكبار من لبنان القديم. وكصائب سلام صديقه القديم أيضاً في معظم محطات لبنان القديم بدءاً من اسقاط بشارة الخوري، مروراً بمناوئة كميل شمعون، فمعارضة فؤاد شهاب والشهابية، ثم تقويض الشهابية مع انتخاب سليمان فرنجيه، ذهاباً الى معارضة الرئيس الزغرتاوي ابان "حرب السنتين" والمناداة بخروج الجيش السوري من لبنان آنذاك... كصائب سلام الذي اختار العزلة الشخصية منذ منتصف الثمانينات، اختار ريمون إده منفى اختيارياً له هو باريس على رغم ان دوافعه كانت قسرية. فالرجل الذي تعرّض لتسع محاولات اغتيال، ترك لبنان بعد المحاولتين الاخيرتين 11 تشرين الثاني / نوفمبر 1976 و11 كانون الاول / ديسمبر 1976، وقصد العاصمة الفرنسية 4 كانون الثاني 1977 بعدما أنبأه الرئيس أنور السادات في أثناء زيارته لمصر بأن اسمه مُدرج في لائحة تشمل شخصيات لبنانية مهددة بالاغتيال. وهي اللائحة نفسها التي كان ابرزها له في بيروت قبل ايام قليلة كمال جنبلاط، وورد فيها اسماهما. في 16 آذار مارس 1977 اغتيل كمال جنبلاط. يومذاك كان ريمون إده في باريس، مقيماً في غرفة في فندق حتى وفاته 10 أيار / مايو 2000. لم يكن ريمون إده في لبنان القديم من رعيل الاستقلال شأن بشارة الخوري وكميل شمعون وعبدالحميد كرامي وصبري حمادة وصائب سلام ورياض الصلح. على أنه أضحى في صلب الحياة السياسية الوطنية منذ منتصف الخمسينات حتى منتصف السبعينات، ليصير بعد ذلك، من خارج لبنان، رمزاً رافضاً لكل ما كان يجري في البلاد. في حقبة الاستقلال عمل في كنف والده إميل إده حتى وفاته 27 أيلول / سبتمبر 1949 ليرئس من بعده حزب الكتلة الوطنية اللبنانية. في السنوات القليلة التالية بدا ان الدور السياسي يضطلع به شقيقه بيار إده الى ان انتخب ريمون إده نائباً للمرة الأولى العام 1953، ليلبث في مقعد قضاء جبيل حتى العام 1992، دونما انقطاع سوى لسنة واحدة فقط، هي انتخابات 1964 عندما اسقطه الشهابيون وأحلوا مكانه أنطون سعيد الذي توفي في السنة التالية، فعاد ريمون إده الى البرلمان في انتخاب فرعي العام 1965. مع ذلك كان الرجل شريكاً في أخطر الائتلافات السياسية اللبنانية وأكبرها أثراً - وإن بتفاوت محدود - في تاريخ لبنان الحديث. اشترك وشقيقه بيار في "الجبهة الاشتراكية الوطنية" 1951 بالتعاون مع كميل شمعون وكمال جنبلاط وغسان تويني وإميل البستاني وآخرين، فأرغمت في سابقة لا مثيل لها في البلاد ولم تتكرر لاحقاً رئيس الجمهورية على الاستقالة من منصبه 18 أيلول 1952. واشترك مع كميل شمعون وبيار الجميل في "الحلف الثلاثي" 1967 الذي قاد في السنة التالية معركة اسقاط الشهابية اولاً في انتخابات 1968 في دوائر اقضية جبل لبنان خصوصاً في كسروان مسقط رأس فؤاد شهاب، ثم قاد بعد سنتين 1970 معركة اسقاط الشهابية في انتخابات رئاسة الجمهورية مع فوز سليمان فرنجية بفارق صوت واحد على المرشح الشهابي الياس سركيس 17 آب / أغسطس 1970. واشترك مع صائب سلام ورشيد كرامي وعبدالله اليافي ورشيد الصلح وأحمد الداعوق ونواب من بينهم مخايل ضاهر وألبير منصور وحسن الرفاعي في "جبهة الاتحاد الوطني" 11 تموز / يوليو 1976 التي طالبت بانسحاب الجيش السوري من كل الاراضي اللبنانية، وبالعمل للحؤول دون تقسيم لبنان او تجزئته او التنازل عن اي قسم من اراضيه. وسرعان ما بات الوحيد المتمسك بهذا الموقف بعد تفرّق رفاقه