اليونان الجديدة والهوية أيضاً اخيراً تم قبول اليونان في الاتحاد النقدي الاوروبي فصارت العضو الثاني عشر. الخطوة التي عُدّت قفزة في اتجاه تحديث البلد الاوروبي الافقر بين اعضاء الاتحاد الحاليين، اعتُبرت انتصاراً لسياسات رئيس الحكومة الحالي كوستاس سيميتس. وهي يُفترض ان تنعكس سريعاً على الاقتصاد الوطني: نسب فوائد أدنى واستقرار في الاسعار على المدى الطويل، ونمو اقتصادي اسرع. هكذا لم يبق من بلدان الاتحاد الاوروبي خارج نظام "اليورو" الا بريطانيا والسويد والدنمارك، والاخيرة يُفترض ان تجري استفتاء حول الموضوع في ايلول سبتمبر المقبل، فيما يتحول الموضوع في بريطانيا الى قضية تشقّ السياسة والرأي العام، بما في ذلك حزب العمال الحاكم. اما بالنسبة الى اليونان تحديداً، فتذهب التحليلات الى ان الاقتصاد الوطني نجح في الاقلاع بقيادة سيميتس، والاقتراب من المعايير السائدة في باقي اوروبا. والجدير بالذكر ان اثينا كانت قد سعت الى الانضمام الى "اليورو" في ايار مايو 1998، حين تم انضمام الدول الاحدى عشرة الأُول، غير انها فشلت يومذاك. وخلال الفترة الفاصلة استطاعت ان تحدّ من التضخم والعجز العام والديون بحيث تستجيب الشروط المطروحة. لكن النجاح على الجبهة الاقتصادية قد يولّد توتراً غير مسبوق منذ الحرب الاهلية على جبهتي الثقافة والهوية. فقد لوحظ في السنوات الخيرة، وفي موازاة تعاظم "الأوْرَبَة" ان بطريركية الروم الارثوذكس في اليونان تتحرك بنشاط تعبوي ملحوظ. فهي لا تكفّ عن قرع نواقيس الخطر، بمناسبة وبغير مناسبة، ضد "تمييع هويتنا الدينية والوطنية والثقافية" وضد "تهديد الطابع الارثوذكسي والقومي الخاص باليونان". والمعروف ان الكنيسة اليونانية بالغة القوة والتأثير في بلد مشهور بقطاعه الزراعي المؤمن. وقد سبق لها ان لعبت ابان الحرب الباردة الدور نفسه الذي لعبته الكنيسة الكاثوليكية الاسبانية في الحرب الباردة في بلدها داعمةً القوى الملكية والمحافظة. ويتخوّف غلاة المؤمنين اليونان اليوم من مرحلة الانتقال نحو الاوروبية بحيث يؤدي التلاحم السياحي والثقافي مع القارة الى "الاساءة الى الاخلاق واضعاف الشعور الديني والقومي"، فضلاً عن تزايد اصوات المثقفين والمبدعين ممن يتحدثون عن "تعددية ثقافية وحضارية" لن تستسلم الكنيسة بسهولة الى دعواتها. المؤسسة الطبية أم القيم الاجتماعية؟ منذ افتضاح قصة، بل قصص، الدكتور هارولد شيبمان، والبريطانيون يناقشون اوضاع مؤسستهم الطبية. فشيبمان، الطبيب المحترم لسنوات طويلة في قرية هايد من اعمال مانشستر الكبرى تبيّن انه تسبّب في موت 15 امرأة من مرضاه. وهذا ما دفع الى سجنه وحذفه من السجل الطبي نظراً الى "اساءة استخدامه المهولة لثقة المرضى ولتحطيمه ثقة الجمهور بالاطباء". لكن ما ظهر ايضاً ان شيبمان ليس طائراً يغرّد خارج السرب، فقد "لمعت" فجأة اسماء اطباء بريطانيين كثيرين تسببوا في اهمال فادح ادى الى موت اطفال او نساء. وابرز هؤلاء جون رويلانس وجيمس ويشرت وجيمس ايلوود وريتشارد نيل ورودني ليدورد. هؤلاء لم يصلوا، في ما ارتكبوه الى ما فعله شيبمان. ويبدو ان الاهمال لا القصد المسبوق هو ما حكم اعمالهم. مع هذا فالحالات المذكورة بدأت تلحّ على طرح سؤال مُقلق: أليس ما يحصل من نتائج ضعف الروابط الاجتماعية في المجتمعات الحديثة ومن ثم تردي الحس بالمسؤولية العامة؟ المؤكد ان الموضوع انتقل من عهدة الاطباء الى عهدة السوسيولوجيين. عن العمالة المهاجرة كارثة دوفر الاخيرة حيث قضى عشرات الصينيين وهم يحاولون دخول بريطانيا بصورة غير شرعية، ألهبت النقاش في سائر البلدان الغنية المستوردة للعمالة بقدر ما اطلقت المشاعر الحزينة في البلدان التي تصدرها. وابرز النقاط التي تناولتها الاراء والمساجلات: 1 - تفاهة الاقتصار على حجة المافيات المنظّمة التي تغرّر بالعمال المهاجرين، ليس لأن هذه المافيات غير موجودة وهي موجودة وناشطة حقاً بل لان التركيز عليها يلغي مواجهة الدول المعنية لمسؤوليتها. 2 - ان العالم الذي غدا متداخلاً اقتصادياً وثقافياً، يستحيل بعد اليوم ابقاؤه منفصلاً عن بعضه البعض في ما يتعلق بالبشر. وانه لا بد، بالتالي، من ايجاد قوانين اكثر انسانية واشد مواكبة لواقع الحال. 3 - ان من مصلحة اوروبا الغربية التي تتجه نحو الشيخوخة ان تجدد شبابها بالمهاجرين، والا اختلّت توازناتها السكانية، ومن ثم الاقتصادية وصار عدد المطلوب اعالتهم من المسنين اكبر بكثير من اعداد المنتجين. 4 - لكن ما العمل بالمشاعر القومية التي لا بد ان تنعكس رغباتها عبر صناديق الاقتراع على القرار السياسي… وهذا في زمن تتعاظم فيه ميول السياسيين الى تقديم "صورة" مقبولة ترضي الجميع؟! السجال الألماني مرة أخرى جدد منح احدى اهم الجوائز الادبية في المانيا للمؤرخ الذي حاول تبرير النازية وافعالها السجال الصاخب ضد الدوائر الرجعية في الحياة الثقافية الالمانية. فالمؤرخ ارنست نولته كان قد حاجج بأن لاسامية هتلر تستند الى ركيزة "عقلانية" وان النازية ليست، في العمق، الا ردّ فعل على البلشفية الروسية. وقد تسلّم نولته جائزة اديناور للادب بما سلّط الاضواء مجدداً على درجة الانشقاق في الحياة الفكرية لألمانيا. ويبدو ان المؤسسة التي تمنح الجائزة وهي "مؤسسة المانيا" للأعمال التي تساهم في صنع مستقبل افضل" هي موضوع الطعن الاساسي بدليل انها سبق ان منحت جائزتها للمستشار السابق هلموت كول من دون ان يُعرف بأي اسهام ادبي يُذكر. على اية حال اذا كانت حجة قيام النازية رداً على البلشفية مقبولة عموماً، الا ان من غير المقبول تبريرها ووقف تعريفها عند هذا الحد السببي. فكيف وان نولته اجاز لهتلر ما فعله بذريعة عدائه للبلشفية التي وجدت الكثير من التعاطف معها من اليهود! والمعروف عن نولته تعصبه القومي الذي جعله احد ابرز الرافضين لدعوات التعدد الثقافي والتوكيد على البعد الكوني للابداع، وكذلك احد ابرز الناطقين بلسان الكفّ عن "ابتزاز" المانيا بتاريخها. فرنسا والعولمة فرنسا زاهية اليوم. فهي نازلت الولاياتالمتحدة على ارضها، ارض العولمة، وغلبتها. والقصة ان مؤسسة "فيفانداي" الفرنسية اشترت شركة "سيغرام" وهي مجمّع كندي للترفيه والمشروبات، بقيمة 34 بليار دولار. هكذا، وكما يقول الفرنسيون باعتزاز، نشأ تجمع اعلامي واستهلاكي اوروبي يناهز ويضاهي اتحاد آي. او. ال وتايم وارنر.