في "الجبهة" وتأييدهم لاحقاً وجود الجيش السوري في لبنان. وحتى اليوم الاخير من حياته ظل ريمون إده قابضاً على هذا الموقف من دون تراجع، ليقول تكراراً ان على سورية مغادرة الاراضي اللبنانية بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوب. بيد ان شراكته في هذه الكتل لم تفقده مرة مقدرته على المجازفة في بناء علاقات غير مستقرة على الدوام مع رؤساء الجمهورية المتعاقبين. لم يكن من النواب الذين انتخبوا كميل شمعون رئيساً 1952 بسبب فشله في انتخابات 1951 - وإن يكن صوّت له شقيقه بيار - الا انه سرعان ما اصطدم به وانضم الى الائتلاف الواسع الذي طالب باستقالته عام 1957. وبعد سنة ترشح ضد فؤاد شهاب في الانتخابات الرئاسية بغية الا يفضي اتفاق الاميركيين مع الرئيس جمال عبدالناصر على فؤاد شهاب الى انتخابه رئيساً بالاجماع. في جلسة 31 تموز 1958 بعد فوز شهاب هنأه ريمون إده بمنصبه قائلاً: "... اذا كنتُ قد استمررت في ترشيحي حتى آخر ساعة، فلأنني أريد ان أحافظ على المبادئ الديموقراطية وعلى النظام البرلماني في هذا البلد، فلا يُقال ان هذا الانتخاب قد صار في ظل الاسطول السادس". الا ان العبارة الاخيرة شطبت من محضر الجلسة. يومذاك حال ريمون إده دون انتخاب فؤاد شهاب من الدورة الاولى للاقتراع بغالبية ثلثي اصوات النواب. ثم أضحى وزيراً للداخلية للمرة الاولى في الحكومة الرباعية التي جمعته ورئيسها رشيد كرامي وبيار الجميل وحسين العويني 13 تشرين الاول / أكتوبر 1958 ثم لا يلبث ان يستقيل منها بعد اقل من سنة 7 تشرين الاول 1959 ويدخل في مواجهة مع عهد فؤاد شهاب والشهابية التي وضعها في منزلة واحدة مع ما سماه لاحقاً "الاخطار الثلاثة التي تهدد لبنان: الشهابية، الشيوعية، الصهيونية". على ان تجربة الحكومة الرباعية ستحمل ريمون إده على تكرار المحاولة 20 تشرين الاول 1968 مع حكومة عبدالله اليافي التي ضمّته وبيار الجميل وحسين العويني. ثم لا تلبث ان تنفجر هذه الحكومة على اثر عملية عسكرية نفذها مظليون اسرائيليون في مطار بيروت 28 كانون الاول 1968 ونسفهم 13 طائرة لبنانية من غير ان يلقوا مقاومة، بفعل انتقاد ريمون إده الحكومة لعدم مواجهة الاسرائيليين. ومع ان ريمون إده لم يُوزّر الا ثلاث مرات 1958 و1968 و1969، الاولى في عهد فؤاد شهاب والاثنتان الاخريان في عهد شارل حلو، الا انه غالباً ما وجد نفسه حاضراً في اكثر من حكومة عبر شقيقه بيار 1955 و1968، وعضوي حزبه ادوار حنين 1961 و1964 و1966 و1968 و1972 وإميل روحانا صقر 1973 مرتان. كان التمثيل للرجل كما لحزبه. وقد لا يكون من باب المغالاة التأكيد ان ريمون إده حاول اقران اسمه بالحزب، حزب الكتلة الوطنية، اكثر من اقرانه حزبه باسمه. اذ لسنوات طويلة كان اسم إميل إده اكبر من اسم الكتلة الوطنية التي كان لها نواب من طوائف عدة في برلمانات متعاقبة، خصوصاً منذ العام 1937، بعد سنة على انتخاب إميل إده رئيساً للجمهورية، خاضوا منافسة قاسية مع الكتلة الدستورية بزعامة بشارة الخوري. ولسنوات طويلة حرص ريمون إده على التعاطي مع حزبه على انه مؤسسة تاريخية، خلافاً لواقع كميل شمعون الذي ظل اسمه اكبر من حزبه، حزب الوطنيين الاحرار. ولهذا بدا ريمون إده متمسكاً، منذ انتخابات 1960، بخوض دوراتها باسم الكتلة الوطنية وبمرشحيها في جبيل وكسروان وبعبدا. في جبيل كان السيد، وفي كسروان زاحم عائلاتها وحزب الكتائب، وفي بعبدا نافس حزبي الكتائب والوطنيين الاحرار. يترشحون باسم الحزب ويلتزمون قراراته. ولعل أقسى اختبار كان في انتخابات الرئاسة العام 1970 بإخضاع نواب الحزب لقرار قيادته التصويت لسليمان فرنجيه. العام 1992 طرد سايد عقل من الحزب لتمرده على قرار الحزب مقاطعة انتخابات تلك السنة. ثم فعل الامر نفسه مع جان حواط في انتخابات 1996. وفي الواقع لم يكن "العميد" متساهلاً مرة في تأكيد امساكه بقوة بهذا الحزب التاريخي الذي بدأ في الثلاثينات كتلة برلمانية ثم صار حزباً سياسياً: هو في مكان وزعيمه في مكان. صلة الوصل بينهما منذ العام 1976 مكالمات هاتفية يومية و"الفاكس". مع ذلك لم ينقسم، ولا نخزته كحزب الكتائب الحرب ونتائجها، ولا انقلب على زعيمه او شكك في شرعيته، ولا توزع ولاءات. بل لعل سر الاسرار في العلاقة بين الحزب وعميده وجود شيء من النزاهة، ان لم يكن التسليم بسر "العميد". والواقع منذ ترشحه للمرة الاولى 1958 لانتخابات رئاسة الجمهورية، كان ريمون إده يتصرف على انه رئيس محتمل في كل انتخابات مقبلة، من غير تخليه عن القيم التي رافقته حتى تقدمه في السن: صورة رئيس الدولة النزيه، النظيف الكف، الشجاع، الديموقراطي، رجل القانون وصاحب المقدرة على فرض تطبيقه. وفي كل مرة كان يفقد فرصة الفوز بهذا المنصب. العام 1970 أبعده عنه شريكاه في "الحلف الثلاثي" كميل شمعون وبيار الجميل اللذان رغبا في الترشح فآل خلاف الثلاثة مع تضاؤل حظوظ نجاح اي منهم تبعاً لتقديرات جوزف سكاف الى انتخاب سليمان فرنجيه فصوّتوا له. العام 1976 رشح الاميركيون والسوريون الياس سركيس بعد محاولة امتحان من الموفد الاميركي آنذاك دين براون لريمون إده وانتزاع موافقته على بقاء الجيش السوري في لبنان لقاء فوزه بالرئاسة، فرفض وضاعت الفرصة مجدداً. العام 1982، ومن غير ان يترشح، نال صوتاً واحداً هو صوت نائب كتلته في البرلمان إميل روحانا صقر، فآلت الرئاسة الى بشير الجميل ومن بعده الى شقيقه أمين. العام 1988 بدا ان ثمة حظوظاً لريمون إده سرعان ما انهارت مع الفراغ الدستوري اثر انتهاء ولاية أمين الجميل من غير انتخاب خلف له. آنذاك روجع ريمون إده في ترشحه. لم يتردد، بيد انه وضع شروطاً: انتخابه في بيروت وهو في باريس ما دام الدستور لا يتطلب ترشيحاً مسبقاً على ان يجول في غضون اسبوعين على الدول الخمس الاعضاء في مجلس الامن والفاتيكان لطلب مساعدتها على اخراج اسرائيل من جنوبلبنان، فإذا نجح يتسلم المنصب والا يستقيل. قيل في هذا الشرط ان ريمون إده لا يريد ان يكون رئيساً. وفي معظم المرات كان مصدر عقبات وصوله الى الرئاسة الزعماء الموارنة بالذات. من ذلك حملاته الدائمة على هؤلاء خصوصاً كميل شمعون وبيار الجميل، ومن ذلك ايضاً بناؤه صداقات سياسية متينة مع كمال جنبلاط ورشيد كرامي وصائب سلام. روى كاظم الخليل عراب "الحلف الثلاثي" جوانب من مراحل جمع كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده: "ان صعوبة تسوية الخلافات القائمة بين الزعامات المسيحية لا تقل عما هي عليه بين الزعامات المسلمة ان لم تكن اكثر منها. فالعداء المتأصل بين ريمون إده والشيخ بيار الجميل لا نظير له بين اي زعيمين مسلمين. كذلك عدم الود الطافح بين شمعون والجميل وإده مشابه كل الشبه لما بين الزعماء المسلمين ... كان