، ويملك استديوات ويصدر اسطوانات... الى ما هنالك. الخطوة عظيمة بالطبع، وهي تدلّ الى انخراط فرنسا ارادياً في العولمة التي لطالما تحفظت عنها وعن "اميركيتها". مع هذا جاءت الاستجابة من البورصة غير مشجعة بالمرة: فحال الاعلان عن الاندماج انخفضت قيمة اسهم فيفانداي بنسبة 32 في المئة. والخوف الذي املى هذا الانخفاض، وهو ما قد يتحول الى كارثة في حال استمراره، ان الثقة بقدرة الفرنسيين على ادارة مشروع اعلامي - ترفيهي كبير ليست قوية. وهذا ما صاغه معلّق اميركي غير مُعادٍ بالضرورة للمشروع قائلاً: "يُخشى ان يتولى الفرنسيون من خلال هذه الاداة الجديدة التي يمتلكونها اضجارنا بما هو مطوّل وقديم وربما بالأغاني التي هي قصائد عاطفية اكثر منها موسيقى". وهذا، اذا صحّ، لن يوفّر لهذا النشاط جمهوره التجاري المطلوب خصوصاً ان معظم مستهلكي هذه السلع من الشبان المراهقين. تحولات كرواتيا ربما كانت كرواتيا وسلوفينيا اكثر جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق تقدماً. الا انها، مع هذا، لم تكن متقدمة. كذلك لم ينقلها انهيار النظام الشيوعي الى الامام الا قليلاً. ذلك ان سنوات الحكم السلطوي لرئيسها الراحل فرانيو تودجمان كبحت طاقاتها وووضعت الكثير من العراقيل امام المبادرة الحرة لأفرادها ولمجتمعها على السواء. فكيف وان عهد تودجمان الذي دام قرابة عقد اطلق فساداً تأسس على درجة الولاء للزعيم ولخطه الايديولوجي القومي متسبباً في تراجع الاداء الاقتصادي على نحو ملحوظ. الآن تغيّرت اللوحة، فصادرات كرواتيا الى ارتقاء، فيما تهبط نسب الفائدة. والاهم ان الحرارة بدأت تدبّ في علاقة زغرب بسائر العواصم الاوروبية. وها هي حكومة يسار الوسط التي تحتفل بانقضاء اربعة اشهر عليها في السلطة، تتوقع قفزة في النمو الاقتصادي للعام المقبل من 2.5 الى 5 في المئة. فهي تنوي التركيز على برامج الخصخصة وتشجيع الاستثمار الاجنبي، فضلاً عن توقيع عدد من اتفاقات التجارة الحرة مع بلدان اوروبا الوسطى والشرقية بما يعزّز قطاع التصدير. والهدف الاستراتيجي لكرواتيا هو... الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. ولهذا فالحكومة مشغولة الآن في تفكيك قيود الماضي الشيوعي منه والقومي - التودجماني، واهمها القوانين التدخلية المعادية للاجانب. ولا تستطيع حكومة زغرب ان تتباطأ في انجاز سياستها فيما نسبة البطالة هي: 22 في المئة. لكن اذا كانت البطالة هي عنصر الالحاح على التغيير، فهي ايضاً سبب اعاقته: ذاك ان نسبتها المرتفعة تحدّ نطاق اعادة الهيكلة الصناعية، كما تضع سقفاً على محاولة التخلص من العجز الذي تئن تحته الموازنة.