شمعون يقول لي دائماً: عم تضيّع وقتك. وريمون إده كان يقول ايضاً هذه طبخة بحص ما رح تستوي. والاقل كفراً بين الثلاثة هو الشيخ بيار، لكنه مثلهما لم يكن مؤمناً بإمكان استمرار الحلف معاً. ولما أدركوا ان مصلحتهم الشخصية والمصلحة العامة في البلد قد تأمنت في الحلف مشوا فيه ودعسوا. والدليل ان إده كان بأتي بنائبين او ثلاثة معه، مع الحلف اخذ سبعة، وهذا ما لم يفعله في حياته. بعد انفراط الحلف لم يستطع ان يأتي بأكثر من نائبين في الانتخابات التالية. الحلف أتى لشمعون ب16 نائباً ولحزب الكتائب بتسعة نواب للمرة الاولى في تاريخه ...". حتى مع الموارنة الجدد الوارثين لم يكن اقل عداء: مع أمين الجميل، ثم مع ميشال عون. ومع سمير جعجع والياس حبيقة. خصومته لمجايليه القدامى عدائية حتى العظم لكن مع احترام كبير. وخصومته للوارثين لا يجردها من عبارات احتقار، خصوصاً سمير جعجع والياس حبيقة، اما ميشال عون فمتهور على رغم دعم ريمون إده له في الايام الاولى من ترؤس القائد السابق للجيش حكومة عسكرية انتقالية اعترف العميد بشرعيتها ثم عارضه بشراسة عندما ادخل البلاد في "حرب التحرير" 1989 ثم في حربه مع "القوات اللبنانية". وقَبِل ريمون إده بحل مجلس النواب عشية انتخاب رينه معوض رئيساً 5 تشرين الثاني 1989 واعتبر نفسه نائباً سابقاً، قبل ان ينقلب على ميشال عون ويرفض عشرات المحاولات في العقد الاخير الاجتماع به وبأمين الجميل، بل رفض مجرد مفاتحته بموضوع مصالحة مسيحية - مسيحية. لكن الرجل ظل دائماً لصيق احترام كبير ببطريرك الموارنة. في 23 عاماً من اقامته الدائمة في باريس، نشأ في لبنان جيلان على الاقل لا يعرفان ريمون إده، لكنهما يسمعان به. لا ينقطع عن الادلاء بتصريحات من العاصمة الفرنسية على ندرة اطلالاته المتلفزة. الجيلان اللذان نميا في الحرب وفي حقبة ما بعد الطائف يسمعان بعداء ريمون إده للرمزين المارونيين الكبيرين كميل شمعون وبيار الجميل وبتحميله اياهما جزءاً اساسياً من الحرب الاهلية وممارسات الميليشيات وبتأييدهما دخول الجيش السوري الى لبنان ثم معاداته والتحالف مع اسرائيل وبجر المسيحيين الى اخطار تهدد بقاءهم السياسي. لكنهما سمعا ريمون إده ايضاً يطلب الى المسيحيين بعد اتفاق الطائف مقاطعة انتخابات 1992، ثم يؤيد باكراً التمديد للرئيس الياس الهراوي، ثم رفضه المشاركة في انتخابات 1996 بموقف اقل تشدداً من انتخابات 1992 التي أوصلت في رأيه الى برلمان غير شرعي في ظل الاحتلال الاسرائيلي والوجود العسكري السوري. لكن هذين الجيلين لا يعرفان ريمون إده، النائب الوحيد الذي صوت ضد "اتفاق القاهرة" 1969، وكان اول المنادين بدعوة "القبعات الزرق" القوات الدولية للانتشار في جنوبلبنان منذ مطلع الستينات خشية ان تحتله اسرائيل، وأول المحذرين من اطماع اسرائيل في المياه اللبنانية. ولا يعرف هذان الجيلان على الاقل ان الرجل هو الذي وضع قوانين الابنية الفخمة والسرية المصرفية والاثراء غير المشروع في عهد كميل شمعون، واعدام القاتل والغاء الضريبة التصاعدية عن الاراضي الزراعية والحساب المشترك في عهد فؤاد شهاب، وتمكين المحامي من الحضور مع موكله امام المحقق العسكري في عهد سليمان فرنجيه. بل ما يسمعه فعلاً هذان الجيلان ان ريمون إده هو من طينة رجال لم يأت بمثلهم اتفاق الطائف، ان لم يكن قد اتى بنقيضهم الحاد تماماً